post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<p>   تميز القرآن الكريم ببنية مفاهيمية نسقية متداخلة ومتكاملة. ومن المفاهيم التي حفل بها مفهوم العدل الذي ورد في مواضع عدة بصيغ مختلفة فعلية واسمية، وجعله الله تعالى مقصد إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ليقيموه في حياة الناس، ويبلغوا رسالات الله، فيكونوا بهذا الجمع قُدوة وإِسوة حسنة لرُوَّاد الدعوة والإصلاح في كل زمان ومكان.</p>
<p>   إنه لا قيمة لمشاريع التجديد والإصلاح على توالي الأزمان إن بَلَّغت الدعوة وغَفَلت عن العدلِ أمِّ المصالح والمقاصد والمطالب. وقد عني الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بهذا المفهوم القرآني في مشروعه التجديدي، فبسط الحديث عنه في مكتوباته، وأفرد له كتابا سماه &#8220;العدل، الإسلاميون والحكم&#8221;، وبوأه منزلة محورية ضمن المفاهيم الناظمة لمشروعه لأصالته المستمدة من الشرع وشرعيته الواقعية والاجتماعية والسياسية. فهل يُهِمُّ العدلُ الفردَ أم يمتد حضوره إلى الأسرة والمجتمع والدولة؟ وهل تحقيقه مطلب محلي أم مطلب عالمي يرتبط بالبشر جميعا بغض النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية والجغرافية&#8230;؟ وهل وجوده كفقْدِه بالنسبة للأفراد والأسر والشعوب؟</p>
<h2>العدل أمُّ المصالح</h2>
<p>   ليس العدل مسألة ثانوية في شريعة الإسلام، إقامته من عدمها سِيان، بل هو أمرٌ مُنتسِب لها انتسابا ومُلتصق بها التصاقا، له مكانة اعتبارية لارتباطه بالقِوام المادي لحياة الناس ومصالحهم في انسجام وثيق مع قيامهم لله استعدادا للقائه؛ ذلك أن &#8220;الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحٌ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها؛ وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمتُه الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها&#8221;[1]. فشريعة الإسلام عدلٌ، والعدلُ &#8220;أمُّ المصالح التي يقصد إليها الشرع. هو صلب الدين&#8221;[2] الممهد لحياة معاشية كريمة، وحياة معادية طيبة.</p>
<h2>العدل مطلب فردي</h2>
<p>   من أوجب الواجبات الشرعية السعي على العيال، فهو من لوازم الفطرة الإنسانية المغروزة في أرضية القلوب والنفوس الحافزة للأبوة والأمومة، وقد عدَّ الشرع الحنيف تضييع حقوقهم إثما في قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: &#8220;كَفَى بالمرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ&#8221;[3]، فالمؤمن مأمور بالتكسب للنفقة على الأهل، وقد شرط عليه الإسلام الاتصاف بالقوة والخبرة والكفاءة والإتقان والإخلاص والأمانة والوفاء، وتحري الحلال والتورع عن الحرام، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: &#8220;طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ&#8221;[4]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلَالِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ&#8221;[5]، وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ بِحَرَامٍ&#8221;[6]، فتَكَسُّبُ المؤمن وإطابةُ مطعمه عِفَّةٌ منه تَعصِمُه من عذاب الله، وشرفٌ له ورِفعةٌ تُحسِّن سُمعته وتُكسِبُه عِزَّة النفس، وتَعفُّفٌ عن ذُلِّ المسألة، وفَتْحٌ لباب الإنفاق الواجب وبذل الفضل المنِيلِ الأجر، والجالبِ الرزق، والمرقِّقِ القلب، والواقي من البخل والشُّحِّ، والمشِيع قيم العطاء والإحسان والتكافل والتضامن.   </p>
<h2>العدل مطلب أسري</h2>
<p>   إن العدل مطلب الفرد لتأمين معاشه، وبناء أسرته، والمشاركة في تنمية بلده وأمته، لكن دون تأهل الفرد لأداء هذه الوظائف مسؤولية الأب والأم أساسا في تكوين شخصية إيمانية متوازنة تُحْتَضَنُ وتُؤهَّلُ جسميا ونفسيا ودراسيا واجتماعيا، ذلك أن &#8220;موقعها الاجتماعي بصفتها أما مؤمنة يلزمها العملَ على تربية أطفالها نفسيا وعقليا وعمليا ليتأهلوا في مهنة الاندماج الاجتماعي، ومهنة الإنتاج الاقتصادي، ومهنة العضوية الفاعلة المؤثرة في الحياة&#8221;[7]، وذلك من صميم المهمة الدعوية للأمهات المؤمنات لكون &#8220;مستقبل أطفالهن الشخصي ونجاحهم في الحياة مرتبط ارتباطا عضويا بمهمتهن الدعوية[8]&#8221;، فنجاحهن في تأهيل الأبناء والبنات لقطع المسار الدراسي وولوج سوق الشغل يُسهِم في إعلاء شأن قيم العمل والكسب والكدح والمسؤولية، وتوجيه حب الامتلاك إلى طلب الحلال &#8220;وربط هذا الطلب الفردي بالهدف الاجتماعي الاقتصادي للأمة&#8221;[9] لتَنْشُط دورة الإنتاج وتُسرع الخطى عجلة الاقتصاد لتأمين حياة العفاف والكرامة والتقدم الكفيلة بفتح الأقفال الاجتماعية ومعالجة الأعطاب التنموية.</p>
<p>   إن نجاح الأسرة في تأهيل فلذات الأكباد للفاعلية الاجتماعية والاقتصادية رهين بنجاحها في تحقيق الاستقرار الأسري الذي يُعد من مُقوماته الضرورية العدل في عالم موَّار تهزه الأزمات الاقتصادية والجوائح والأوبئة بما تخلف من تداعيات وآثار على الاستقرار المهني والقدرة الشرائية، لا يخفف وطأتها إلا &#8220;تعاون المرأة والرجل المؤمنين على الصمود أمام الشدائد وعلى اقتحام العقبة بالعدل في الغُنْم والغُرم، وبالإحسان والبر والتسامح والإسعاف الحنون والمودة والرحمة&#8221;[10]، فبذلك تقوم العلاقات الأسرية على المكارمة لا المحاققة، والمخالقة لا المخاصمة، إذ &#8220;ملطف الحياة الزوجية الإحسان بعد العدل، الإحسان قبل العدل، الإحسان مع العدل&#8221;[11].</p>
<p>&nbsp;</p>
<p>[1]- ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق وتعليق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، القاهرة، مصر، ط 1، 1414هـ-1993م، 3/5.<br />[2]- عبد السلام ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 3، 2018م، ص 221.<br />[3]- أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في صلة، رقم: 1692، وابن حبان، كتاب الرضاع، باب النفقة، ذكر الزجر عن أن يضيع المرء من تلزمه نفقته من عياله، رقم: 4240.<br />[4]- أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم: 8610.<br />[5]- أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب من لم يبال من حيث كسب المال، رقم: 2059.<br />[6]- أخرجه أبو يعلى، مسند أبي بكر الصّدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رقم: 83، واللفظ له. والطبراني في الأوسط، رقم: 5961.<br />[7]- عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، 2/212.<br />[8]- المرجع نفسه، 2/212.<br />[9]- عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 93.<br />[10]- عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مرجع سابق، 1/185.<br />[11]- المرجع نفسه، 1/186.</p>


العدل أمُّ المصالح والمطالب 2/1

رسالة الإسلام أو الطوفان

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

الإيمان قبل الطوفان

التعليم في مشروع الإمام عبد السلام ياسين

السياسة والحكم

العدل أمُّ المصالح والمطالب 2/1

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الأطفال والشباب في سياق رقمي رؤية منهاجية

قواعد التفكير المنهاجي

كيف نجدد الصلة بالقرآن بعد رمضان؟

الصحبة النبوية اصطفاءٌ وارتقاءٌ

تذكير بأصول دعوة العدل والإحسان

العدل أمُّ المصالح والمطالب 2/2

مقالات ذات صلة