post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>مقدمة</h2>
يولد الإنسان على الفطرة، مهيئا للحياة والمعرفة والسلوك، لكنه بعد الولادة يلتقي بواقع أسري ووضع اجتماعي وتاريخ قومي، فتتشكل هويته النفسية والاجتماعية وتتحدد أذواقه وميولاته من خلال تأثره واندماجه في تركيب بيئته، فيتوجه تفكيره وسلوكه وفق معايير تلقفها من الوسط وشكلت مرجعيته في التقويم والحكم على الأفكار والمعارف.
وفي الثقافة المعاصرة يغلبُ على عامة النَّاس تصورٌ يفيد أن العلوم قد بلغت شأوا من السمو والإنجاز يمكن من خلاله فقط تفسير كل الحوادث وفهم كل الظواهر والجواب عن جميع الأسئلة، ظنا أن العقل البشري تجاوز حالة القصور وتخلص من عائق العجز، وانبرى قادرا على فك ألغاز الوجود والحياة والمصير. زاد هذا الفهم رسوخا في أذهان الناس انتشار فلسفة تمجيد العقل، وسحر أعينهم باصطلاحات &#8220;العقلنة&#8221; و&#8221;العقلانية&#8221; و&#8221;العلمية&#8221; و&#8221;الموضوعية&#8221; التي قطعت –في نظر أصحابها- مع أنواع التفكير السابق عن منجزات العلم الوضعي، وأضحى العقل سيدا في مملكته، بل صنما يُعبد في الأرض.
وتأثرا بالثقافة الغالبة اكتسح الخطاب العقلاني الممجِّد للعقل الفكرَ الإسلامي وغزا عقول كثير من المثقفين والباحثين، فانخرطت عصابات من مفكري الإسلام ودعاة النهضة العربية واليقظة الإسلامية في مُوضة العقلانية والبحث في نصوص الوحي وتراث السابقين عن مادة تقديس العقل والإشادة به وإبراز مكانته العليا وسلطته القاهرة، حرصا منهم على مواتاة خطاب الآخر ومحاولة التكيف معه حتى لا ينعت القوم بـ&#8221;التخلُّف&#8221; ويرمى دينهم بـ&#8221;الرجعية&#8221;.
في مقابل ذلك، ساد في الأمة خمولٌ فكري ينتسب إلى الدِّين ويُنكر باسمه كلّ شيءٍ قادم من الآخر؛ بخيره وشرِّه، عاجزٌ عن إنجاز ما دعا الدين إلى إقامته وحفظه، مغلوبٌ على أمره في ضرورات معاشه بله إبلاغ الرسالة في العالمين من موقع القوة والأمانة وبأسلوب الرفق والرحمة.
عقلان في الأمة تائهان، عقل متكبر وعقل سفيه، الأول متفلسف والآخر متجبر. وهذا ما سنقدمه من خلال قراءة عنوان &#8220;العقل&#8221; في الجزء الثاني من كتاب الإحسان.
<h2>أولا: العقل المتكبر المتفلسف</h2>
زاحم الخطاب الفلسفي العقلاني الثقافة الدينية في أوربا وأزاحها إلى الهامش، وأقام تعارضا بين العقل والدين، يمثل العقل العلم والتقدم والتحضر وسائر القيم المادية الإنتاجية، بينما يشير الدين إلى واقع التخلف والانغلاق والماضوية والعنف، حيث ينبري العقل متألها وحاكما ومرجعا في معرفة الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والمقبول من المردود.
عقل فلسفيٌ متكبر بما عنده من معارف ومناهج، وبما معه من تخمينات وظنون وشكوك، وبما يرجع إليه من أمثلة ومقولات، وما يؤيد به تعاليه من منجزات العلوم والتقنيات على الأرض، فيظن أنه أحكم نظرته إلى الواقع وجعله في قبضته، ويا ويل من سولت له نفسه التساؤل عن ماقبل المادة أو الغاية من الخلق أو معنى الوجود! وفي هذا الإطار نشأت فلسفة غزو الطبيعة وغزو الفضاء وإخضاع الكون للإنسان المارد المتسيِّد. أما سؤال الخالقية فيُفسد على السائل مزاجه ويخرجه من دائرة &#8220;العلمية&#8221; إلى التفسيرات &#8220;اللاعلمية&#8221;، فخالق الكون موضوع مبهم، لكل من فكَّر وقدَّر الحق في تخمين القول فيه، وما يثبته هذا بظنونه ينفيه الآخر بشكوكه، و&#8221;عاش هذا العقل الفلسفي في نسجه العنكبوتي يشيِّد منظومات ويقوض أخرى، ينتقد اللاحق ما قاله السابقُ، وينتقد نفسه وإفرازاته&#8221;[1].
<h2>ثانيا: العقل الجبار السفيه </h2>
الاختراع مطلبٌ إنساني كوني مُشترك، واجبٌ في حق الأمة المسلمة مثل باقي الأمم، وهو سبب عظيم من أسباب تحصيل القوة والتمكين في الأرض، لكن العقل المخترع المزهو بمخترعاته، يحرص على تجاهل الأسئلة الكبرى ويتهرب من مواجهة قلقها، وسرعان ما يحتمي بمنجزاته يشيد بها ويستصنمها، بل يقدمها دليلا على قدرته الفائقة على معرفة ما في الكون وتطويع أشيائه وقوانينه لخدمة الإنسان والاستجابة لرغباته التي لا تنتهي.
إن وجود الكون بنظامه وأشيائه لا يعني شيئا عند العقل الجبار سوى فضاء للتأمل الحر واستخراج المعادن واستهلاك الأقوات، ثم الاستعلاء في الأرض والاستكبار على الخلق، وكل شيء مع ذلك هو دنيا في دنيا.  ولا شيء بعد الموت ولا اعتبار بالخلق على الخالق ولا استدلال بالصنعة على الصانع. فهو عقل جبار بكسبه الذي راكمه بتجاربه ومنجزاته، وذلك مطلب من مطالبه وتلك وظيفة من وظائفه؛ الإنجاز والفاعلية، غير أن انطماس فطرته واستعمال ذكائه في إفساد عقول الناس ونزع حيائهم أسقطه في السفه، &#8220;وإن مكتسبات العقل المخترع ليست سفاهة إلا إن استُعمِلت لأهداف سفيهة&#8221;[2]، وقد يزداد سفها بازدياد اختراعاته التي كانت أولى أن تنبهه إلى حدوده ومخلوقيته، فـ&#8221;لا يزداد العقل السفيه إلا طغيانا كلما توغل في كشف السماوات والأرض&#8221;[3] غرورا وعنادا.
من جهة أخرى، ولكي يثبت أصدقاء الإسلام وأنصاف الباحثين مواكبته للعصر وقابليته للتحديث ينكرون بعض &#8220;الغيبيات&#8221; التي تحرجهم في الحوار مع الآخر العقلاني الذي حسم مسألة الغيب في ظواهر نفسية وخرافات وأساطير. ولا بأس آنذاك من إخفاء مسائل المعجزات والمرائي والكرامات والجن والشياطين، أو تأويلها بما لا ينكره العقل اللاديني المتغول بالصناعة الثقيلة والدقيقة. هذا العقل سفيهٌ بحرصه على إرضاء الناس بما يسخط الله، يتكلف تأويل الغيب ليوافق خطابا متمردا على الوحي جملة، إلا ما كان تراثا وثقافة وفلكلورا ومخطوطات تتنافس في اقتنائها المكتبات.
علماء ومفكرون وباحثون جامعيون يُستخدمون في استصناع خطاب حضاري متأسلم ينسجم مع تدين مائت مسالم، ويقدم صورة باهتة ومنحرفة عن الدين، رسمتها دوائر سياسية خارج العلم والدين والأخلاق، وخطوة خطوة تراهم يتخذون القرآن عضين، لعلهم يظفرون بإرضاء الأسياد وينالون وُدَّهم ودنانيرهم. ولسان حالهم يقول &#8220;إذا كان في إسلامنا ما لا يتنافى مع «العقل» فلا بأس من التخفف من بعض أعباء الغيبية كأن نترجم الجن إلى لغة المكروبات، وأن ننكر المعجزة والكرامة، وأن نبقي الوحي ولوازم الوحي في ركن ساتر لكي لا تفضح غباوتَنا أنوار العقل&#8221;[4].
هما عقلان إذن، عقل متكبر بشكوكه وعقل سفيه بتجبره، وما العقلانية والموضوعية والعلمية سوى تسميات يخفي وراءها تكذيبه الغيب وإنكاره الاعتبار وطمسه الغاية.
<h2>ثالثا: العقل في القرآن</h2>
ينطلق الإمام رحمه الله كعادته في ضبط المفاهيم ومراجعة حمولتها التاريخية في حديثه عن موضوع العقل من القرآن الكريم، ويجعل من الدلالة القرآنية الدلالة الأم التي يحاكِم بها غيرها، فـ&#8221;في حديثنا عن العقل ومرتبته في قاموس الإيمان والإحسان، قاموس القرآن، لابد أن نحدد أولا، انطلاقا من القرآن ورجوعا إلى القرآن معنى «عقل». بعد ذلك يسهل أن نُدرجه في مكان وظيفته حيث يشغل مكانته في حياة المسلمين&#8221;[5].
وتدبرا في خاتمة سورة آل عمران، استنبط ثلاث خصائص للعقل في القرآن، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ (آل عمران: 191).
أولا: اعتبر أن معنى العقل في القرآن ليس هو معنى العقل في التاريخ، فـ&#8221;العقل الذي تحدث عنه القرآن وأشاد به وعدَّله واستعمله شاهدا موثوقا لا يكذب، ليس هو العقل الصنم الذي يقرر من داخل منطق الكفر المادي ويمرِّرُ ويُعرِّف ما هو الحق من الباطل. بل هو العقل الذي يتفكر في الخلق، يتفكر في أن لابد للصنع العجيب الذي تشاهده الحواس من صانع&#8221;[6].
ثانيا: عدَّ من معاني العقل في القرآن العقل الفطري، أي &#8220;الملَكة التي يستدل بها المتفكرُ، اعتمادا على مسَبَّقات مغروزة في الفطرة، على أن هذا الصنع العجيب لا يمكن أن يكون صانعه الضروري عابثا&#8221;[7].
ثالثا: أن هذا &#8220;العقل يتدبر القضية الأولى والثانية ليستنتج منها نتيجة وجودية لا نتيجة فكرية منطقية باردة. يستنتج العقل المحمود في القرآن اهتماما حميما بالمصير الشخصيّ بعد الموت لأن الموت من المعطيات الكونية العامة المندرجة في النظام العجيب، المثيرة أكثر من غيرها للسؤال المحوري: هل كل هذا عبث؟&#8221;[8].
وهذا يفيد مما يفيده أن العقل الراشد المتدبر الحكيم يدرك قصوره، ويعترف بحدوده، فيستمد العلم من خارجه؛ من القرآن والنبوة، إذ جاءه المنادي بخبر السماء حجة دامغة فصدق بفطرته واستجاب ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ﴾(آل عمران: 193)، ثم استأنف تعقله بالتدبر في الوحي والتفكر في الكون والاستبصار في النفس، مدركا لوظيفته ومعترفا بحدوده. إذ &#8220;العقل القرآني واقف على عتبة القلب، خادم مطيع، سامع لنداء المنادي للإيمان، تائب مستجير بربه عز وجل. نظر في الكون نظرتين فرجع خاسئا حسيرا كالاّ مهزوما لما هالهُ من عظمة الخلق الدالة على عظمة الخالق&#8221;[9]، متربعا بين يدي عتبة الأمر والنهي، يقيم العمران في مدينة الشرع بتعبير سيدي عبد القادر الجيلاني، جامعا بين خيري الدنيا والآخرة. و&#8221;على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و«يسمع». فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن&#8221;[10].
&nbsp;
الرباط، 03 شتنبر 2023
[1] &#8211; عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 2018، 2/25 [2] &#8211; نفسه، 2/26 [3] &#8211; نفسه، 2/26 [4] &#8211; نفسه، 2/25 [5] &#8211; نفسه، 2/24 [6] &#8211; نفسه، 2/24 [7] &#8211; نفسه، 2/24 [8] &#8211; نفسه، 2/24 [9] &#8211; نفسه، 2/25 [10] &#8211; عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص23

عقلان تائهان: مُتكبرٌ وسَفيه

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

قضايا فكرية

عقلان تائهان: مُتكبرٌ وسَفيه

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

الهجرة النبوية: الصُّحبة شرطها

عيد الأضحى: آداب ومقاصد

خطبة الــوداع

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

مقالات ذات صلة