post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

ذة. ندية ياسين | ترجمة: ذ. رضا نازه | 
في هذا النص سعى الأستاذ رضا نازه إلى ترجمة مقدمة كتاب Histoire et droit musulmans: Ruptures passées et à venir  الذي ترجمته السيدة ندية ياسين حفظها الله كريمة الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن كتابه الفريد &#8220;نظرات في الفقه والتاريخ&#8221;. وفي هذه المقدمة نقف -أخي وأختي- عند قراءة متأنية فاحصة ناقدة للسيدة ندية، كيف وهي التي عاشت من كثب ظروف كتابة هذا الكتاب/الرسالة، بل كانت لها مع والدها الإمام رحمه الله مطارحات لمختلف القضايا التي ناقشها في كتبه وحواراته.
نص الترجمة:
إن كانت الترجمة نوع خيانة كما يقال*، فإن ترجمة نص بارز، وعن تاريخ الإسلام فوق ذلك، عملٌ بالغ الدقة. النص في الحقيقة رسالة مفتوحة كتبت في ثمانينيات القرن المنصرم، وليكن لي عذرا أنني لست محترفة في نقل الأفكار من ضفة لغوية إلى أخرى، خاصة إن كانت تجديدا عاشه المؤلف وكابده بروحه ودمه. أنا ابنة المؤلف وهمي الأساس هو توضيح سياق الكتاب وتقديمه. همي من هاته التوطئة إنصافُ اجتهاد منهاجي عميق لا ينفصل عن سيرة رجل من أهل الصدق مع الله أساسا قبل أن يكون رمزا أو أيقونة.
وكشأن كل اجتهاد مركب فإن ثمرته لم تجد من يقدرها قدرَها في عصر ضاق بأوقات التفكير وفُسَحه. لذلك أرجو أن تعطي هاته التوطئة بعض إضاءات تجنب سوء الفهم أو التأويل.
بدهي أن التوجه الروحي البارز في حياة هذا الرجل الاستثنائي قد صبغ أجيالا من الشباب في المغرب وخارجه وبَلَّ عطشهم، وما يزال. فالمدرسة التي أنشأها أحيت عمليا من جهةٍ سننا أغْفِلت وهي جوهر الدين وفصه، وتبنت أساسا لها من جهة أخرى مبادئ السلمية والرفق.
لكن إعلاما غير متريث لم يفتأ يشير بأصبعه إلى ما بدا تناقضا ظاهريا. يتعلق الأمر بالتعارض بين حِدة النقد الموجه إلى السلطة السياسية وبين الموقف السلمي المعلن والمنادى به بوصفه احتجاجا ميدانيا. من أجل فك هذا اللغز الظاهر ووضعه في حجمه، إنه لمن الحكمة أن نزن عمق الاجتهاد لا على خلفية أمواج السياسة المتلاطمة في المغرب الحاضر ولكن من خلال سبرٍ لأغوار تاريخ المسلمين وعواصفه، والذي جاءت هاته الفكرة أساسا لاستيضاحه واستخلاص الدروس والعبر النافعة منه.
لم يكن هم المؤلف، رحمه الله، من خلال نظره في التاريخ مجرد إجراء حفريات من أجل الذكرى والحنين، أو بهدف إنشاء درس أكاديمي من النوع العقيم. كل فكرة لم تنشئ عملا نافعا وحركة محرِّرَة لم يكن لها اعتبار في نظر رجل مسكون بحب الخالق ومحبة المخلوق وخدمته، غوار في الوقت نفسه الذي كان يحاذر فيه من إنشاء خطاب دعائي تهييجي كشأن الخطاب اليساري. لكن هاته الإرادة في بلورة علم يكون إماما لعمل وحركة تتمثله وتحمله، قد تنشئ بالعرض وفي خضم الواقع العصي ممارسة تلقي بظلالها على من يريد تقدير اجتهاد الرجل ووزنها حق وزنها. زد على ذلك إعلاما مغرضا تحركه بنية فاجأتها خلال سيرورتها التاريخية فكرة قوية مُقاومِة مقاومَةً سلمية.
إنها لمهمة شاقة أن تحاول التحسيس بعاهات التاريخ الرسمي في أرض الإسلام. شاقة وخطيرة ومحظورة تحت طائلة عقوبات لا تنتهي. والمؤلف خبَر ذلك وأدى عنه ما يقارب ست عشرة سنة حرمانا من الحرية. إنها مهمة ثقيلة أن تحاول إنشاء فكرة طليعية متدرجة تكون منهاجا إحيائيا بانيا في آن واحد، وليس الاكتفاء بإضافة مؤلف إلى رف المكتبة. إنه عمل بطولي أن تبحث كيفية اجتثاث منظومة تفكير من وعي جمعي نحتته قرون من الاجتهاد الفقهي التبريري، مع استصحاب المكانة الاعتبارية لهذا الفقه خشية الفوضى والفراغ. ثم إنها لآية صلاح وولاية في المؤلف أن زهد في منزلته الاجتماعية ومكانته وسعادته ومرَّغَ جاهه، كما يقال، من أجل أن يصطف مع الفقراء المستضعفين، علما أن الفقر لا ينحصر في الفقر المادي، فقد كان على المؤلف دوما مضاعفة الجهد من أجل مزاوجة تبسيط المفاهيم دون إخلال باللغة العالِمة..
إن تقديم رجل من عيار المؤلف واجتهاده المؤسِّس لا تطيقه أصلا صفحات توطئة. ولقد ترددت في ترجمة الكتاب أصلا، نظرا لمعرفتي براهن ما يشغل الثقافة الفرنسية وموقع الإسلام العاصف في العالم. 
هل كان من الحكمة أن آخذ من الرف كتابا ألـِّف في ثمانينيات القرن الماضي ويتحدث عن مفهوم الخلافة فوق ذلك؟ هذا بينما داعش ترتكب الحماقات، وكراهيةُ الإسلام تستفحل في أوروبا والعالم.  كدت لأحجم وأستسلم لولا التعلق القلبي بمرشد روحي سبقنا إلى الدار الآخرة وبقاء سره فينا، ولولا دَين له في عنقي بوجودي أصلا في هذا العالم الحاضر ثم برؤيتي وتصوري له.
رؤية وتصور لا علاقة لهما بتاتا بأي قراءة متزمتة مغالية عنيفة ومن باب أولى بتلك الهمجية التي ترتكب الآن في المشرق العربي المصطلح عليه بلفظة الشرق الأوسط المعقمة. الهمجية أصلا لا تأخذ وقتا للتفكر ولا للتفكير فضلا عن التنظير. الهمجية منحبسة عمياء متكلسة في مواقف لا تبرحها. أما اجتهاد المؤلف فكان دوما في تطور وإصغاء لما يبرزه الخالق سبحانه في العالم ثم ما يحدثه المخلوق بما كسبت يده.
قال لي رحمه الله يوما وهو يتحدث عن أحد أهم كتبه التي ألفها منذ عشر سنين ويعتبر مرجعا لمدرسة العدل والإحسان قال:&#8221; لو كتب لي أن أعيد تأليفه لكتبته بطريقة أخرى&#8221; الشيء نفسه يسري على هاته الرسالة المفتوحة التي هي بمثابة بيان. لو كتب له أن يعيد تأليفها لأخذ ما استجد بعين الاعتبار دون إخلال بجوهر العبرة.
لهذا فإن أي مُنكب على كتابات المؤلف، معتقدا كان أم منتقدا، عليه أن يستحضر حين قراءته سعة أفق المؤلف وانفتاحه العملي. لنسمها جرعة من برجماتية لا علاقة لها بالتلون الحربائي مع الواقع. إنها مرونة الأشخاص الذين حصلوا حكمة كبيرة من بوابة التجربة الروحية العميقة ومن خلال رحلة بحث عن المعنى ومن خلال ثقافة واسعة.
إن معرفة الله سبحانه تقتضي الاعتراف بمكانة درس التاريخ وكذلك بمكانة تواريخ الأشخاص. وهذه الرسالة التي بين أيدينا تؤكد ذلك لأن لها هي نفسها تاريخا معتبرا.
المؤلف رحمه الله عاش فترة صوفية أشبعت حاجته الروحية بما يكفي. لكن اليقظة التي حدثت له من ذلك ربطت أفق نفسه بأفق الأمة وإصلاح حالها. كان ذلك سابقا بكثير للثورة الإيرانية حيث إنه ألف كتابيه &#8220;الإسلام بين الدعوة والدولة&#8221; والإسلام غدا&#8221; مطلع السبعينيات، أي سنوات قبل اندلاعها.
قرر بعدها أن يمر لعمل رمزي سلمي، وكم كان ذلك خطيرا في بلد يراهن نظامه على الرمزية أيما رهان من أجل الاستمرار. اعتبر الكتابة في تلك المرحلة وسيلة ناجعة من أجل النصح والنقد والاقتراح ومحاولة ململة الواقع الجامد. فكانت الرسالة المفتوحة لملك المغرب الراحل الحسن الثاني، وكانت النبرة قوية في غير عنف إلا إن اعتبر عنفا توجيه رسالة مباغتة لعاهل في مرحلة تاريخية لا تحتمل أدنى نقد. هل كان للرسالة سابقة في تاريخ المسلمين؟ كم رأسا قُطع دون تحرج وكم لسانا اقتُلع منذ الأمويين لأجل كلمات قليلة تقال للأمير. لكن رد الملك الذكي حينها العارفِ بمنزلة منتقده جعله يكتفي بمحاولة استهداف مصداقيته بإيداعه في مستشفى الأمراض العقلية بدل تصفيته.
كان المغرب حينها حديث عهد بمحاولتي انقلاب متتابعتين، كانت تدشينا لما اصطلح عليه بسنوات الرصاص تحت حكم ملك لم يعد يثق بأحد. لكن حسا معروفا لدى الملك بالفأل انتصر على صرامة الحساب السياسي. زد على ذلك أن الأمراء في أرض الإسلام كانت لهم دائما سجالات مع أصحاب المواقف المُمانِعة التي تسائل شرعيتهم الدينية وكان منهم دائما من يميز الموقف الصادق حين يبدر من رجل صالح عن غيره. إلا إذا كان فعلا لأحد مجاذيب البلاط العتيق دورٌ في صرف مصير السوء عن الرجل الناصح. ذاك ما سرت به شائعة لا تقل غرابة.
أودِع الرجل بأمر من أعلى سلطة في مستشفى المجانين وهناك زاد نضج الفكرة وتمتن منطقها الذي صار طموحا لتغيير شامل لواقع الأمة. هل من رمزية وعبرة في ذلك؟ ربما عليك أن تكون على نصيب من الجنون كي يكون لك مثل هذا الطموح، كما يوضحه جليا هذا الكتاب، بالنظر للعوائق الكبيرة وتعقيدات زواج &#8220;السيف والعمامة&#8221; واشتباكهما.
كانت حركة الرجل تنبع أساسا من عميق ثقته بالله وكذا من عمق ثقافته وواسع اطلاعه ومعرفته بسقف زمانه الفكري. كانت مكتبته تعج بمراجع السياسة الكلاسيكية من هوبز حتى شومسكي مرورا بماركس وديغول وغاندي وغيرهم. واللافت أنه حين أتت الأجهزة السرية لاختطافه قاموا بمصادرة أعداد من صحيفة البرافدا السوفياتية و&#8221;ما العمل&#8221; للنين ومراجع أخرى من الفكر اليساري، ربما كان ذلك تخمينا منهم أن الإسلام لا يصح أن ينتج فكرة متمردة، ولم تكن ثورة إيران الإسلامية قد قامت بعد.  
كانت فكرته متمردة لكنها لم تكن عدمية ولا عنفية إن صح الاشتقاق. وكان جديرا بها أن تكون صريحة معلنة على الملأ بما أنها كانت نداء وتبشيرا صادقا بعالم أجمل، ومن أجل تأسيس ومواكبة حركة ناشئة تبنت منذ الولادة مبادئ السلمية والعلنية والاستقلال عن أي ارتباط مالي أو تنظيمي مع الخارج. هاته المبادئ أتاحت للفكرة أن تُحسب على حرية الفكر وأن تنأى بها عن كل شبهة إرهاب، ومكنت من إحراج النظام حيث إنه سجل على نفسه بقرار حظرها ومحاربتها تناقضا صارخا مع دستوره الجديد الضامن مبدئيا للحريات العامة. وأتاحت لها فوق ذلك الاستقلالية عن كل تأثير مذهبي مرتبط بأموال البترودولار.   بعد إطلاق سراح المؤلف مطلع الثمانينيات لم يجد المخزن خيارا سياسيا أمامه سوى اللعب على شبه ترخيص وترخيص منقوص من أجل تأسيس جمعية. كانت الثورة الإيرانية يومها حديثة العهد فآثر العاهل بلباقته السياسية أن يسمح للحركة الوليدة التي تطلب العمل في إطار قانوني واضح بإنشاء جمعية تكون تحت عين مراقبته رغم فكرتها العصية على الترويض.  كان ذلك أهون بالنسبة له من حركة سرية تفاجئه بخروج &#8220;خميني&#8221; آخر بجلباب مغربي.
شِبْه مرخص وشبه محظور، وتلك لعبة المخزن المفضلة، استمر المؤلف في إصدار كتبه بين سنتين أخريين من سجن رسمي هاته المرة، ثم عشر سنين من إقامة إجبارية بقرار إداري، ناهيك بأضرار جانبية أخرى لا تحصى.
ثم رأى هذا الكتاب النور في نهاية الثمانينيات، وعرف توزيعا محدودا لأسباب غنية عن التعريف. كان هدف المؤلف الإجرائي منه تبسيط أفكار وردت مركبة في مؤلفاته السابقة. أما وقد تنامت الحركة وتعاظمت مثل كرة ثلج رغم المحن المتتالية في مغرب سنوات الرصاص التي كان سجن تزمامارت شاهدها ورمزها، فقد كانت نية المؤلف أن يضع للطريق خارطة أو على الأقل معالم وصُوىً، لا وضع أطروحة جامعية إضافية.
المؤلَّف، لا نمل من التذكير بذلك، كان اجتهادا إحيائيا لا عرضا أكاديميا. كان المبتغى منه لفت الانتباه بهدوء وثقة إلى زاوية نظر أخرى للتاريخ. زاوية نظر تضع جوهر الإيمان في مركز الإرادة. ورغم تطاول الزمان ولأجل البواعث نفسها التي جعلت والدي الكريم ينخرط في طريق غير موطأة دائما أقدمت على ترجمة هذا الكتاب. الجهاد في سبيل الله ليس حمل السيف في وجه من هب ودب، الجهاد تفكير وتواصل وبحث عن الكلمات التي تداوي الكلوم، والكلوم الجروح، ثم المشاركة في الهم الانساني بأحسن الطرق وأكثرها سلمية ورفقا.
(&#8230;)
هاته الرسالة المفتوحة كانت تروم أساسا وضع النقط على الحروف من خلال تبريز قضية المعنى. بطبيعة الحال قضيتها الرئيسة كانت هي الانكسار التاريخي الذي حدث بين فترة الخلافة وفترة الملك في تاريخ الإسلام، لكن الانكسار المقصود أساسا كان انكسارا وانقطاعا في الإدراك غطى على كون الإسلام قبل كل شيء تصورا إحسانيا روحيا للعالم. وبناء عليه فقطب كل فكرة أو حركة مستقبلية يجب أن يكون سعيا للدار الآخرة عبر جسر الدنيا وابتلائها. هذا الداعي كان وراء اختيارنا للعنوان الفرعي &#8220;انكسارات&#8221; بالجمع، بدل &#8220;انكسار&#8221; تقريبا للمقصود الأصلي من العنوان العربي &#8220;نظرات في الفقه والتاريخ&#8221;  
ثم إننا آثرنا &#8220;انكسارات&#8221; بالجمع كي ننبه على تعددها وكثرتها. لفت المؤلف إلى مظهرها التاريخي الذي دشنه الانقضاض الأموي على الحكم والذي أغفله أو أخفاه الباحثون، مستشرقين كانوا أو مسلمين على السواء، منصفين أو مغرضين. هذا الاستشراق الذي جعل من الاستبداد استمرارية طبيعية لنظام الحكم في الإسلام دون تفعيل أو تحكيم أية قطيعة معرفية بين مراحل الحكم التي توالت. تبعا لهذا المنطق الرتيب فإن القذافي وصداما وكل حاكم دموي عبَر تاريخ المسلمين إنما هو في المحصلة استمرار منطقي لإسلام يحمل بذوره منذ البدء! هذا الشرخ بين الوحي والحكم الذي حملته الأمة كأصفاد في الوعي ثم الانكسار الذي تمخض عنه كان صارخا في الكتاب.
مقابل هذا الانكسار تعرض الكتاب لانكسار آخر بل قطيعة، تهم المستقبل وهي لب خارطة الطريق. إن كان الماضي قد رزح تحت طائلة الانكسار فإن انكسارا آخر أو قطيعة أخرى تبقى مطلوبة بإلحاح. إنها القطيعة مع كل أشكال التواكل والكسل، خاصة منها الكسل المعرفي..
&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;
*traduire c’est trahir
&nbsp;
&nbsp;
&nbsp;

التاريخ والفقه الإسلامي..انكسارات الماضي والمستقبل

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -2-

قواعد التفكير المنهاجي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -1-

الصهيونية بين رؤيتين..عبد الوهاب المسيري وعبد السلام ياسين

قضايا فكرية

التاريخ والفقه الإسلامي..انكسارات الماضي والمستقبل

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

التاريخ والفقه الإسلامي..انكسارات الماضي والمستقبل

الزيارة الأخيرة

المعرفة واجب مقدس

امرأة محررة ومسؤولة

رسالة الى الحية التي ترزق عند ربها ”ماما خديجة”

رثاء السلام أو رثاء أب ليس ككل الآباء

مقالات ذات صلة