post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2 class="wp-block-heading">مقدمة</h2>



يحلو للبعض أن يشبهوا الإمام المرشد عليه رحمة الله ورضوانه بزعيم الهند غاندي في سماحته وسلميته، كما أن عددا من المنصفين يعترفون بأن المغرب مدين بكثير من استقراره لهذا الرجل وما أثله من فكر سمح، وربى عليه أصحابه من رفق ولين ورحمة بالخلْق. ويظهر أثر هذه الرحمة جليا، سواء في مكتوبات الرجل التي تفيض محبة وحلما وحنوا، أو في أخلاقه ولين معشره، ومواقفه في الظروف العصيبة، ومواقف الجماعة التي رباها على الرفق وأبعدها عن العنف وتوابعه. فما السر في الرحمة المتدفقة من هذا الرجل فيما يكتبه ويقوله ويعمل به؟ سنتحدث بداية عن الرحمة فيمكتوبات الرجل، ثم عن تجلياتها في سيرته وسيرة جماعته.



<h2 class="wp-block-heading">الرحمة أمر إلهي وهدي نبوي</h2>



لقد وضع الرجل رحمه الله رحمة واسعة نفسه مكان التلمذة بين يدي رسول من الله يتلو صحفا مطهرة،<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> وأكد في الكثير من مكتوباته أنه يأخذ مباشرة من معين الكتاب والسنة. وإن المتتلمذ بحق للمعينين العظيمين لا بد يتصف بصفة الرحمة التي هي من صفات الله تعالى، ومن صفات صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. قال عز من قائل يخاطب نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a>، فقد حصر ربنا سبحانه الحكمة في بعثة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في الرحمة للعالمين، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، بل كانت الرحمة سببا أصيلا في بعثته، والرحمة تلخص كل مقاصد البعثة الأخرى، فالهداية إلى طريق الخير، والدلالة على الله، والحكم بما أنزل الله وغيرها من مقاصد البعثة كلها رحمة بالخلق، ولذلك قال عليه السلام: &#8220;إنما بعثت رحمة مهداة&#8221;<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a>، وقال عليه السلام أيضا: &#8220;يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا&#8221;<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a>، كما دعا إلى الرفق بالخلق، وجسدت سيرته معاني الرحمة والرفق في أبهى حللها، قال صلى الله عليه وسلم: &#8220;ما كانَ الرفقُ في شيءٍ إلا زانَهُ، و لا نزعَ منْ شيءٍ إلا شانَهُ&#8221;<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a>. وقد قال الإمام رحمه الله نابذا للعنف ومتحدثا عن الرحمة بعد أن ذكر الحديث: &#8220;فنحن ننشد الزين ولا نريد الشين لنا ولا لأمتنا&#8221;<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> فالرحمة زين والعنف شين. ولقد عقد الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين فصلا &#8220;في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات الملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحب&#8221;<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a>، وهل الحب إلا رحمة؟ من هنا نفهم أن الرحمة التي نجدها مبثوثة في مكتوبات الإمام ياسين رحمه الله مصدرها الاقتداء برسول الله الرحيم الرؤوف بالخلق. ولذلك فالحري بأي حركة فكرية تغييرية عاملة لأجل الإسلام أن تتمثل هذه الرحمة النبوية في أدبياتها، وفي عملها لبناء عزة الإسلام، وإلا كانت نقمة على الناس، وابتعدت عن هدي الرحمة النبوي، وكان ما تهدمه أكثر مما تبنيه.



<h2 class="wp-block-heading">مفهوم الرحمة عند الإمام</h2>



لأن الرحمة مفهوم مركزي، فقد أفرد لها الإمام رحمه الله فقرة خاصة، عندما تحدث عن الرحمة القلبية بإزاء الحكمة العقلية، قال رحمه الله: &#8220;أقصد بالرحمة العلاقة القلبية للعبد بربه&#8230; الرحمة ما جاء من الله تعالى للعبد هداية كبعث الرسل إليه، والرحمة تعلق القلب بتلك الهداية، والاستمساك بعروتها حتى تنور كيانه ويتمكن في محبة الله عز وجل&#8221;<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a>. نرى هنا أن مدار هذا المفهوم على القلب، ويبدأ بعلاقة العبد بربه، ثم بسائر الخلق، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح سائر الجسد، ولا يستقيم أن يكون قلب المؤمن عامرا بحب الله تعالى، ويضمر الشر لعباد الله، ويعنف عليهم، فمتى تعلق قلب العبد بربه، حلت فيه الرحمة، التي هي من صفات الله تعالى نقرأها في فاتحة الكتاب في كل صلاة الرحمن الرحيم، ومن صفات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، التي جعلت أصحابه ملتفين حوله، قال تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾<a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a>. ويقابل هذه الرحمة في فكر الإمام المجدد الحكمة، ومدارها على العقل، وليس هذا مقام تفصيل القول فيها. وإذا تتبعنا مكتوبات الإمام لنستخرج منها كل فقرة تحدث فيها عن الرحمة أو ما في معناها فلا نستطيع ذلك، إذ إن من يقرأكلام الرجل يتلمس نفحات الرحمة في كل العبارات تقريبا، وسنحاول هنا ذكر بعض الشذرات من مكتوباته ذات الصلة بالموضوع.



<h2 class="wp-block-heading">الرحمة روح التنظيم</h2>



إن الحديث عن التنظيم حديث عن أفراد يجمعهم هدف محدد، وتنظمهم علاقات واضحة، وتحكمهم قوانين صارمة، هذه الأمور إذا لم تكن مفروشة بالرحمة والمحبة، يوشك جسم التنظيم أن يتفكك، لذلك نجد أن أول خصلة من الخصال العشر في المنهاج النبوي للإمام المجدد رحمه الله الصحبة والجماعة، الصحبة محضن دفء يرد إليه الوارد، والجماعة الرحيمة تحضنه، وهل يتصور حضن بلا رحمة وبلا رفق؟ ولتتحقق هذه الرحمة وتتعمق، جعل الخصلة الثانية هي الذكر، وبالذكر يصقل القلب ويلين، لذلك تحدث عن الرحمة القلبية، قبل الحكمة العقلية التي تخطط وتناور وتقتحم. كما تحدث الأستاذ ياسين رحمه الله عن النواظم الثلاث التي يجب أن تحكم التنظيم، وبدأ بالحب في الله قبل النصيحة والشورى والطاعة، بمعنى أن الأفراد داخل التنظيم إذا لم يجتمعوا على حب الله، ويحبوا بعضهم في الله، يصعب أن يمتثلوا للنصيحة ويطيعوا الأوامر، وهذه أشياء أساسية في كل تنظيم، لذلك جعل أساس النواظم هو الحب في الله، وعندما تتحقق الناظمة الأولى، تتحقق الناظمتان الأخريان، فالأمر هنا مترابط وبعضه ينبني على بعض، والحب في الله مثل الزيت الذي يوضع في المحرك حتى لا تحتك أجزاؤه فيتعرض للتلف. كما جعل الإمام رحمه الله الخصلة الثامنة من خصال المنهاج التؤدةً، ويعني بها من بين ما يعنيه الرفق والتريث والتثبت وعدم استعجال قطف النتائج، وعفو وحقن للدماء، وأورد فيها كلاما نفيسا جدا عن الدولة الإسلامية بعد التمكن، وكيف يجب معاملة المخالف بمقتضيات الرحمة، لكن قبل الحديث عن أمور الدولة ومكان الرحمة فيها، نبدأ بالحديث عن لبنة المجتمع الأولى، الأسرة.



<h2 class="wp-block-heading">الرحمة في الأسرة</h2>



&#8220;لا استقرار للجماعة بدون استقرار للبيوت&#8221;، قولة معروفة يرددها الإمام رحمه الله دائما مخاطبا تلامذته، واستقرار البيوت أساسه الرحمة بالوالدين، وبالأهل من زوج وأبناء. ولقد كان الإمام أيضا يكثر من القول: &#8220;لا مكان في جماعتنا لعاق لوالديه&#8221;، الذي يكون بيته خربا لا يستطيع أن يبني جماعة. ولا يستطيع أحد أن ينكر ما للمرأة من دور في استقرار البيوت، ولذلك فقد خص الإمام رحمه الله كتابا ضخما لقضية المرأة، عنوانه &#8220;تنوير المومنات&#8221;، وركز فيه على معاني الرحمة التي يجب أن تسود البيوت. قال رحمه الله: &#8220;غرسة المرحمة في قلب المومنة يُعرف تغصينها وإزْهارها وإثمارها مما تشيعه حولها، الأقربَ فالأقرب، من أنواع البِر والإحسان والألطاف والأَرفَاقِ. ما بينها وبين ربها عز وجل لا سبيل إلى الاطلاع عليه، ونعرف المرحمة بآثارها. تصلح في الأرض حين يفسد فيها المفسدون. تبذر بذور الحب والرحمة في مجتمع الكراهية&#8221;<a id="_ednref10" href="#_edn10">[10]</a>. علامة الرحمة في قلب المرأة ما تشيعه فيمن حولها، تبذر بذور الحب والرحمة في بيتها أولا، ثم في الأمة بصفة عامة. ويقول في موضع آخر: &#8220;لا تتعاطف كلمةُ &#8220;زوج&#8221; مع كلمة &#8220;خشن&#8221; ولا تتوادعان. لذلك عنوَنّا &#8220;الرجل الخشن&#8221; لنصرِف السوءَ عن الوجه الذي يريده الله وجها جميلا للتساكن والمودة والرحمة. الزواج تلاطف وتعاطف&#8230; الزواج ألْفةٌ وقربٌ، والخشونة نُفور وإِبعاد&#8221;<a id="_ednref1" href="#_edn1">[11]</a>، وفي هذا الكلام تحذير من الخشونة، ودعوة إلى اللين والرحمة والمحبة في معاملة الأزواج، لأن زوجا لا يحسن القيام بمأموريته ومسؤوليته، فيفشل في سياسة سفينة أسرته وتوجيهها، لا يشعر إلا وهي نهبٌ للصخور والمخاطر، فيعنُفُ ويخبطُ، ويقسو ولا يرحم. يتبع&#8230;



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>نظرات في الفقه والتاريخ، ص47. <a id="_edn2" href="#_ednref2">[2]</a>سورة الأنبياء 107 <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a>الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة 8/260. <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a>البخاري من حديث أنس بن مالك رقم 69 <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a>السيوطي في الجامع الصغير من حديث أنس وعائشة، رقم 7964. <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>برنامج نقطة ساخنة الذي تبثه قناة الجزيرة القطرية. <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a>روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيم الجوزية، المكتبة العصرية، بيروت ص 42. <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a>مقدمات في المنهاج &#8211; ص17. <a id="_edn9" href="#_ednref9">[9]</a>سورة آل عمران الآية 159. <a id="_edn10" href="#_ednref10">[10]</a>تنوير المومنات ج2 ص 59. <a id="_edn1" href="#_ednref1">[11]</a>تنوير المومنات ج2 ص 202.

فقه الرحمة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1)

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

فقه الرحمة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1)

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

فقه الرحمة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (1)

رسائل قبر في دولة قهر

فقه الرحمة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (3)

فقه الرحمة عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله (2)

مقالات ذات صلة