post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

ذات يوم تلقى أحد الآباء من ابنه الذي كان يعالج في المستشفى الرسالة التالية: أبت! أنا الآن في قسم تشوهات المفاصل والعظام قرب قاعة الجراحة، فإذا أردت زيارتي، اعبر القاعة الخارجية الجنوبية حيث توجد المصحة المتعددة الاختصاصات التي نقلت إليها بعد سقوطي، وحيث يذهب كل مريض عند دخوله ليعاينه الأطباء المساعدون والطلبة، ومن لا يحتاج إلى المعالجة في المستشفى تُقَدم له الوصفة التي تمكنه من الحصول على الدواء من الصيدلية الداخلية.)أما أنا، فقد سجلوا اسمي بعد المعاينة وعرضوني على رئيس الأطباء ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال حيث غسلوني بالماء الساخن وألبسوني ثيابا نظيفة خاصة بالمستشفى). [ref]سيغريد هونكه، ص126.[/ref] تخبرنا سيغريد هونكه أن هذه الرسالة كتبت قبل ألف سنة في أرض الإسلام، أما المؤسسة التي يصفها مريضنا فهي واحدة من مئات المستشفيات المنتشرة آنذاك في تلك البقاع. ففي الصفحة التالية، تخبرنا المؤلفة أن مدينة قرطبة وحدها، كانت تحتوي في أواسط القرن العاشر على حوالي خمسين مؤسسة للاستشفاء). أما ما بقي من الرسالة فيكشف لنا عن مستوى الوعي الإنساني الذي كان سائدا في أرض الإسلام في ذلك الزمان: عندما تصل سترى عن يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة يحاضر فيها رئيس الأطباء أمام الطلبة(&#8230;) ستمر بالقسم الداخلي وقسم الجراحة(&#8230;) وإذا سمعت أنغاما موسيقية أو غناء ينبعث من إحدى القاعات فادخل إليها وانظر, قد أكون هناك في القاعة المخصصة للنقاهة حيث نتسلى بالموسيقى أو المطالعة(&#8230;) واعلم أنني لا أرغب أبدا في الرحيل, فكل شيء هنا جميل ونظيف؛ الأسرة وثيرة، والأغطية من الدمقس الأبيض، والملاء شديدُ النعومة مثل الحرير، وكل غرفة تتوفر على الماء الجاري وتحظى بالتدفئة عندما تصبح الليالي باردة&#8230;). [ref]نفسه.[/ref] لقد كان بيرك محقا عندما تحدث عن القوة الترنيمية للرسالة التي مكنت من طرد شياطين الظلامية المهيمنة على البشرية آنذاك. هذه القوة هي التي حولت أمة الشعراء إلى حملة رسالة الرحمة إلى العالمين، وأمة الحالمين إلى أمة العلماء والمفكرين. فبينما كانت أوربا المتشبعة بالخرافات, المنبوذة من الكنيسة تنتظر المعجزات، كانت معجزة الرسالة القرآنية ترقى بحس الملاحظة عند المسلمين، تهييئا لميلاد الاستنباط العلمي. عكف المسلمون كما علمهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على فك ألغاز كتاب الخلق لأنهم كانوا يدركون أن الله عز وجل لم يجعل أول آية أوحى بها إلى نبيه هي &#8220;اقرأ&#8221; [ref]أذكر القارئ بأن ترتيب السور والآيات القرآنية ليس ترتيبا زمنيا مما يعني أن القرآن الكريم ليس حبيسا للزمن بل يتجاوزه إلى البعد الكوني والجوهري.[/ref] إلا لحكمة عظيمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ref](سورة العلق)[/ref] . تعلم المسلمون إذن بفضل الرسالة القرآنية والتربية النبوية أن معرفة الله ملازمة للتفكر في خلقه، وأن السعي إلى استقصاء الإشارات الربانية ومعرفة القوانين الإلهية عبر استطلاع العالم المحسوس عبادة من أشرف العبادات وأعظمها، لأن خلافة الله في الأرض تفرض معرفة هذه الأرض وهذا العالم، قوانينه وألغازه. وتوحيد الله عز وجل ينفي كل ازدواجية في خلق الإنسان والحياة والموت، فلا إله إلا الله تعني أيضا أن الخليقة منسجمة تمام الانسجام, لأن خالقها واحد أحد: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ref](سورة الأنبياء)[/ref] . ولأن الله هو كما يقول سبحانه: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [ref](سورة الرحمن)[/ref] . &#8220;الميزان&#8221;: لفظ يعني أداة الوزن وعملية الوزن والتوازن، ميزان لا يظلم الشريك في أي مجال, ميزان حض عليه الله تعالى كما حض على الحساب الدقيق الذي يمكن الإنسان من معرفة التوازنات الطبيعية. وحدانية الله عز وجل ووحدة الخلق وتستقر جذور العلم الدقيق في أرضية القرآن الكريم الذي يدعو البصر إلى النظر، ويحث العقل على التفكير، بخطاب زاخر بالتحديات والتحفيزات في آن واحد: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [ref](سورة الرحمن)[/ref] . مكن العلم الدقيق الإنسان من الانفلات من قبضة الجاذبية الأرضية، لكن غزوه للسماوات يظل أمرا بعيد المنال. أما عالم الجن فيذكرنا دائما بأن قدراتنا قاصرة محدودة. فالفضاء شاسع جدا والإنسان قادر على استكشاف الكثير من مجاهله إن لم يدمر قبل ذلك موطنه الأصلي. لكن القدرة الحقيقية تبقى في يد الله سبحانه وتعالى الذي يضمن وحده التوازن الحقيقي الذي يجعل التفاحة تسقط دائما نحو الأرض، والذي يجعل الأرض تدور دائما في نفس الاتجاه، والذي يجعل دورانها حول الشمس يخضع لنظام دقيق صارم. من الذي يملك القدرة إذن ويتفضل بجزء ضئيل منها على الإنسان عندما يحفظ انتظام القوانين الكونية؟ يكفي أن يتحول كوكب الأرض قليلا عن مداره الحالي حول الشمس لتصبح جميع مكتسباتنا العلمية ملغاة، ولتنقلب حياتنا فوق الأرض رأسا على عقب، إلا إذا غادرناه باحثين لنا عن مأوى في هذا الفضاء العدواني الفسيح. لقد انبعثت في أرض الإسلام -بفعل التشجيع القرآني- مبادرات علمية متخصصة لم يسبق لها مثيل, بينما كان أتباع الكنيسة في البلدان النصرانية ملزمين بعدم إبداء أي فضول أو التعبير عن أي طموح إلى فهم لغز الكون. كان السعي نحو كشف أسرار الخلق خطيئة كبرى! كان العالم الإسلامي يعيش وضعا مناقضا تماما لوضع العالم النصراني. لم يكن الإيمان فيه يعني أبدا الجبرية بل كان الاستسلام لله عز وجل ملازما لحب المعرفة، لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وبذلك أصبح في أقل من قرن عالما بلغت الثقافة فيه حدا لم يبلغه في التاريخ سوى العالم الغربي الحديث. ولا يعني ذلك أن الفلسفتين اللتين تأسست عليهما الثقافتان متشابهتان بل هما متعارضتان تمام التعارض، فإحداهما تسعى إلى معرفة العلة والأخرى لا تهتم سوى بالكيفية. وإذا كانت الثقافة في العالم الغربي الحداثي وسيلة فعالة للإفلات من المقدس (الذي كانت الكنيسة المتعصبة حاميته) فإنها في أرض الإسلام النافذة التي يطل منها العقل على المقدس، لأن الدراسة والبحث يشكلان أحد سبل السعي نحو الكمال الروحي، فكلما تعاظم تمجيد الله عز وجل لدينا تعاظمت معرفتنا بما أنشأ من قوانين طبيعية يقوم عليها التوازن الكوني. وهكذا كان المسجد مكانا للعبادة والركوع والسجود، ومركزا للتأمل في ملكوت الله عز وجل. ففي كتابها المذكور آنفا لا تتوقف سيغريد هونكه عن التعبير عن دهشتها إزاء العالم الإسلامي، وهي حين تتحدث عن وظيفة المسجد في القرن العاشر للميلاد (الثالث الهجري) تؤكد انعدام التعارض بين العلم والإيمان في أرض الإسلام، بل تصف تكاملهما وانسجامهما التام آنذاك، فمن هذا الفضاء المقدس (المسجد) يقلع العلم الدقيق: في كل مسجد مكتبة(&#8230;) وتحت أقواس المسجد، يمكن للطالب أن يحضر دروس أساتذة أكفاء عابرين يقدمون في الغالب من أقصى بقاع الإمبراطورية العربية. لقد كان المتعلمون أثناء رحلتهم إلى مكة لأداء الحج يغتنمون الفرصة، ويزورون مراكز الثقافة العربية الواقعة على طريقهم للاستماع إلى كبار الأساتذة في دمشق أو بغداد. وكانوا يجوبون أطراف العالم الإسلامي من سواحل بحر قزوين إلى سواحل الأطلسي سواء كانوا مؤرخين أو جغرافيين أو علماء حيوان&#8230;) [ref]سيغريد هونكه، ص235- 245.[/ref] . هذا ويزداد العجب حين نعلم أن الشغف بالمعرفة الذي واكب نزول الوحي لم يكن متوقعا من أمة لم تكن لها أية سابقة في هذا المجال، فقد ورث العالم الإسلامي علوم الحضارات الأخرى خاصة حضارة الإغريق وطورها، بل جعل محورها هو الإنسان، ثم بثها في جميع الأصقاع. كانت جميع المعايير الموضوعية ترشح الشعوب الأخرى إلى القيام بهذا الدور بدل هذه الأمة من راكبي الجمال الذين تميزوا بشعرهم وشجاعتهم ونخوتهم العربية فقط. كانت المعجزة العربية هي هذا الإسلام الذي جاء ليجمع سماء الإنسان بأرضه، ليوقظ عقله، ويعيد ترتيب أولوياته، ويرقى بحسه، ويمنح لحياته معنى، ويعالج تناقضه. وبذلك انتهت حرب الآلهة التي كانت تسكن العقول وتعيق الجهود، فبيقينه في الله وثقته بأن العالم المادي ليس وليد الصدفة، كان المسلم يستعد لتدبير شؤون العالم وفق أقل الشروط الممكنة. وبفضل بساطة تعاليم الإسلام وطبيعتها المرنة دخل هذا الدين بسرعة إلى مختلف البلدان، واغتنت الأمة بما حملته الأمم المنضمة إليها من تراث علمي عريق. وبما أن المعرفة [ref]حينما أتحدث عن المعارف فإنني أعني تلك المتعلقة بالعلوم الدقيقة، أما تلك المنتسبة إلى الفلسفة واللاهوت فلم تبلغ تلك الدرجة، فقد انقلب السحر على الساحر عندما حاول المفكرون المسلمون أن يتفوقوا على الإغريق في هذين المجالين، ووقع المعتزلة في الفخ عندما كانوا يسعون إلى الدفاع عن الإسلام بأسلحة الفلسفة الوثنية فظلوا يتخبطون في الاضطرابات الفكرية التي تحدثها دائما العلوم غير الدقيقة.[/ref] دعامة الإيمان، فقد أصبحت أرض الإسلام مرتعا لكل المقبلين على العلم والثقافة الراقيين. 
المقال مقتطف من كتاب &#8220;اركب معنا..دعوة إلى الإبحار&#8221;

المعرفة واجب مقدس

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

قضايا فكرية

المعرفة واجب مقدس

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

التاريخ والفقه الإسلامي..انكسارات الماضي والمستقبل

الزيارة الأخيرة

المعرفة واجب مقدس

امرأة محررة ومسؤولة

رسالة الى الحية التي ترزق عند ربها ”ماما خديجة”

رثاء السلام أو رثاء أب ليس ككل الآباء

مقالات ذات صلة