post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>القرآن الكريم وهداية العقل</h2>
 وحده القرآن الكريم يوفر للعقل الرؤية الشاملة للوجود وامتداداته الزمانية والمكانية، ومنه المنهجية المعرفية القمينة بتحقيق الاستخلاف المعرفي للإنسان. ولا يخفى أن التأسيس القرآني لوحدة العلوم وتكاملها وتداخلها قد شابه التحريف والنقص والتعطيل، حتى انحاز العقل المسلم إلى الخوض في قضايا جزئية تاريخية مظروفة بظروفها، ثم سحبها على القضايا الكلية الكبرى التي ينتظم وفقها الخطاب القرآني في إطلاقيته لتلحقها بها أو تهمل النظر فيها. مما يستدعي تجديد صلة العقل بالقرآن المجيد حتى يعطي أكله كل حين بإذن ربه، ويُحَصِّل كل جيل منه حظه في التدبر والتلاوة والاستبصار والعلم. قال الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> 
 العقل وسيلة الإنسان لإبصار الآيات وتبين معانيها وتتبعها بحسب سياقاتها، والحذر من الوقوع في الأوهام المحدقة به، واستكشاف الأجوبة عن الأسئلة الظاهرة والمضمرة في نص الكتاب المجيد وفي واقع الكون، ولا تعارض بين العقل والوحي كما ادعت أغلب الفلسفات، إذ الوحي بالعقل يُتعقل ويُتدبر ويُفهم ويُطبق،كما العقل بالوحيِ يُوجه ويسدد. &#8220;وللمومنين والمومنات والمسلمين والمسلمات ما به يستهدون من ضلالات العقل المعاشي الأصم الأعمى الذي يصطدم خفاشه بنور الوحي فلا يزداد إلا ضلالا. مع المومنين والمومنات كتاب الله تعالى خالق الإنسان ومركب مداركه وهادي من يشاء إلى صراط مستقيم. من هنا تبدأ خصوصية العقل المؤمن واختلافه الجوهري عن العقل المشترك بين البشر، عقل النظر القائم بذاته المستقل المتأله، عقل المعاش المدبر لشؤون الحياة الدنيا، المحجوب عن حقائق الغيب مادام لا يسمع من الوحي ولا يبصر نور الوحي&#8221;)<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a>. 
 تُكتشف المعرفة وتخترع وتتجدد وتتسع وتتعقد، والاستكشاف إعمالٌ لمختلف القدرات العقلية في الاستنباط والاستقراء والاعتبار مع القدرة على النظر المندمج المتوازن في موضوعين متكاملين منسجمين يشرح أحدهما الآخر؛ الكتاب المسطور والكتاب المنظور، وهما متوائمان متوافقان، من حيث يستحيل تناقضهما أو تعارض آياتهما. فكلاهما مبني بناء ربانيا سُننيا محكما لا عبث فيه ولا صدفة ولا فراغ. وكلاهما جُعل للإنسان لعله يتذكر ويعتبر ويخشى، إذ التذكر والاعتبار والخشية علوم كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a>، وَقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>، وَقال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a>. 

<h2>العقل والعلم والوحي</h2>
العلوم علوم وحي وعلوم كون، وتدرك علوم الكون بالتفكر في آيات الله &#8220;الحُسبانية&#8221; (كل شيء عنده بحسبان) مصداقا لقوله تعالى: ﴿الذين يذكرون الله قياما وقُعودا وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خَلق السماوات والأرض ربنا ما خلقتَ هذا باطلا سبحانك فقِنا عذاب النار﴾ <a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a>، كما تدرك علوم الوحي بالتدبر المفضي إلى فتح الأقفال ونزع الأغلال، مصداقا لقوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قُلوبٍ أقفالُها﴾<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a>، والتدبر نظر قلبي وعقلي عميق يأتي بعد الفهم والتفسير. وبين المصدرين تعاضد وتكامل وانسجام واتحاد، آيات الوحي وآيات الكون، وليس بينهما أي تنافر أو تضاد، وكذا بين العلمين يسري هذا التكامل نفسه ويتبلور في نظريات ودراسات وبحوث. 
 ويُتخذ القرآن مصدرا كونيا للعلوم في تآخٍ مع مصدرِ الواقع كما هو لا كما تقدمه الفلسفات المادية في مختلِف تخصصاتها وفروعها. إذ القرآن الكريم مصدر للمنهاج والمعرفة في العلوم المرتبطة بالإنسان والعلوم المرتبطة بالكون، حيث &#8220;تنطلق خُطانا المنهاجية من قواعد الشِّرْعة، يستنير القلبُ بنورها، والعقل بعلمها، والنّظر بمفاهيمها، والإرادة بحافزها وداعيها وندائها، لنقتحم العقبة إلى الله عز وجل.&#8221;)<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a>. ويبقى العلم بالله سيد العلوم وأشرفها، يقول الأستاذ ياسين: &#8220;العلم الذي لا علم أشرف منه هو العلم الحق بالحق. هو العلم بالله عز وجل وبكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هو العلم بما فرض الله وسن رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو العلم المفروض طلبه فرضا ينص الحديث. حديث &#8220;طلب العلم فريضة على كل مسلم&#8221; جاءت روايته من أوجه كثيرة بعضها يؤيد بعضا. فهذا هو العلم الواجب&#8221;)<a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a>. 
 لما كان الإنسان الكائن المستخلف من ربه في الكون، المختار في إرادته، المسئول عن أفعاله، وكان فعله يغطي حركة هذا الكون طاعة لخالقه وتفكرا في آلائه وقضاء لمآربه، وانسجاما مع وظيفته، فبَيِّن أن معرفته ينبغي أن تستغرق مجال الكون وما فيه، ولا تقتصر على جزء منه أو تفرض نسبية النظر فيه على مطلق ما يحتويه. ومنه يجب أن تكون الرؤية التعقلية المنهاجية شاملة لمحيط الكون وسعي الإنسان فيه في صيرورته الوجودية، ولا تقتصر على جزء منه كما فعلت الفلسفات التجريبية المادية التي تُلخص المعرفة العلمية في المحسوسات دون المعقولات وتلغي من العلوم علم الغايات، ناهيك عن علوم الوحي ويقين الحياة بعد الممات. 
 بدأ العلم مِن الله تعالى وهو العليم الحكيم، ومِن عنده تعلم العقل ما لم يعلم، وبمشيئة الله كان العلم وكان التعليم، قال تعالى: ﴿إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها﴾﴾<a id="_ednref10" href="#_edn10">[10]</a>، وباسمه كانت القراءة في سور الكتاب وفي آفاق الكون ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾<a id="_ednref11" href="#_edn11">[11]</a>، هذا التعليم الرباني للأسماء هو أول عطاء تزود به الإنسان على وجه الأرض بعد خلقته مستويا في أحسن تقويم، فصار قادرا على معرفة ربه ومعرفة نفسه ومعرفة العالم من حوله بقوانينه وأشيائه. قادرا على التفكر والتدبر والاعتبار، بالجمع بين النظر &#8220;الإنصاتي&#8221; لآي القرآن والنظر &#8220;الاعتباري&#8221; لآي الموجودات من حيث دلالتها على الله، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾<a id="_ednref12" href="#_edn12">[12]</a>، ولا يتدبر من لا يتفكر مثلما لا يتفكر من لا يتدبر، فهما عمليتان متكاملتان متداخلتان تؤسسان معا لمنهج فريد فات الفلسفات المعاصرة أن تهتدي إليه. منهج غاية فهمه واستيعابه والعمل به إسعاد الإنسان والأخذ بيده للخروج من فتنة الابتلاء وتذكيره بوظيفته في الحياة ومعناه، والوصول به عبر سبل السلام إلى نيل الأوطار في العاجل وبلوع المرام في الآجل.
<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>آل عمران: 18 <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>عبد السلام ياسين ، محنة العقل المسلم، ص : 4 <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>فاطر: 28 <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>النازعات: 26 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>الأعلى: 10-11 <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>آل عمران: 191 <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a>النساء: 82 <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a>عبد السلام ياسين محنة العقل المسلم، ص:24 <a id="_edn9" href="#_ednref9">[9]</a>عبد السلام ياسين ، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص: 142 <a id="_edn10" href="#_ednref10">[10]</a>البقرة:30-31 <a id="_edn11" href="#_ednref11">[11]</a>العلق:1 <a id="_edn12" href="#_ednref12">[12]</a>الحشر: 21

العقل والوحي في نظرية المنهاج النبوي 6|9

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

العقل والوحي في نظرية المنهاج النبوي 6|9

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

الأستاذ أحمد الملاخ ثالث ثلاثة

همُّ الآخرة هو البداية الصحيحة

سيدي محمد العلوي ومفاتيح الصُّحبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

مقالات ذات صلة