post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>أية حقوق وأي إنسان</h2>
تتميز كتابات الأستاذ عبدالسلام ياسين بالثراء المعرفي الواسع والعمق الفكري الأصيل. ولذلك يجد القارئ والباحث في معظم القضايا التي تناولتها كتاباته نموذجا متميزا عن سائر المدارس الفكرية التي تدارست نفس القضايا حتى وإن التقت معها في جزء كبير من المنطلقات. 
 وتعتبر قضية الحريات وحقوق الإنسان من المسائل التي أحدثت خلافا كبيرا في المواقف بين التيارات السياسية والفكرية حتى أن المتتبع يكاد يجد تضاربا قد يصل إلى حد التنافر أحيانا في الجسم السياسي الواحد. 
 ونبدأ مع التمييز المفهومي الذي يبرزه الأستاذ في حديثه عن حقوق الإنسان إذ ينطلق من أهمية الإجابة عن سؤال: &#8220;عن أي إنسان نتحدث ويتحدثون، وعن أية حقوق ؟&#8221; ؛ فإذا كانت المدارس الأخرى خاصة العلمانية منها قد حصرت الحديث عن الحقوق في شقها المتعارف عليه والمتمثل أساسا في الحقوق المادية من أمن وسكن ومعاش وغير ذلك، فإن الأستاذ ياسين يحيل المسألة ـ قبل أي حديث عن الحقوق الدنيوية ـ إلى البعد الأخروي المتمثل في حق الإنسان في معرفة ربه وتحسين مصيره بعد الموت معتبرا هذا الأمر هو رأس الحقوق وأم الحريات حيث يقول في كتاب &#8220;حوار مع الفضلاء الديمقراطيين&#8221;: رأس حقوق الإنسان عندنا، وأم الحريات، ومنبع الكرامة، تحرير الإنسان من كل عبودية غير العبودية لله رب العالمين لا شريك له). ولا شك أن هذا البعد اكتسى أهمية بالغة في كتاباته نلمسها من خلال المبالغة في تكرار هذا الأمر والحديث عنه في كل مناسبة حتى إنه جعل سائر الحقوق الأخرى مجرد نتيجة لهذا الأصل ومنبثقة عنه وذلك بتأكيده أن الإنسان بمعرفته لربه حق المعرفة يصبح حق الآخرين عليه واجبا دينيا وأخلاقيا يؤديه بإخلاص ووفاء كما يغدو عبادة يتقرب بها إلى ربه سبحانه. 
 تم يأتي في المرتبة الثانية الحديث عن باقي الحقوق المشتركة المتمثلة في الكرامة والأمن والمعاش والسكن والحقوق السياسية والاجتماعية، وهنا كذلك يتميز هذا الفكر بالتركيز على البواعث والدوافع لتحصيل هذه الحقوق والدفاع عنها؛ فبالرجوع مثلا إلى منشإ هذه الحقوق والحريات كما اتفق عليها عالميا وبالنظر إلى البيئة التي شكلت الخلفية الفكرية لواضعي المواثيق الدولية وإعلانات مجلس الأمن، نجد التأثير العميق لمفكري &#8221; عصر الأنوار&#8221; الذين نشأت الفكرة في عقولهم كردة فعل قوية على الهيمنة الكبرى للنظام الإقطاعي ورجال الدين بعد صراع مرير شكل فيه هؤلاء التحالف النكد بين السلطة الدينية والسياسية، فخولوا لأنفسهم بمقتضاه امتلاك الأجساد والأرواح وإصدار القوانين التي تخدم مصالحهم وإن كانت على حساب الازدهار الفكري والعلمي. يشهد على ذلك ما تعرض له &#8220;برونو&#8221; و&#8221;كاليليو&#8221; و &#8220;قوبرنيق&#8221; من معاناة وصلت إلى حد القتل، فكانت تلك بداية الثورة التي نشأت كانتفاضة على الظلم لتتطور إلى انتفاضة على النصرانية بل على كل الأديان، ليصبح بعد ذلك الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان متحررا من الدين بل مناقضا ورافضا له. 
 ولا شك أن تصدير هذه المبادئ إلى مثقفي العالم الإسلامي تم بشكل متكامل حتى إن هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم عناء تجريد هذه المواثيق والإعلانات من تأثير الرواسب التي خلفتها ملابسات النشأة إلى درجة أن أضحى لديهم أي حديث عن الإسلام في علاقته بهذه الحقوق معاكسة للحداثة وجريا وراء التخلف. 
 كان من الضروري للأستاذ ياسين الحديث عن تاريخ هذه الحقوق وطبيعة الإنسان الذي أسس لوضعها والإعلان عنها على مدى التاريخ انطلاقا من إعلان الثورة الفرنسية سنة 1789 إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكي نفهم أشكال التعامل معها، ونفهم كذلك الإقصاء المتعمد الذي يطال الدول المستضعفة من الحضور عند إبرام المعاهدات والمواثيق مما يجعل الحقوق الموضوعة مجرد خادمة لمصالح السيد القوي المنتصر وحتى يتم كذلك إبراز دوافع المثقفين من بني جلدتنا الذين تصدوا للدفاع عن نبتة غريبة عن بيئتنا. يقول الأستاذ ياسين : ولنعرف من الجذور النفسية والفكرية الثقافية للإنسان الغربي المتأله في الأرض ماهية هذا الإنسان، وبواعثه، وخلفية جبروته. تلك الخلفية النفسية الفكرية الثقافية هي منزل المغربين الذي سكنوه في جوار أساتذتهم، والقميص الذي ارتدوه من يده. فمعرفة ذاك الإنسان في جذوره وبواعثه تعرفنا بهذا الإنسان الذي نحاور الفضلاء المغرر بهم من نوعه. إذا عرفنا الأصل عرفنا النسخة. من الضروري أن نضع أسئلة على تاريخ واضعي القوانين الدولية، ومقرري قرارات مجلس الأمن الفاعلة في العالم، المحرقة المدمرة الناصرة الخاذلة. نضع أسئلة على مولد الفكر، ومنبع الحضارة، وآثار الثقافة، ومنشأ النفسية، ولون العقلية. أسئلة تكشف لنا عن الطبيعة العميقة للثقافة العالمية الصائلة في الدنيا، القاتلة فيها العملاقة الداهية النفوذ.) 
 أما بالنسبة لنا في المذهب الإسلامي ـ من منظور الأستاذ ياسين ـ فيجب ألا يكون دفاعنا عن حقوق الإنسان رغبة منقطعة لنصرة المستضعفين فقط، وإنما يكون باعثه في سبيل الله أولا ثم المستضعفين ثانيا. يقول عز من قائل وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا النساء(75). 
 بعد الحديث عن ماهية الحقوق الإنسانية واختلاف البواعث على احترامها والدفاع عنها، تنبغي الإشارة إلى مسألة التمييز المعياري الذي ما فتئ الأستاذ المرشد يندد به في كتاباته من خلال حديثه عن نوعية الإنسان الذي يجب أن يحظى بالحقوق التي يتسابق الجميع لإعلان احترامها والدفاع عنها. ففي الوقت الذي يحث فيه الفكر الإسلامي الأصيل على وحدة الإنسان في ميزان الحقوق &#8220;لا يستعبد إنسان إنسانا مثله ولا يضعه تحت الوصاية ولا يحد من سيادته&#8221; حيث يقول الأستاذ : الخبز في مذهبنا الإسلامي للجائع، والدواء للمريض والتعليم لطالبه. مذهبنا البر بمن تعرف ومن لا تعرف. ديننا أن في كل ذي كبد رطبة صدقة)، نجد أن حاملي لواء حقوق الإنسان والأخلاقية الدولية والعدل الدولي وعلى رأسهم أمريكا &#8220;معقل الحريات&#8221; قد بنوا مجدهم على جماجم شعوب مقهورة وعظام أجيال من المستعبدين، فتجدهم يميزون بين إنسان وإنسان. الغربي السيد عندهم غير المسلم المقهور، والأمريكي القوي يتجند الإنس والجن للدفاع عن حقه بينما يبقى في ذيل اهتمامهم أن يقتل المسلم أؤ تسبى المسلمات. إن هذا النداء الذي تتغنى به دولة الدولار كما يفيد الأستاذ له واجهتان متناقضتان؛ فمن جهة المتلقي للنداء يعتبر غاية يهفو إليها المظلومون والمقهورون متطلعين للعدل والكرامة والحرية، وفي الجهة المقابلة يبقى مجرد أحبولة نفاقية تغطي إرادة السيطرة على بني الإنسان، يفضح ذلك ويشهد عليه معاناة فلسطين وتحريق العراق وتقتيل المسلمين في البوسنة والهرسك. 
 خلاصة القول أن الحديث عن مسألة حقوق الإنسان يقتضي قبل الخوض في أي من التفاصيل تحديد ماهية الحقوق المطلوبة ونوع الإنسان الذي يستحقها. فأم الحقوق والحريات ومنبعها يجب أن يكون دائما تحرير الإنسان من عبودية غير الله، والباعث للدفاع عنها هو الاستجابة لنداء الله في نصرة المستضعفين دون تمييز أو إخضاع لقانون الأقوى. حينذاك فقط يمكن أن نتكلم عن ازدهار الحقوق وتقريب المسافات الرخائية بين الشعوب والأفراد. يقول الأستاذ عبدالسلام ياسين: الحل ليس في استيراد فكرة لم نحضر ميلادها، وقانون ما تربى في حجر تاريخنا، ولا نزل شرعة من ربنا، ومنهاجا من نبينا. )لن تزدهر حقوق الإنسان في ديارنا، ولن يتحرر العقل المسلم، ولن تبسُق شجرة الشورى إلا مع الرخاء&#8230; لا نجاة للإنسان في ديارنا ولا حقوق إلا برخاء أخوي. الرخاء المادي وحده إن قادته الأنانية الجشعة تحوز ثمانين في المائة من خيرات الأرض ليتمتع بها عشرون في المائة من المحظوظين المستكبرين في الأرض، وليتمتع الباقي بالباقي على موائد البانجلاديش والصومال).

الحريات وحقوق الإنسان

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

الحريات وحقوق الإنسان

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الحريات وحقوق الإنسان

مقالات ذات صلة