post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

نتحدث في هذا المقال باختصار عن مفهوم العقل وعن خصوصية العقل المسلم ومراتبه ووظائفه، وعن علاقته بالإيمان، وعن أسباب انحجابه وعماه وعن إمكانات تحريره وتنويره.
أولا: في مفهوم العقل ومراتبه
1. مفهوم العقل: للمفاهيم هويتها وتاريخها وتطورها، وهي غير واضحة بما يكفي عند الجميع، بل تتصف أحيانا باللَّبس والغموض، مع العلم أنها متصلة حتما بلغة المتكلم، وبالثقافة التي تنتجها، وتتطور بتطور الثقافات واختلاف الاستعمالات، إذ &#8220;من العبث أن نريد وصف عمليات تفكير عقلي ما بعزلها جذريا عن سياق البنى والوظائف الاجتماعية التي تمثل ركيزتها&#8221; 1 . بالإضافة إلى غموض المفهوم فهو لم يثبت على معنى واحد، وإنما وقع فيه تحول كبير في التاريخ، حيث كانت لوغوس logos تعني مع هيراقليطس الكلمة الإلهية ولا يبعد أن تكون الكلمة الإلهية هي الوحي الإلهي المنزل، وعين العقل هي فهم الوحي، ثم مع مرور الزمن وتبدُّل الأمم أصبح العقل هو الإدراك المجرد المنفصل عن الوحي. وصل الغموض إلى حدّ القول بأن العقل لا حقيقة له، أي لا تعريف له، ولا يلزم حدُّه،2 مع العلم أن العقل ليس أداة أو جوهرا قائما بذاته (أرسطو)3 وإنما هو فعلٌ من أفعال الإدراك، محلُّه القلب.   2. حدود العقل ووظائفه: لا يدعي العقل المعرفة خارج نطاقه، بل يعترف بعجزه، مثلما أنه لا يعقل نفسه (عمليات التعقل)، ولا يعقل الغيب لتفلته من آليات التكميم والحساب والبرهنة التي ألفها تعقل العقلاء، ولا يجيب عن جميع الأسئلة التي يطرحها الإنسان وتتعلق بوجوده ومصيره ومعناه. رغم ما ادعته الفلسفات العقلانية للعقل من قدرات مطلقة على التعقل وإدراك اليقين، ناهيك عن تفاوت تعقل الناس بتفاوت نور البصيرة في قلوبهم. وليس بعيدا عن هذا السياق يعالج الكتاب &#8220;محنة العقل المسلم&#8221;4 إشكالية مهمة في تاريخ الفكر البشري، وهي المتعلقة بطبيعة العقل البشري وحدوده، فبعد مراجعة المفهوم في اللغة والاصطلاح التاريخي المتداول في مختلف المعارف الإنسانية، ومقارنة ذلك بالمعنى الوارد في القرآن الكريم، انتبه المؤلف رحمه الله إلى حقيقة مفادها أنه بين المعنيين فرق نوعي: عقلٌ معتد بنفسه وبعقلانيته (عقل دنياوي)، وعقلٌ متَّصل بالوحي وبنورانيته (عقل إيماني). فالعقل المؤمن يتخذ الوحي مرجعا لنظره وحكمه وسعيه في عالم الأسباب المسخر للإنسان، بينما يكتفي العقل الـمُعرِض عن الوحي بذاته ومقولاته الفلسفية وخبرته التجريبية، مع العلم أن العقل المعاشي والتجريبي هو عقل مشترك بين المؤمنين وغيرهم.   ثانيا: أسباب محنة العقل المسلم
ترجع أسباب محنة العقل إلى: 1-ادعائه القدرة على معرفة كل شيء، وإنكار كل معرفة يعجز عن إدراكها، 2-انحجابه بعالم الشهادة عن عالم الغيب، وبأشياء الأرض عن معاني السماء.   1. كبرياء العقل أو العقلانية المجردة: ومعناها الإعراض عن الوحي وطمس الفطرة، وتوهم قدرة العقل على تعقل كل شيء، نتيجة تأثير الفلسفة العقلانية التي لا تؤمن إلا بالعقل، مع تمييز العقلانية المذهبية عن العقلانية التدبيرية. وإذا اكتفى العقل بمدركاته في البحث العلمي والتقني والأنثروبولوجي، واقتنع بما راكمته البشرية من ظنون وتخمينات وصمَّ آذانه عن سماع الوحي ونداء الغيب فهو عقلٌ أصم، وإن ادعى امتلاك المعرفة والعلم والحقيقة بلا وحي فهو عقل أعمى عن نور الحق الذي جاء به الأنبياء. ومن عاهتي الصمم والعمى يعيش العقل في محنة كبرى لا ينفعه في الخروج منها تعنُّته وادعائه وإعراضه.   2. انحجاب العقل أو الدنياوية العمياء: الاعتداد بالدنيا فقط دون الآخرة، {بلِ ادَّارَكَ علمُهم في الْآخِرَةِ ۚ بل هُم فِي شَكٍّ مِنْهَا بَل هُمْ مِنْهَا عمُون}(النمل:66)، وبناء الدنيا وتحقيق الرخاء مطلب إنساني مشترك بين الجميع متدينين وغير متدينين، لكنه لا يكفي لننظر إلى الدينا كما هي دار ابتلاء وامتحان وعمل صالح، ولا يكفي لننال الفلاح ورضى الله في الآخرة، ولقد أصيب العقل المسلم عموما في القرون الأخيرة بداء الغفلة عن فقه السنن الكونية والاجتماعية في رقي الأمم وانهيارها، فتعطلت عطاءات العقل التجريبي وتقلصت إمكانات نهضته، وهو الذي نشأ في ظل الحضارة الإسلامية وتطور قرونا قبل انتقاله إلى الحضارة الأوربية التي احتضنته وطورته.   ثالثا: من وظائف العقل المؤمن العقل المؤمن غير متوقف عند قيود المادية الأرضية الشهادية، بل يعمل بها وهو متحرر من سجونها ومتطلع إلى ما وراءها من معارف وعلوم هي من أنوار الوحي والكرم الإلهي للمتقين من عباده.   1. تحرير الإرادة: أي تحرير التفكير من قيود العقلانية المجردة والشَّكِّية، ومن ثقافة اللائيكية السائلة التي تُلغي الدّين وتُحول الإنسان إلى سلعة والعالم إلى سوق، ومن ذهنية قاعدة مغلوبة ومسلوبة، ومن ثقافة تاريخية موروثة، لينسجم مع الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان، ويؤدي وظيفته في الدنيا بإتقان: فيكون قائما لله شاهدا بالقسط بين الناس، صوتا صادقا للحق والخير والعدل والجمال، وضميرا حيا لنداء الحق الخالد &#8230;   2. تنوير القلب: يتنور القلب بنور الإيمان ويزداد تنويرا بالتدرج في معارج الإيمان، عبر تربية إيمانية متوازنة وشاملة، تجعل المؤمن خاشعا لله، مستضيئا عقله وباقي مداركه بنور الوحي، وعاملا بإخلاص في ما ينفعه وينفع الناس في الدنيا والآخرة، ليكون العقل عقلا مؤمنا منظما خبيرا، متخلصا من آفات الخرافية والقعود والاستقالة&#8230; وتبدأ عمليات التنوير الإيماني بالإقبال على الله بالفرض والنفل، بدءا بالوضوء والصلاة وتحري الحلال في الكسب وحسن الأخلاق وسائر الطاعات، قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}(التغابن:11)، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾(العنكبوت:45)، فـ&#8221;كل طاعة تُنور العقل&#8221;5 ، وهكذا تربي خصالُ الإيمان وشعبُه العقلَ وتُنوره وتثوره. والحمد لله رب العالمين.    
[1] &#8211; غرانجي، جيل غاستون. العقل، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2004م، ص 12 [2] &#8211; ابن بزيزة، عبد العزيز. الإسعاد في شرح الاعتقاد، تحقيق عبد الرزاق بسرور وعماد السهيلي، دار الضياء، الكويت، ط 1، 1435ه/2014م، ص 128-129 [3] &#8211; مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، ط1، 1403ه/1983م، ص 6 [4] &#8211; ياسين، عبد السلام. محنة العقل المسلم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 50 [5] &#8211; المرجع نفسه، ص 50

عقلان تائهان: مُتكبرٌ وسَفيه

العقل والإيمان: من الانحجاب إلى التنوير

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

قضايا فكرية

العقل والإيمان: من الانحجاب إلى التنوير

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

الهجرة النبوية: الصُّحبة شرطها

عيد الأضحى: آداب ومقاصد

خطبة الــوداع

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

مقالات ذات صلة