مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

سُبُلُ الأنَامِ إلَى دَارِ السَّلاَمِ
الإِمَامُ عَلِيٌّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ يَمْدَحُ الدُّنْيَا
خُطَبٌ عُمَرِيَّةٌ
سَلاَمٌ عَلَى هِمَمٍ لاَ يُحِبُّونَ إلاَّ الله

إلى الإخوة والأخوات في الرباط العشري

ذو الحجة 1443هـ/ يوليوز 2022م

رابط تحميل المختارة


سُبُلُ الأنَامِ إلَى دَارِ السَّلاَمِ

التذكرة في الوعظ، لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله

أبصر القوم قصدهم، وبذلوا في الطلب جهدهم، وعلموا أن العلائق عوائق، وأن المُخِفَّ[1] هو السائق، فخفّفوا أنفسهم وأظهرهم من أثقال الأشغال لعلمهم بأن الطريق كثير المزالق. هذه سنة الكرام في طلب ذي الجلال والإكرام، فأين المقتدرون؟ هذه سبيل هداة الأنام إلى دار السلام، فأين المهتدون؟

عاقنا والله عن اقتفاء آثارهم، والتعلق بأذيال غبارهم، فضولُ الكلام والطعام، وشغل القلب والجوارح بكسب الحطام. استُنْفِرْنا في سبيل الله فثبطنا، ودُعينا إلى الجناب العالي فأبينا.

مالي والتفريط مالي! قد حال[2] بالتفريط حالي! كم ذا أعلل بالمنى! كم ذا أسوف بالمحال! أين التزود للرحيل، فقد دنا وقت ارتحالي؟ قال الحبيب وقد رأى ما بي من الداء العضال: من داؤه الهجران لا يشفيه منه سوى الوصال.   

الداء والدواء

قد ثبت في الحكمة أن شفاء الأمراض قصد أسبابها، فمن استشفى لمرضه بغير ذلك فقد أتى البيوت من غير أبوابها، فمن كان داؤه المعصية فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الاشتغال فشفاؤه في تفريغ البال.

من تفرغ من هموم الدنيا قلبُه قَلَّ تعبُه، وتوفر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر، والورع والزهد، والاحتراس من غوائل النفس ووساوس الشيطان. ومن كثر في الدنيا شغله اسوَدَّ قلبُه، وأظلم طريقه، وكثر همه، ونَصِب[3] بدنه، وصار مهون الوقت، طائش العقل، معقود اللسان عن الذكر، مقيد الجوارح عن الطاعة، فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم، فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشؤوم، ومن فاته القرب من مولاه فهو لو جازت يداه نعيم الخلد محروم.

كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة.

متى أردت أن تعلم أي الدارين أولى بك، فانظر أي الحالين أغلب عليك، فإذا أصحاب الطاعة الجنة أولى بهم، وأصحاب المعصية النار أولى بهم، ولا تخادع نفسك في صحة النظر، فجهل الإنسان بنفسه أضر الضرر، وأعظم الخطر.

وانظر بعين التفكير والاعتبار لو أن طبيبا نصرانيا عفاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض من أمراض الجسد لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدق وقد يكذب، ويصيب ويخطئ، وينصح ويغش، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصح الناصحين، وأصدق القائلين لأجل مرض القلب الذي إذا لم تُشْفَ منه فأنت من أهلك الهالكين.

لا تقدر على التخلص من بلوى المعصية إلا بالتخلص من سجن الغفلة، ولا تتخلص من الغفلة إلا بتضمير[4] البطن، وتفريغ القلب، ومواصلة الذكر، فجوِّعْ بطنك، وارفض شغلك، واذكر ربك، يعتزلْك شيطانك. إن الشيطان حامل على العصيان والعصيانُ جنون، ومن لم يحضره الشيطان فليس بمجنون.

طوبى لمن كان كلامه مناجاة لله، وعمله معاملة مع الله، وفكره في تدبر الله، والاعتبار بصنع الله، ونيته خالصة لوجه الله، يزاحم العلماء بركبتيه، ويقبض على العلم بكلتا يديه. عبادته مؤسسة على القواعد، وعلى تصحيح العقائد.

الإِمَامُ عَلِيٌّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ يَمْدَحُ الدُّنْيَا

‏خزانة الأدب، لتقي الدين الحموي رحمه الله

ذكر التغاير..

” التغاير” سماه قوم “التلطف”، وهو أن يتلطف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه هو أو غيره. فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره، فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح، وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح. فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا مغايرا لأمثاله في ذمها، حيث قال: “أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها، بم تذمها؟ أأنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت ولديك؟ وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء؟ لم ينفع أحدَهم إشفاقُك، ولم تشف لهم بطبّك، ولم تدفع عنهم بقوتك، قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك، وخيلت لك بمصرعهم مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباب الله، ومصلى ملائكته، ومهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة وربحوا منها الجنة، فمن ذا يذمها وقد أدبت بنيها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهليها، فمثلت لهم ببلائها البلى، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، وراحت بعافية، وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا.

  ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال:

من يذم الدنيا بظلم فإني
بطريق الإنصاف أثني عليها
وعظتنا بكل شيء وإنا
حين جدت بالوعظ من مصطفيها
نصحتنا فلم نر النصح نصحا
حين أبدت لأهلها ما لديها
أعلمتنا أن المآل يقينا
للبلى حين جددت عصريها
كم أرتنا مصارع الأهل والـ
أحباب لو نستفيق يوما إليها
يوم بؤس لها ويوم رخا
فتزود ما شئت من يوميها
وتيقن زوال ذاك وهذا
تسل عما تراه من حادثيها
دار زاد لمن تزود منها
وغرور لمن يميل إليها
مهبط الوحي والمصلى الذي
كم عفرت صورة بها خديها
متجر الأولياء قد ربحوا الجـ
نة منها وأوردوا عينيها
رغبت ثم رهبت ليرى
كل لبيب عقباه في حالتيها
وإذا أنصفت تعين أن يثـ
ني عليها ذو البر من ولديها

خُطَبٌ عُمَرِيَّةٌ

جمهرة خطب العرب، أحمد زكي صفوت رحمه الله

لما استخلف عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال: “إني قائل كلمات فأمِّنوا عليهن”. فكان أول منطق نطق به حين استخلف قال: “إنما مثل العرب مثل جمل أَنِفٍ[5] اتبع قائدَه، فلينظر قائدُه حيث يقوده، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنّهم على الطريق”.

وقال ابن قتيبة رحمه الله في عيون الأخبار: لما ولي عمر رضي الله عنه صعد المنبر، فقال: “ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلا لمجلس أبي بكر”، ثم نزل عن مجلسه مرقاة[6]، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “اقرأوا القرآن تُعْرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله. إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله. ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله منزلةَ والي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف تقرُّمَ[7] البهْمَة[8] الأعرابيّةِ: القَضْمَ[9] لا الخَضْمَ[10]“.

وقال ابن عبد ربه رحمه الله: وخطب إذ ولي الخلافة، صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “يأيها الناس، إني داع فأمنوا. اللهم إني غليظ فليني لأهل طاعتك بموافقة الحق، ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك، وأهل الدعارة والنفاق، من غير ظلم مني لهم، ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسخِّني في نوائب المعروف، قصدا[11] من غير سَرَفٍ ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين. اللهم إني كثير الغفلة والنسيان، فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك، فارزقني النشاط فيها، والقوة عليها، بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك. اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام بين يديك، والحياء منك، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفسي، وإصلاح الساعات، والحذر من الشبهات. اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني، من كتابك والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت، إنك على كل شيء قدير”.

وخطب رضي الله عنه أيضا فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي : “أيها الناس، إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى. وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور. كنتم على عهد رسول الله تؤخذون بالوحي، فمن أسر شيئا أُخذ بسريرته، ومن أعلن شيئا أُخذ بعلانيته. فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا قبيحا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدقهُ، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا. واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون. أيها الناس، أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا نساءكم القباطي، فإنه إن لم يشف فإنه يصف. أيها الناس، إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي ولا علي. وإني لأرجو، إن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا، أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وألا يبقى أحد من المسلمين، وإن كان في بيته، إلا أتاه حقُّه ونصيبه من مال الله، وإن لم يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه بدنه. وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق، خير من كثير في عنف. والقتل حتف من الحتوف، يصيب البر والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه. وإذا أراد أحدكم بعيرا، فليعمد إلى الطويل العظيم، فليضر به بعصا، فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره”.

وخطب رضي الله عنه أيضا فقال: “إن الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا، من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه. فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئا لنفسه وعبادته، وكان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه، فجعل لكم عامة خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض. وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون، ثم جعل لكم سمعا وبصرا. ومن نعم الله عليكم؛ نعم عم بها بني آدم، ومنها نعم اختص بها أهل دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها وعوامها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسم ما وصل إليه منها بين الناس كلهم، أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها، إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله. فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أُمَّتَان؛ أُمَّة مستعْبَدة للإسلام وأهله يتجرون لكم، تستصفون معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم، وعليهم المؤونة ولكم المنفعة، وأمّة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبا، فليس لهم معقل يلجؤون إليه، ولا مهرب يتقون به، قد دهمتهم جنود الله عز وجل، ونزلت بساحتهم مع رفاغة[12] العيش، واستفاضة المال، وتتابع البعوث، وسد الثغور بإذن الله في العافية الجليلة العامة التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الإسلام، والله المحمود. مع الفتوح العظام في كل بلد، فما عسى أن يبلغ مع هذا شكر الشاكرين، وذكر الذاكرين، واجتهاد المجتهدين. مع هذه النعم التي لا يحصى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفه، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو، الذي أبلانا هذا، أن يرزقنا العمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته. فاذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، واستتموا نعمة الله عليكم، وفي مجالسكم مثنى وفرادى، فإن الله عز وجل قال لموسى “أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ”[13]، وقال لمحمد : “وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ”[14]. فلو كنتم، إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا، على شعبة من الحق تؤمنون بها، وتستريحون إليها مع المعرفة بالله ودينه، وترجون بها الخير فيما بعد الموت لكان ذلك، ولكنكم كنتم أشد الناس معيشة، وأعظم الناس بالله جهالة، فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب، وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم، أحرياء أن تشحوا على نصيبكم منه، وأن تظهروه على غيره، فبله ما أنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا، وكرامة الآخرة، أو لمن شاء أن يجمع له ذلك منكم. فأذكركم الله الحائل بينكم وبين قلوبكم، إلا ما عرفتم حق الله فعملتم له، وقسرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها ولانتقالها، ووجلا من تحويلها. فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإن الشكر أمن للغير، ونماء للنعمة، واستجلاب للزيادة، وهذا لله على من أمركم ونهيكم واجب”.

وخطب رضي الله عنه أيضا فقال: “أيها الناس، إنه أتي على حين وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وإنه قد خُيل إلي أن أقواما يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس. ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي بين أظهرنا، فقد رُفع الوحي، وذهب النبي ، فإنما أعرفكم بما أقول لكم. ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا به عليه، ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. اقْدَعوا هذه النفوس[15] عن شهواتها، فإنها طَلَعَة[16]، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مريء[17]، وإن الباطل خفيف وبيء[18]، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا”.

 وفي رواية صاحب العقد: “ألا وإني إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسنتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ويأخذوا أموالكم، ألا من رابه شيء من ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده لأقصنكم منه[19]، فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن بعثت عاملا من عمالك، فأدب رجلا من رعيتك فضربه، أتقصه منه؟ قال: نعم، والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، فقد رأيت رسول الله يقص من نفسه”.

وخطب عام الرمادة بالعباس رحمه الله: حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال: “أيها الناس، استغفروا ربكم إنه كان غفارا. اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، وبقية آبائه، وكبار رجاله، فإنك تقول وقولك الحق: “وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا”، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه. اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارا، اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسيرة بمضيعة، اللهم قد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى. اللهم أغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”. فما برحوا حتى علقوا الحذاء وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يقولون: هنيئا لك يا ساقي الحرمين.

وبلغه أن قوما يفضلونه على أبي بكر الصديق، فوثب مغضبا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: “أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما توفي رسول الله ارتدت العرب ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد أن قلنا له: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب. فقال أبو بكر: أو كلكم رأيه على هذا؟ فقلنا نعم. فقال: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلى من أن يكون رأيي هذا. ثم صعد المنبر فحمد الله وكبره، وصلى على نبيه ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. أيها الناس، إن كثر أعداؤكم، وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب. والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. والله -أيها الناس- لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه واستعنت عليهم الله، وهو خير معين ثم نزل”.

وصيته لسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه

وصَّى سعداً بن أبي وقاص رضي الله عنهما حين أمَّره على حرب العراق فقال: “يا سعد -سعد بني وهيب- لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب، إلا طاعته. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه، فإنه الأمر. هذه عظتي إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين.

سَلاَمٌ على هِمَمٍ لا يُحِبُّونَ إِلاَّ اللَّه

التذكرة في الوعظ، لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله

مدح التواضع وذم الكبر

ألا ذو طبع كريم يسمو إلى هذا الفضل العظيم! ألا ذو قلب سليم يراعي حفظ العهد القديم! إنما يقدر على الوفاء بعهد يوم الميثاق من كان سليما من النفاق، إنما يحنُّ إلى مرافقة الرفيق الأعلى من كان طبعه كريما. من نسي عهود ربه، فقد استحوذ الشيطان على قلبه، من خالف سنة نبيه، فقد نظمه الشيطان في حزبه.

قال الإمام أحمد رحمه الله: ما أعلم الناس في زمان أحوج منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان. قيل: ولم؟ قال ظهرت بدع فمن لم يكن عنده حديث وقع فيها.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: إن لله تعالى ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك، فلا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم.

لو أن المبتدع تواضع لكتاب الله وسنة نبيه لاتبع وما ابتدع، ولكنه أعجب برأيه فاقتدى بما اخترع، فالتواضع أصل كبير يتفرع منه شيء كبير. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: “ما من رجل يموت وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تَحِلُّ له الجنة أن يَريحَ ريحَها ولا يراها”.

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “ثلاثة لا تسأل عنهم؛ رجل ينازع الله رداءه الكبرياء وإزاره العزة، ورجل في شك من أمر الله، ورجل يقنط من رحمة الله”.

وعن سليمان بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “أرأيتم سليمان بن داود عليه السلام وما أعطاه الله من الملك؟ فإنه لم يكن يرفع رأسه إلى السماء تخشعا حتى قبضه الله”.

وقال الفتح بن شخوف رحمه الله: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام فسمعته يقول: التواضع يرفع الفقير على الغني، وأحسن من ذلك تواضع الغني للفقير. إنما جعل ترفُّعُ الفقير على الغني من التواضع لأن الفقراء قوم فرغ الله قلوبهم، وجعل رحيق محبته مشروبهم، وأطال على باب خدمته وقوفَهم، وجعل رضاه وقربَه مطلوبَهم، وغضبَه وبعدَه مخوفهم، فهم من خشيته مشفقون، ومن هيبته مطرقون، إن تواضعوا فلرفعته، وإن تذللوا فلعزته، وإن طمعوا ففي صدقته، وإن خضعوا فلعظمته. إلى الله افتقارهم، وبالله افتخارهم، وإلى الله استنادهم، هو كنزهم وعزهم، وفخرهم وذخرهم، ومعبودهم ومقصودهم، ومن كان بهذه الرتبة فمتى تواضع لغير الله أخل بمركز الأدب، واستبدل الخزف بالذهب. من كان رب العباد مقصوده، فهو لكل العباد مقصود.

قل للعاملين لغير الله: يا عظم خسرانكم! وقل للواقفين بغير باب الله: يا طولَ هوانكم! وقل للآملين غير فضل الله: يا خيبةَ آمالكم! وقل للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعةَ أعمالكم!

الأسباب كلها منقطعة إلا أسبابُه، والأبواب كلها مغلقة إلا أبوابُه. جناب الله أعلى مرتقى تسمو إليه همم المرتقين، ليس دونه مقنع للطالبين، ولا وراءه مذهب للسالكين.

سلام الله ورحمته وبركاته على همم لا يرضيها إلا قرب الله ومرضاته. ما حلا لها غير ذكره، ولا انقادت لسوى أمره، فهي الدهر في طاعته وشكره، على حلو العيش ومره، ويسر الأمر وعسره.

أولياء الله لا يحبون ولا يبغضون إلا في الله، ولا يشتاقون ولا يحبون إلا لله، ولا يتوكلون ولا يعتمدون إلا على الله. إذا صفا مشرب معاملة الله لم ينالوا كدر المشارب، وإذا أينع لهم مذهب السلوك إلى الله لم يهتموا لضيق المذاهب، وإذا ظنوا أن الله عنهم راض لم يكترثوا بغضب غاضب، وإذا لم يكن رسول الله ﷺ عليهم عاتبا، لم يشغل قلوبهم عتْب عاتب، رضا رسول الله ﷺ علامة على رضا مرسله، والعمل بالقرآن دليل على الإيمان بمنزله، فاتلوا كتاب الله وتدبروه، وعظموا رسول الله ﷺ ووقروه.

اللهم صل على سيدنا محمد وآله الكرام، ما نسخ النور الظلام، واضرب سرادقات حفظك علينا، ولا تقطع عنا مواد إحسانك إلينا، واحرسنا من فوقنا ومن تحتنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن خلفنا ومن بين أيدينا. افعل اللهم بنا ذلك وسائر المسلمين، ولا تخلنا وإياهم من رحمة تذكرنا بها يا أرحم الراحمين.


[1] أَخفَّ الرَّجل، فهو مُخِفٌ وخَفيف وخِفٌّ، أَي خَفَّت حالُه ورَقَّت وإذا كان قليل الثَّقَلِ. وفي الحديث: (إنَّ بين أَيدِينا عَقَبَةً كَؤُوداً لا يجوزها إلا الـمُخِفّ)؛ يريد المخفَّ من الذنوب وأَسبابِ الدنيا وعُلَقِها؛ ومنه الحديث أَيضاً: (نَجا المُخِفُّون). رواه الحاكم رحمه الله، وصحح إسناده.
[2] حالَ الشيءُ حَوْلاً وحُؤولاً وأَحال: تَحَوَّل.
[3] نَصِبَ الرجلُ نَصَباً: أَعْيا وتَعِبَ.
[4] الضَّمْرُ من الرجال: الضامرُ البَطْنِ، وفي التهذيب: الـمُهَضَّمُ البطن اللطيفُ الجِسْم. تَضْميرُ الجياد أَن تُشَدّ عليها سُروجُها وتُجَلَّل بالأَجِلَّة حتَّى تَعْرق تحتها، فيذهب رَهَلُها، ويشتدّ لحمها، ويُحْمل عليها غِلمانٌ خِفافٌ يُجْرُونها ولا يَعْنُفونَ بها، فإِذا فُعل ذلك بها أُمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرها ولم يقطعها الشَّدُّ.
[5]  أَنِفٌ: أنِفَ البعير اشتكى أنفه من البرة، فهو أنِفٌ. وفي الحديث (المؤمن كالجمل الأنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ)، وذلك للوجع الذي به، فهو ذلول منقاد.
[6]   مرقاة: موقع الرقي أو أداته. صعدت مِرقاةً أو مِرْقاتين، أي درجة أو درجتين.
[7]  تقرم الطعامَ وقرَمَه قرَمَ قَرْماً: أَكله.
[8] البَهمَة: الصَّغير من الضأَن (الذكر والأنثى في ذلك سواء) والجمع: بَهْمٌ، وبِهَامٌ
[9] القضم: قضم يقضِم قضماً: الشيء، كَسَرَه بأسنانه وأكله. الأكل بأطراف الأسنان.
[10] الخضم: الأَكل عامةً، وقيل: هو مَلءُ الفم بالمأكول، وقيل: الخَضْمُ الأَكل بأقْصى الأَضراس والقَضْمُ بأَدْناها.
[11] القَصْدُ استقامةُ الطريق. والقَصْدُ: العَدْل. والقَصْد في الشيء: خلافُ الإِفراطِ وهو ما بين الإِسراف والتقتير.
[12] رفاغة العيش: سعته.
[13] إبراهيم، 5.
[14] الأنفال، 26.
[15] القَدْعُ: الكَفُّ والمَنْعُ. قَدَعَه يَقْدَعُه قَدْعا وأَقْدَعَه فانْقَدَعَ وقَدِعَ إذا كَفَّه عنه؛ ومنه الحديث الحسن: (اقْدَعُوا هذ النُّفُوسَ فإِنها طُلَعةٌ).
[16] طلعة: أي كثيرة التطلع إلى الشيء.
[17] طعَامٌ مَرِيءٌ: سَائِغٌ، لَذِيذٌ، طَيِّبٌ.
[18] الوبيء: ما كثر فيه الوباء، وهو المرض العام. وقيل: الطاعون.
[19] أقَصَّ فلانٌ من نفسه: مكَّنَ غريمَه من الاقتصاص منه.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد