السلـوك الإحسـاني..الحجب المانعة والمحاذير المهلكة
مدخل
كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله يسأل الله تعالى أن يجد في صحيفته يوم يلقى الله عز وجل أفواجا من المحسنين، ويا لها من همة رجل كم كانت عالية. همة صاحبتها إرادة قوية وعمل جاد وجهاد متواصل وإصرار على بلوغ المراد. فدعا إلى الإحسان، بحاله ومقاله وأفعاله، وما كتبه في كتاب الإحسان بجزأيه خير تعبير عن ذلك. وما كتبه إنما كتبه بلحمه ودمه وروحه وعقله. فجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرا كثيرا.
فكرة الإحسان كما جسّدها صاحبها في الكتاب أن هناك في ديننا مقاما ومرتبة ودرجة أعلى السلم الإيماني، يمكن أن يصل إليه أي إنسان ينشده ويطمح إليه، إن هو حدث نفسه بالصعود ونهض للاقتحام والارتقاء والتنافس مع المتنافسين، والتسابق مع المتسابقين، وشمّر عن ساعد الجد والاجتهاد وأخلص النية والهمة في القصد والطلب، إنه مقام الإحسان.
مقدمات في السلوك
1- عندما يعرض الإمام المرشد رحمه الله موضوع السلوك الإحساني فإنه ومنذ البداية يؤكد بأن الأمر ليس نزهة، بل الطريق خطرة، فكم كان فيها “من قتيل وجريح وساقط وسليب وطريد”، [ref]ياسين عبد السلام، الإحسان ج2، مرجع سابق، ص:389[/ref] طريق تمثل فيها النفس بقوتها الأنانية والشهوانية والغضبية العقبة الإحسانية التي تقف دون مقام الإحسان. يقول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) (النساء:79). أما “الابتلاء الخارجي والاستفزاز الشيطاني ما هما إلا الجانبان الأضعفان في مركب العقبة التي على المرء أن يقتحمها صُعُدا إلى رضى الله ومعرفته والوصول إليه”. [ref]نفس المرجع، ص:389[/ref] فأي خذلان في الطريق أو فشل أو سقوط فمن النفس، فلينظر السالك من أين أوتي.
فإذا كانت مراتب الدين ثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان طريق صاعدة، ومسافات تقطع، وعقبة تقتحم. فالمسلم السالك عليها كالماشي، إن سقط فسقوطه عثرة.. والمؤمن السالك عليها كالراكب، إن سقط فسقوطه حادثة.. والمحسن السالك عليها كالطائر، إن سقط فسقوطه كارثة، لا تودي بحياته فقط بل قد تودي بحياة الآخرين أيضا.
2- يستند الإمام المرشد رحمه الله في حديثه عن السلوك الإحساني إلى مجموعة من الحقائق القرآنية والنبوية والعملية والعلمية وهي:
الحقيقة القرآنية في السلوك مبنية على ذكر الله وعلى ندب الله عباده إلى المسارعة في الخيرات والتنافس والتسابق. في مثل قوله تعالى: (سارعوا) (آل عمران:133)، وقوله سبحانه: (سابقوا) (الحديد:21)، وقوله عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
الحقيقة النبوية في السلوك مبنية على حديثين عظيمين ينبغي لكل مسلم مؤمن وتعلمهما وتعليمهما، الأول علمي تعليمي والثاني عملي تطبيقي.
فالأول المشهور بحديث جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق. فلبثت مليا (أي قليلا) ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”.
والثاني هو المعروف بحديث الولاية، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذَنته بالحرب. وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعِلُه تردُّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مَساءَتَه”.
الحقيقة العملية مبنية على السلوك الإحساني الذي كان يتمتع به الصحابة رضوان الله عليهم عن فطرة وبداهة. “السلوك إلى الله عز وجل، والسير إليه، عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به. كان كل الصحابة يبتغون إلى ربهم الوسيلة ويستهدونه ويتأسون برسوله صلى الله عليه وسلم الماثل بين ظَهْرانَيهم. فيما بعد، وفي عتَمة البدع وظُلَلِ الفتنة التي مرت على الأمة مرورَ قطع الليل المظلم، احتاج السالك إلى نظر خاص، واسترشاد خاص، وصحبة خاصة”. [ref]الإحسان ج2، ص:373و374[/ref]
الحقيقة العلمية في السلوك مبنية على ما أورده الإمام رحمه الله من كلام وحديث في الموضوع عن كبار العلماء في التربية والفقهاء والمحدثين، من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى”، والحافظ ابن حجر العسقلاني في “الفتح الباري”، والإمام عبد القادر الجيلالي في “الفتح الرباني”، والإمام أحمد الرفاعي في “حال أهل الحقيقة مع الله”، والإمام السرهندي في “المكتوبات”، والإمام السهروردي في “عوارف المعارف”، وغيرهم رحمهم الله جميعا. فكل هؤلاء أثبتوا أن “السلوك منصوص في الكتاب والسنة وأن جميع الصحابة كانوا يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول”. [ref]ابن تيمية رحمه الله، الفتاوى، ج19، ص:273. نقلا عن نفس المرجع السابق[/ref]
3- السلوك الإحساني كان على عهد النبوة والخلافة الراشدة سلوكا جهاديا وجماعيا في نفس الوقت، الصحابة الذين كان طلب وجه الله والارتقاء في درجات الدين همهم الأول، كانوا هم المجاهدين المدافعين عن الدين المبلغين له للعالمين، كانوا رهبانا بالليل وفرسانا بالنهار، لم يمنعهم تفاضلهم في المجموع الإيماني وخصال الخير، وتفاوتهم في الحظ من الله والغناء والسابقة أن يكون سلوكهم الإحساني سلوكا جماعيا منظما متكاملا أسس لدولة إسلامية ثم لخلافة على منهاج النبوة.
هذا السلوك الإحساني الملتحم في جماعة الجهاد الذي غاب بعد ذلك لشروط فرضتها الفتنة التي عاشتها الأمة يسميه الإمام المرشد رحمه الله بــ”وحدة السلوك”، وهي وحدة “تؤدي إلى وحدة في الشعور، فتؤدي هذه إلى وحدة الولاء”.ي[ref]اسين عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط1/1989، ص:122[/ref] وحدة يمثلها نهر الإيمان بشعبه ف”تكسر الحواجز، حواجز الأنانيات، والعادات، وسائر الحدود النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والمصلحية، التي ضربت بين أفراد مجتمعاتنا المفتونة الطبقية، وبين مجتمع وطني قومي وآخر”. [ref]نفس المرجع والصفحة[/ref]
4- في كتاب الإحسان نجد المرشد رحمه الله يحدد العقبات حسب الدرجات، فلا بد للوصول إلى درجة من درجات الدين من اقتحام العقبة التي تقف دونها. فهناك “عقبات تثبط الإنسان عن اقتحام العقبة الإيمانية، وعقبات أوْعر تعوقه عن الارتقاء في الإحسان. عقبات من تعلّق نفسه بالدنيا، بالمال، بالجاه الذي يصرفه عن المرحمة، بالأنانية التي تجعله يستكبر عن الدخول في حصن الجماعة يسمع النصيحة، غافلا عن ربه، عن مخلوقيته، يحسب أن أحدا لا يراه، ناسيا أن الذي برأه وجعل له لسانا وشفتين ديَّان”. [ref]الإحسان ج1، مرجع سابق، ص: 94[/ref]
في السلوك الإحساني إذا العقبة التي تقف دون مقام الإحسان هي العقبة النفسية بالدرجة الأولى، “فليس عامل من عوامل الفشل أبلغ هدما للإرادات من النفس” [ref]الإحسان ج2، مرجع سابق، ص:389[/ref] التي من طباعها التعلق والأنانية والغفلة. فالتعلق يكون بتعلق النفس بالدنيا والمال والجاه، وأنانيتها تكون بالانفصال عن الآخرين والاعتزاز بذاتها، والغفلة تكون بعدم الحضور مع الله في أمره ونهيه، ونسيان قيمته الحقيقية كإنسان مُكرّم عبد لله تعالى.
وفي الوقت الذي تتعلق النفس بالأشياء وتجعل منها الحقيقة والمعنى والذات، تنفصل وتعلّم الإنسان كيف ينفصل عن الآخرين، “تجعله يستكبر عن الدخول في حصن الجماعة يسمع النصيحة”، ينفصل عن كل ما له علاقة بالقلوب والأرواح، ينفصل عن الأخلاق وعن القيم وعن الفضائل، ينفصل في النهاية عن كل ما يربطه بالله تعالى.
وبين تعلق النفس وانفصالها، وبين أنانيتها وغفلتها، يعيش الإنسان في معاناة لا تنتهي من الحصول على الأشياء وطلب المزيد منها. ومعالجة هذه المعاناة هو المعنى الحقيقي لاقتحام عقبة النفس التي تقف في طريق السلوك الإحساني.
5- اقتحام العقبة والإشراف على منازل القرب من الله عز وجل هو ولادة جديدة للإنسان، ليست على مستوى الجسد بل على مستوى الروح، وليست بالخروج من رحم الأم وإنما بخروج الروح من رحم النفس ومشيمتها، فإن كانت الأولى يحتويها الزمان والمكان فإن الثانية أبدية خالدة. وبينما يكون للأولى نسب طبيعي وانتساب جسمي فإن للثانية انتسابا قلبيا وسلسلة آباء روحيين يتصل سندهم الروحي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
جميع الناس لهم خبر وعلم بالولادة الخِلقية الأولى، لكن القليل القليل ممن لهم خبر وعلم بالولادة الروحية الثانية. ومن فاتته هذه الولادة فاته خير كثير، وهو أطيب ما في الدنيا وألذّه. وعلى هذا يعتبر الأولياء وأهل السلوك من فاتته هذه الولادة واكتفى بالولادة الأولى ميّتا أو قبرا يمشي على الأرض. ولذلك رحمة بالخلق ومحبة فيهم وعملا بالنصيحة ما فتئوا يدعون الناس إلى المأدبة ويكررون لهم الدعوة.
من النقط المهمة التي أشار إليها الإمام المجدد رحمه الله بخصوص موضوع الولادة الروحية في كتاب الإحسان وفي غيره من كتاباته ما يلي:
أن الولادة الروحية وسط جماعة المؤمنين عبارة عن تجربة روحية شخصية يكتشف بها العضو المؤمن السالك حقيقة وجود نفسه ووجود العالم من حوله، فإذا كانت الجماعة بمجالسها وصحبة ربانييها تنوّر وتدفع وتشجع وتأخذ باليد فإن تحديد المصير في نهاية المطاف يبقى من مسؤولية كل عضو فرد فيها.
أن هذه التجربة لا يقوم مقامها الإخبار والوعظ ولا تكمن إلا مع الصحبة. وأول صفات الجيل الأول من هذه الأمة أنهم صحابة. وكان إيمانهم قويا بلغ درجة اليقين لأنهم صحبوا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وانكشف لهم ببركة محبته سرّ وجودهم ووجود العالم. فمتى توفرت الصحبة الصادقة مع وجود طالب صادق راغب صارت التجربةُ الشخصية تجربة علمية وترفع صاحبها من إسلامه الظاهر إلى مقام الإيمان وحلاوته إلى مراتب الإحسان.
أن الانبعاث الإسلامي يتوقف على مثل هذه التجربة الشخصية، و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
وأن هذه التجربة الشخصية الروحية تتيح للسالك اللقاء بالغيب، لكن (وهذه نقطة مهمة) كل لقاء بالغيب لا يرد الإنسان إلى العمل الصالح والإخلاص فيه مع الصواب، وإلى السعي الدائب لنصر الله ورسوله فهو مضيعة للوقت وتفويت لفرص النجاح. [ref]ياسين عبد السلام، الإسلام بين الدعوة والدولة، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، ط1، 1972، ص 339 وما بعدها[/ref]
6-. يقول الإمام في أساس السلوك “فلا يمكن البناء فوق الفراغ ولا بالفراغ. أي أن التدرج في سلوك سبيل الإحسان الذي يمثله الإسلام هو البناء. والقيام بالفرائض الشرعية -بدءا بالصلاة- هي اللبنات والإسمنت”. [ref]ياسين عبد السلام، الإسلام والحداثة، مرجع سابق، ص:244 [/ref]وعلى هذا فعندما تحدث رحمه الله عن وسائل السلوك لم ينس التذكير والتركيز على ما دونها من الوسائل. يقول رحمه الله: “بماذا يكون المسلمون مسلمين، والمؤمنون مؤمنين، والمحسنون محسنين؟ بالصلاة التي هي عماد الدين. والصلاة بدون طهارة حركات رياضية إن شئت، أو عبث واستهزاء بالدين”. [ref]ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال، ط1/1994، ص:41[/ref]
من خصائص التربية الإيمانية والإحسانية التدرج والتؤدة والتعهد. والمسجد، مجلس النصيحة، الأوراد، المحبة الإيمانية، ودعاء الرابطة.
بالإضافة إلى التخلق بأخلاق البذل والعطاء بلا حدود فإن ذلك يزكي النفس ويذهب عنها كثيرا من الشرور والطباع بدءا من بذل أبسط الأشياء التي قد لا يحتاجها السالك وهي تملأ عليه المكان.
الحجب المحاذير
كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يسأل الله ثبات القلب على دينه. فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: “نعم، القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء”، [ref]رواه الإمام أحمد والترمذي[/ref] وفي القرآن نجد أن الله تعالى علمنا كيف ندعوه دعاء الثبات على الهداية والحماية من الزيغان فضلا منه ورحمة، فقال سبحانه: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8).
في كتاب الإحسان يستعرض الإمام المرشد رحمه الله أثناء الحديث عن السلوك الإحساني مجموعة من الحجب المانعة عنه، والواقفة حجرة عثرة دون الالتحاق بركب السالكين، وفي نفس الوقت يستعرض أيضا مجموعة من المحاذير التي قد تزيغ بالسالك الواصل المشرف على العقبة فترديه قتيلا. وهي محاذير حذرنا منها الله تعالى في كتابه العزيز وحذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف، لأنها تصيب دين المرء في مقتل. منها على الخصوص: النفاق والرياء والاستدراج.
1- الحجب المانعة
في بداية طريق السلوك ما يمنع من السير والتقرب والارتقاء في مدارج الدين ومعارجه من إسلام لإيمان لإحسان، وسمى الإمام تلك الموانع بــ”الحُجب المانعة عن القصد”، ويذكر تلك الحجب المانعة ويعددها، فيقول رحمه الله: “حَجَبَ العباد عن ربهم، وعن الإسراع إليه والسير والسلوك والمشي والتقرب والوصول ما كسبت أيديهم. حَجَبَ القلوبَ ما ران عليها وعلاها من أوساخ الذنوب والمعاصي والنفاق وسوء الظن بالله وبعباده والكسل عن الطاعات. حَجَبَهم قرناء السوء واستخفافُهم بالصالحين وحسدُهم وقياسهم للآخرين على أنفسهم عن صحبة الأخيار وهي الشرط الأول في السلوك. حجبهم الغفلة والعادة والطبع والهوى والأنانية وتأويل كلمة الحق عن ذكر الله وعبادته على قدم السنة، والذكر هو الشرط الثاني في السلوك. وحجبهم كذبهم وتكذيبهم بالحسنى ونفاقهم عن صدق التوبة، وصدق النية، وصدق اليقظة، وصدق الاعتقاد، وصدق الطلب مع الصادقين، والصدق هو الشرط الثالث.
ومن تركيب هذه الموانع والحجب وضرب بعضها في بعض تنتُج الأعداد الهائلة، حتى يُقال: إن بين بعض العباد وربهم سبعين ألف حجاب من ظلمة ونور. وما وضع هذه الحُجُبَ غيرهم، ولا كسب سيئاتِها سواهم. قال الله تبارك وتعالى يخبرنا عن حال المجرمين: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (المطففين:14). الرَّيْنُ: الصدأ وقد شرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتكون هذا الصدأ ويعلو القلوب فتنحجب عن ربها عز وجل، فقال فيما رواه مسلم عن حذيفة: “تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عَوْداً عَوْداً. فأي قلب أُشْرِبَهَا نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء. وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتةٌ بيضاء. حتى تصير على قلبين: أبيضَ مثلَ الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبادّاً كالكُوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشْرِبَ من هواه” الحديث. [ref]ياسين عبد السلام، الإحسان ج2، مرجع سابق، ص: 380-381، والحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله[/ref]
يعلق المرشد على الحديث النبوي فيقول: “هكذا يعلمنا الله ويعلمنا رسوله أثر مكاسبنا على قلوبنا. ما من عمل حسن إلا يزداد به القلب بياضا ونورا. وما من خطيئة وفتنة يُشْرَبُها القلب ولا يتوب فاعلها ويستغفر إلا نَكَتَتْ في قلبه سوادا. ويتراكم السواد طَبَقا عن طبق حتى يؤلِّفَ صدأ يرين على القلب فيحجبه عن ربه عز وجل دنيا وأخرى”.[ref] المرجع نفسه، ص:381[/ref]
وفي ذكره للعلاج من هذه الحجب يقول رحمه الله: “السلوك سير قلبي، والمشايخ المسلِّكون أطباء في تصفية القلوب. ليس طِبُّهم من قبيل وصف الدواء من بعيد، بل هم أنفسهم دواء، صُحْبتهم ومجالستهم ومحبتهم ومخاللَتهم تَعَرُّضٌ مباشر للإشعاع القلبي الشافي بإذن الله الذي يودعه الله عز وجل في قلوب أوليائه”. [ref]المرجع نفسه، والصفحة[/ref]
2- المحاذيــر المهلكة
كما توجد على عتبة بداية طريق السلوك حجباً تمنع من الانطلاق توجد أيضا محاذير تشوش وتفسد على السالك سلوكه إلى الله وعلى رأسها:
النفاق والرياء: جاء في كتاب الإحسان عن المرشد رحمه الله قوله: “مرض النفاق يشعِّبُك ويُعَوِّصُك، وهو مرض عُضال. النافقاء هي جحر فار الصحراء المسمى يربوعاً يجعل لجحره بابين، ومن النافقاء أخذت كلمة النفاق لذي الوجهين، ذي البابين، لا صدق له، ولا طمأنينة، لا ثقة، لا قرار. لسانه مزدوج، ذمته مزدوجة، سلوكه مزدوج، لا وجهة له تعرف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أربع من كن فيه كان منافقاً خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”. رواه الشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو. وفي رواية عوض “إذا اؤتمن خان” جاءت “إذا وعد أخلف”. [ref]ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ط1/1998، مطبوعات الأفق، ص:357[/ref]
هكذا يعرفنا الإمام رحمه الله بمعنى النفاق ويذكرنا بخصاله كما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف. وفي ذكره رحمه الله لخصال النفاق الأربعة بيّن أن أخطرها الكذب والتكذيب، وأن أفظع التكذيب التكذيب بيوم الدين. بينما أكثره غباوة كذب الإنسان على نفسه بالإظهار من الصفات والسلوك ما ليس فيها، وأطلق على هذا الرياء. فيكون الرياء والسمعة وحب الشهرة من النفاق والعياذ بالله. فمن الرجولة التي كانت عند الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا من أشد الناس محاسبة للنفس.
و”التدقيق على النفس هو عكس الرياء، هو إخلاص الإخلاص، هو الشفاء التام من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، هو أن لا ترى لنفسك مزية، ولا تعترف لها فيما بينك وبين الله بإخلاص. تتهمها أبدا. إذا فعلت، وأنّى لك يا حبيبي بلا طبيب حبيب! ألبسك الله رداء العافية القلبية، رداء الصدق والإخلاص”. [ref]نفس المرجع السابق، ص: 360[/ref]
فعن أبي عثمان النهدي عن سيدنا حنظله بن الربيع الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكّرنا بالنار والجنة. حتى كأنّا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فو الله! إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تُذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأى عين. فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة” ثلاث مرات. [ref]رواه مسلم في المسند الصحيح[/ref]
الاستدراج: لماذا يوصي أهل السلوك دائما بطلب الاستقامة عوض طلب الكرامة؟
في استدراج الكفرة والعصاة يقول الله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44-45). وفي استدراج المكذبين يقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف:182-183). وفي استدراج الأمم يقول سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:43-45). عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما نسوا ما ذكروا به…) الآية”. [ref]رواه الإمام أحمد رحمه الل[/ref]ه وممن ذكرهم القرآن كمثال على الاستدراج بلعم بن باعوراء الملحد في أسماء الله تعالى. يقول جل وعلا في حقه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:175-176).
وفي هذا الصدد يقول الإمام المرشد رحمه الله: “وإن لله عز وجل أبواب فتح لأوليائه، تخرج إليهم الهداية من باب (إنا فتحنا لك)، وله عز وجل أبواب فتح على المستدرجين، تخرج عليهم البلية من باب (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ). بين فتحنا لك وفتحنا عليهم تكمن حكمة الله البالغة التي يتقابل فيها النظراء في المظهر النقضاء في المخبر. مع المفتوح لهم من أهل النور الأولياء خوارق، ومع المفتوح عليهم من أهل الظلام خوارق. هؤلاء مُبعَدون ملعونون، وأولئك مقربون محبوبون”.[ref]الإحسان ج1، مرجع سابق، ص:416[/ref]
فالسالك السلوك الإحساني في يقظة دائمة، وفي حذر تام من غفلة وتقصير يأتيه من نسيان شكر النعمة، أو استدراج يأتيه من مقابلة هذه النعمة بالذنب والمعصية. وقد قال الحسن البصري رحمه الله: “كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالسّتر عليه”. [ref]القرطبي، تفسير القرطبي، ج18، ص:251 [/ref]وقال سيدنا عمر رضي الله عنه لما حملت إليه كنوز كسرى: “اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني أسمعك تقول: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون). [ref]ابن منظور، لسان العرب، ج3، ص:92[/ref]
يورد الأستاذ ياسين رحمه الله مثالا للاستدراج فيقول: “ظهر في القرن الماضي في الهند مجدد كبير لديانتهم الوثنية اسمه “راما كرشنا”. قال عنه غاندي: “إنه مَثَلٌ للعقيدة الحية الساطعة التي تحمل في طياتها العَوْن والقوة لآلاف من الرجال والنساء لولاه لظلوا محرومين من النور الروحي”.
يدعو راما كرشنا وغاندي في أثره وأشياعه من بعده إلى توحيد الأديان، لأن كل الأديان العظمى في زعمهم تنتهي، بواسطة طرق متباينة، إلى إله واحد.
هذه الدعوة الظلمانية فتح الله على أتباعها من يوكيين ومتزهدين أبواب كل شيء مما يحيِّر العقول ويبهر الناظرين. ومع بضاعة الاستدراج الخارقة يقدم دعاة راما كرشنا، الذي أصبح اسمه هُتافا عاليا في شوارع العواصم العالمية، طَبَقاً مسموما، هو طبق وحدة الوجود الوثنية. قال كرشنا: “اختر لنفسك أي اسم، واختر من صور الله وأشكاله وألوانه أية صورة وأي شكل وأي لون، واعبد الله فهو في كل شيء”.
إلى جانب “الروحانية” الهندية، والحفلات القرينية، والزار، والسحر، والعرافة، يبدو وكأنَّهُ لعبُ أطفال ما وُلع به الغربيون في أمريكا وأوروبا، وما تخصص فيه الروس الملاحدة أنفسهم، من أبحاث في “الباراسيكولوجيا” و”التلباتي” و”التلكنزيا” وغيرها من الظواهر التي لا يحصيها العد نوعا ولا كما.
فتح الله أبواب كل شيء على الملحدين في أسمائه، المستدرجين إلى حيث يعلم هو وحده”. [ref]الإحسان ج1، مرجع سابق، ص:420-421[/ref]
خاتمــة
هذا هو طريق السلوك الإحساني، كُلما قطع فيه السالك من المسافة ما شاء الله تعالى كلما ازداد ضيقه، حتى يصير أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف. وكما تحتاج بدايته إلى الإرادة القوية للانطلاق في الارتقاء، تحتاج نهايته إلى اليقظة الكبيرة للثبات على البقاء في العلياء. (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً) (الكهف:17). فالولي المرشد بعد توفيق الله تعالى وهدايته هو خير حافز على السلوك بتجاوز الحجب المانعة، وهو خير باعث على اليقظة الدائمة من الوقوع في المحاذير الــمُزيغة والمهلكة.
في السلوك الإحساني وما يعرفه الطريق من أحوال وعطاءات وكرامات وإمدادات وأنوار وأسرار تستحليها النفس ويطرب لها القلب وتفرح لها الروح ما قد يدفع ببعض السالكين إلى الخلوة دون الجلوة، وإلى المجاهدة دون الجهاد، وإلى العزلة دون الجماعة، ظانين منهم أن هذا يكفي لتحقيق المقامات العليا. وهذا ما ينبه إليه الإمام رحمه الله تعالى دائما، أن تحقيق المقامات الإحسانية ينبغي أن لا ينفك عن هم ومصير ومقام الأمة في السلوك الحضاري. يقول رحمه الله: “إذا كنت وحدك في خلوة همُّك نفسك ومصيرُك ومقامُك عند الله فلا تُبالِ. أما إذا كان هم مصيرك ومقامك لا ينفك عن هم الأمة ومصيرها فما في المسلك الصوفي بهذا الصدد لك من أسوة. هُم رضي الله عنهم خاضوا بلاء العزلة والصمت ودوام الصوم والمراقبة والذكر، ونحن معشر السالكين على محجة الجهاد، بلاؤنا بإطعام الجائع ودعوة الغافل، ورفع الصوت غضبا لله، ومخالطة الناس، وتنظيمهم في صف الجهاد، مع دوام ذكر الله، والاستمساك بحبل الله، والاعتصام به لتوحيد الأمة بعد طرد المستكبرين والمترفين من سدة السلطان. وبلاء الحاجة والفاقة والتخلف، فإننا كالأيتام في مأدبة اللئام الحضارية الوفرية، باعث مادي مضايق مُلح قابض على الحلقوم يجرنا بسلاسل الضرورة للوحدة وما تقتضيه ونقتضيه من التصنيع والفاعلية في الأرض”. [ref]المرجع تفسه، ص:481[/ref]
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وشكر النعمة وحسن العبادة.
اللهم إنك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلا بك، اللهم فأعطنا منها ما يرضيك عنا.
والحمد لله رب العالمين..
أضف تعليقك (2 )