إسهام الأستاذ عبد السلام ياسين في بناء سياسية تعليمية وطنية:
تقديم
إن الحديث عن بناء الأنظمة التربوية والمناهج التعليمية ليس ترفا فكريا، أو تنظيرا تربويا يقف عند عتبة المبادئ التربوية والبيداغوجية، أو ينحصر في دراسة الأسس الفلسفية والتربوية والاجتماعية -والنفسية بوصفها ومرتكزات ضابطة لبناء المناهج- بل يتعدّى ذلك ليقف عند تجارب وجهود التأسيس وما أثمرته من مخرجات، برؤية موضوعية تستحضر سياق البناء، وجهود من كان لهم فضل التشييد، وما توفّر لهم من إمكانات، وما اعترضهم من إكراهات، فضلا عن النظر في طبيعة الجهود المبذولة والمساعي المشكورة لبناء الأنظمة التربوية والتعليمية.
إنّه نظر منهجي يزدوج فيه التنظير بالإعمال، يربطُ الفعل التربوي بالفاعل التربوي؛ وهو نظرٌ يجد مسوغه في أن بناء الأنظمة التربوية وتأهيلها لتكون خادمة للرسالة التربوية لأي أمة أو مجتمع هو ثمرة لجهود خبراء ومتخصصين، تتوفر فيهم الكفاءة العلمية التربوية، والرغبة الصادقة في تشييد صرح سياسة تعليمية ناجعة في الفكر والمنهج والتحصيل.
وقد ألمع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور- وهو العالم الُمعلّم- إلى أن سداد المناهج التربوية في أداء الأمانة وبناء الأجيال مشروط بإسهام عقلاء وخبرائها الأمة في بناء الأنظمة التربوية، قال:« إن التعليم هو مرتقى الأمة، والذي به رسم مستقبلها، وإذا لم يكن كل واحد من الأمة يعلم الخطة التي يجب تحديدها، أو ما عسى أن تشتمل عليه تلك الخطة من المضار الخفية، فمن الواجب تكليف عقلاء القوم وحكمائهم الذين يعتمدون في وضع أساليب التعليم، بترتيب كل ما يبلغ بالعلم والمتعلمين إلى الغاية المطلوبة في أقرب وقت، وعلى محجة موصلة.[1]
وعليه، فإن النظر في بناء الأنظمة التربوية والتعليمية وترسيمها، لا يستقيم دون استحضار جهود الرجال الذين كانت لهم الكلمة الأولى واليد الطولى في البناء التعليمي والتربوي. وبالاحتكام إلى هذا المبدأ في تقويم الدراسات التي عنيت بالبحث في تاريخ الأنظمة التربوية العربية إجمالا، والمغربية بوجه خاص، نلحظُ شبه ضمور للمبدأ في تحرير هذه القضايا؛ فلا تكاد تجد في أغلب البحوث والأدبيات التي اهتمت بالموضوع ذكرا للفاعلين التربويين الذين ضربوا بسهم وافر في بناء النظام التعليم للمغرب بعد الاستقلال.
فالمتأمل في الدراسات التربوية التي اهتمت بتوثيق تاريخ النظام التعليمي بالمغرب، يلحظ جنوح أهلها إلى الاهتمام برصد كرونولوجيا الإصلاحات منذ 1958، مرورا بواقع النظام التعليمي إبان فترة الاستقلال مع شبه ضمور لذكر الشخصيات العلمية والتربوية التي أسهمت في بناء المنظومة عقب اندحار الاستعمار، الذين أتوا بالمطلب العزيز في الوقت الوجيز، مع أن الشاهد التاريخي يشهد بأثر جهودهم، وجلاء بصمتهم الواضحة في التأثيث للمشهد التربوي وتشييد الإنجازات المشهودة؛ من هؤلاء الرجال نجد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى.
فلا أحد يماري في جهوده وإسهاماته في البناء التنظيم والهيكلي والبيداغوجي للمنظومة التعليمية بالمغرب؛ وقد أسعفه في ذلك رحمه الله، مساره التعليمي المتميز والمتنوع، وما راكمه من خبرة تربوية ومهنية متميزة. فقد زاول الأستاذ ياسين مهام الإشراف التربوي بمختلف الأسلاك التعليمية، وترأس إدارة مركز تكوين المعلين بمراكش، ومركز تكوين المفتشين بالرباط، وشارك رحمه الله في العديد من الدورات التدريبية في المجال التربوي والبيداغوجي داخل المغرب وخارجه (فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، لبنان ، تونس والجزائر…)، وانفتح على تجارب الدول في المجال، فتحصل له من ذلك خبرة تربوية مميزة بشهادة من عايشوا المرحلة وعاينوها من قريب أو بعيد، وأثمرت جهوده رحمه الله -إلى جانب إسهامات جيل التأسيس- لبنة أساس في بناء النظام التعليمي والتربوي بالمغرب عمّ خيرها الدول الحديثة العهد بالاستقلال.
وقد امتزجت الخبرة التربوية للأستاذ ياسين بالإدراك العميق لحجم التحديات الكبرى التي تواجه الأمة العربية والإسلامية عموما، والمغربية بوجه خاص، الماثلة أساسا في مغربة الأطر التربوية والتأسيس لنظام تعليمي، وترسيم مناهج ومقررات تستجيب لطبيعة المرحلة التأسيسية، وتتساوق مع مطلب البناء والإصلاح، لتثقيف الجسم التعليمي بعد ما أصابه من الوهن نتيجة للاغتراب التربوي، وازدواجية الأنظمة التعليمة والتربوية إبان الاستعمار وبعده.
والمتتبع لإسهامات الأستاذ ياسين رحمه الله، يستوقفه البعد النسقي الشمولي للمجالات الرئيسة الناظمة للفعل التعليمي والتربوي، حيث جمعت جهوده بين التنظير والإعمال، وبين التدريس والتأليف والتنسيق، فضلا عن التمثيل الدبلوماسي وتأهيل الكوادر البشرية لحمل رسالة التربية والتعليم.
وهكذا تعددت الواجهات التنظيمية والهيكلية والبيداغوجية التي أسهم فيها الأستاذ رحمه الله، تلبيةً للحاجات الوطنية المستعجلة في مجال التربية والتعليم بمختلف جوانبها وقضاياها، وهو أمر جلي لكل مطلع على السيرة العلمية والمهنية للأستاذ عبد السلام ياسين.
وعلى الرغم من تعدد المجالات التي حظيت بإسهامات الأستاذ ياسين في المجال التربوي والتعليمي، فإن مبدأ الوظيفية كان حاضرًا ومُحكّمًا في ترشيد الجهود وتوجيهها، من خلال التركيز على المجالات الأكثر تأثيرا وإلحاحا، أبرزها: بناء سياسية تعليمية وطنية مستجيبة لحاجات المغرب، وإعداد المعلم المربي، والانكباب على التآليف المدرسية، حيث حظيت هذه المجالات بموقع أثير ضمن اهتماماته رحمه الله؛ ولعل الاهتمام الوافر بهذه الثلاثية نابع من قناعته بكونها أصل الداء وأس الإصلاح وأساسه.[2].
إن من ثمرات الاهتمام بالمراحل التأسيسية للأنظمة التربوية ورجالها، أن نستخلص الدروس والعبر، ونكشف الستار عن أسباب أفول الرسالة التربوية في واقعنا، وقصور المناهج الحالية عن ترقية العقول والمدارك لأبنائنا، بعد أن شهدنا نخبة من الطاقات والكفاءات في مختلف المجالات كانت -ولا تزال- مفخرة لهذا الوطن الحبيب، والتي هي في الأصل مخرجات لذلك النظام على يد هؤلاء الرجال.
فمن الواجب إذن، إعادة قراءة تاريخ النظام التعليمي بالمغرب مع التحرز من تقييد الجهود البحثية في هذا المجال بالمقاربة التاريخية -الكرونولوجية- للمحطات الحاسمة والإصلاحات المتعاقبة، وذلك باعتماد مقاربة خاصة، تجعل من الفاعل التربوي المؤسس بؤرة التحليل والتقويم، أملا في استشراف غد أفضل لمستقبل التعليم؛ فلا أهم من أن نتعلم من جيل التأسيس منهج البناء، ونستمد منه خصيصة البذل والعطاء.
وحيث إن من شيم الفضلاء، الاعتراف بالفضل لأهله، خاصة من شارك منهم في تأسيس لبنات الفعل التعليمي والتربوي بالمغرب، نظم موقع الإمام عبد السلام ياسين ندوة علمية تربوية في موضوع: “جهود الأستاذ عبد السلام ياسين في بناء المنظومة التربوية المغربية”، شارك فيها نخبة من الأساتذة الباحثين والمتخصصين في المجال، لملامسة جوانب مضيئة من إسهامات الأستاذ ياسين في المجال، اعترافا بالجميل وشهادة لله ثم للتاريخ.
فالله أسأل أن يتقبل جهود المنظمين والمشاركين والحاضرين، وأن يجعل هذه المبادرة الطيبة شجرة طيبة توتي أكلها كل حين بإذن ربها وأن لا يجعلها مسقوفة بظرف زمان أو مكان.
– ألقيت هذه الورقة في تقديم ندوة “عبد السلام ياسين وجهوده في بناء المنظومة التربوية المغربية” يوم السبت 29 أكتوبر 2016 بمدينة سلا المغربية.
[1] محمد الطاهر بن عاشور، أليس الصبح بقريب- التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، دار السلام ودار سحنون للنشر، الطبعة 2، 2010، ص 105.
[2].يقول ابن عاشور: “فساد التعليم إما من فساد المعلم، أو من فساد التآليف، أو من جهة النظام العام” أليس الصبح بقريب، مرجع سابق، ص 105
أضف تعليقك (0 )