post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

في نشأة العقل المسلم | 
نشأ <a href="https://wordpress-1153707-4083331.cloudwaysapps.com/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a2%d9%86%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a7%d8%b4%d8%af/">العقل المسلم</a> في بيئة ثقافية لها خصوصيتها الحضارية، ولم تشتهر بين الأمم بإنجازاتها الفلسفية والعلومية، وما أن تسامعت آذان الفطرة فيها نداء الوحي حتى سارعت إلى الاستجابة والعمل، حيث &#8220;تفتحت القلوب وسمعت السمع الصحيح (&#8230;) واستجابت وعملت عملا صالحا (&#8230;) ووثقت صلتها بالوحي وتلمذتها له&#8221;[1]، ووقف على عتبة الفطرة يسأل السؤال الفطري عن الخالق وعن المصير؛ فأخبره الوحي عن وحدانية الله &#8230;، هذا الوحي الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفق الأشكال المعروفة التي وردت بها الروايات الصحيحة، ليحمل عليه الصلاة والسلام رسالة إلى العالمين مبدأها الأول معرفة الخالق وتوحيده وعبادته&#8221;[2].
في الأكورا وهي ساحة عامة كان يجتمع سكان أثينا لمناقشة القضايا العامة للمدينة بشكل حواري وسجالي، فولد &#8220;العقل المتفلسف&#8221; حيث تأسست المدينة الدولة المستقلة سياسيا واقتصاديا، ونشأت معها العقلانية الفلسفية جنبا إلى جنب، فنضجت الديمقراطية اليونانية جنبا إلى جنب مع الفلسفة، تماما كما ولد العقل الروماني حول &#8220;الفوروم&#8221; (باللاتينية: Forum Romanum) المركز الإداري والتشريعي للإمبراطورية الرومانية، حيث كان الدِّين على الهامش يدور في فلك المركزية السياسية للساحة العامة، وما تصدرت النصرانية المشهد &#8220;إلا بعد أن أوسعت للحضارة الفنونية اليونانية وللفلسفة الأثينية، وللعقلية القانونية الرومانية، ورحبت بها واحتضنتها، واتخذت منها آلة ولباسا وهيأة ومظهرا&#8221;[3]. من هناك بدأ العقل الرومي مسيرته متشبعا بمادية الساحة وعنصريتها وضبابية أهدافها.
ولما تمرد العقل اللائيكي على الكنيسة وكفر بعقائدها وسخر من طقوسها؛ طردت الفلسفة &#8220;التنويرية&#8221; الدِّين من سُدة السيادة طردا مطردا، وجعلت الطبيعة حدود نظرها فعقلنتها ورجع العقل على نفسه يعقلنها، وألغى من اهتمامه كل ما يحيل على الغيب، وكفر بكل مقدس، واعتبر الوحي ومتعلقاته من نبوة ورسالة مجرد &#8220;أمراض ذهانية&#8221; و&#8221;انفصام شخصية&#8221; وهلوسات و&#8221;هذيان&#8221;.
هكذا ولد العقل اليوناني وسليله العقل اللائيكي الشمولي، الذي صم آذانه عن سماع الوحي وهديه، فهو عقل معاشي متفلسف يدور في منطق شيئي مغلق، من أهم إبداعاته المذهب التطوري الدارويني الذي بنى صروحه من خلال التأمل في الطبيعة، واستقرائه ما فيها&#8221; فوجد أن قانون التطور عام في الطبيعة التي تصنع نفسها بنفسها، وتطور لأفرادها أعضاء تتلاءم مع البيئة التطورية&#8221;[4].
ولاختلاف المولد والمنشأ، وتباين البناء النفسي والاجتماعي لكلا العقلين؛ يختلف الباعث والدافع إلى الحركة والعمل، وتتمايز الفلسفة في الكون والتاريخ والحياة؛ لدى المؤمن المسلح بالعقل المسدد بالوحي والمؤيد بنور النبوة، والعقل اللائيكي المنتشي بأطروحاته الفلسفية وإنجازاته العلومية؛ فباعث المومن هو أداؤه الواجب قياما لله وشهادة بالقسط، وتزودا للفوز والفلاح في الآخرة، ساعيا بالخير بين الناس، خادما للإنسان حيث الإنسان، وإن اختلف أصله وعرقه ودينه ومشربه، قاصدا إقامة: &#8220;عمران أخوي نموذجي يغري الإنسان بنظافته وعدله ورخائه وإنسانيته وكرامة آدميته&#8221;[5]. أما محرك عمل الغافل، وباعثه على الفعل في الغالب هو المتعة الحسية واللذة والطمع في المكافأة الدنياوية أو الخوف من العقوبة، وإن اندرج هذا الباعث في روابط اجتماعية ووطنية وقومية&#8230; يقول الإمام رحمه الله: &#8220;لا نستطيع أن نعرف أي إنسان نعني، ويعني غيرنا وأية حقوق؛ إن لم ننظر نظرة متوازية لتطور العقل المسلم والعقل الآخر، إلى أن وصل حالهما إلى ما نرى ونسمع.&#8221;[6]
وتكون المعرفة العلمية أقرب للحق وللصواب عندما تستمد مضامينها من الكتابين؛ كتاب الوحي وكتاب الكون، شريطة أن يكون الاستمداد سليما، فمن تلاوة آيات القرآن الكريم وتدبرها وتتبع سيرة سيد المرسلين واتباعه، والتفكر في خلق الله في الأنفس والآفاق عبر السنين تُستوعب حكمة الله في الخلق وسنته في تاريخ الأمم السابقة؛ نهوض الأمم وسقوطها، قيام الحضارات وانهيارها، ابتلاء الناس وامتحانهم، نصرة الله لعباده ومكره بأعدائه&#8230;ومن أوامره تُحدّد المطالب الشرعية الفردية والجماعية، الآنية والمستقبلية.
يقدم الوحيُ أصول المعارف والعلوم ووسائلها والغاية منها؛ معرفة الإنسان بنفسه وما يتفرع عنها من معارف، ومعرفته بربِّه وما يتفرع عنها من علوم، ومعرفته بغيره من المخلوقات وما يرتبط بها من علوم تخصصية وفوائد عملية، ومعرفته برسالته في الوجود وما يتعلق بها من معارف وسُنن، ومعرفته بمصيره المزدوج في الدنيا والآخرة، وما يتطلبه ذلك من علم وعمل وعمران، لذلك كانت مفاهيم الوحي ومعارفه هي الأصل والمرجع المطلق في النظر والتحقق والبناء والتقويم، وليست اجتهادات الناس وترجيحاتهم واستعمالاتهم المظروفة بظروفهم الوقتية والمكانية، ومهما بلغت تلك الاجتهادات التاريخية من درجة في ادعاء الصحة والمعقولية والإطلاق فهي نسبية متغيرة قابلة للمراجعة وفق قوانين سُنة الله في التغيّر والتبدّل.
لقد يسَّر اللهُ تعالى القرآنَ للتعلُّم والتعليم والتزكية والعمران، عنه يعقل العقلاء ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الزخرف3) به يهتدي المهتدون وبنماذجه الخالدة يقتدي المقتدون، قال الله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الحج:54)، والعقل المؤمن مطالبٌ بأن يستنفذ جهده في فهم مكنونات القرآن الكريم وهو متوجه إلى ربِّه يناجيه وإلى نفسه يزكيها وإلى الواقع من حوله يستصلحه.
وقد ذُكر هذا التيسير الرباني في أربعة مواطن من سورة القمر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17،22،32،40)، وفي سورة مريم: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾ (مريم:97)، وفي مواطن أخرى، إنهاضا للإنسان كي يتعرض لإشعاع القرآن الكريم لعله يؤمن ويتعلم ويهتدي بهدايات الوحي في تفكره وتدبره وتبصره وسلوكه. فـ&#8221;القرآن لا تُدرَك حقائقُه إلا لمن كُشِف غطاؤه، ورُفع غشاؤه، وأزيل وقْره&#8221; كما قال الراغب الأصفهاني، ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (الإسراء:45-46).
مفاهيم الوحي ومعارفه هي الأصل والمرجع المطلق للفكر الإسلامي في النظر والتحليل والبناء والمقارنة والتقويم، وعليها سنبغي أن تنشأ ناشئة المسلمين، حتى تستقر في ألبابهم وأذهانهم مرجعية الوحي، فيصحب المؤمن والمؤمنة القرآن الكريم صحبةَ تلاوة وتدبر واستبصار واعتبار منذ الصبى، ﴿وإذا سَمعُوا مَا أُنزِل إلى الرسُول تَرى أعيُنَهم تَفيضُ من الدَّمع مما عَرفُوا مِن الحَق يقُولُونَ ربَّنا آمَنا فاكتُبنا مَعَ الشَّاهِدين﴾ (المائدة:83)، و&#8221;هكذا معرفة الحق تتسرب مباشرة من القرآن المسموع بالقلب والعقل&#8221;[7]، وما ذلك إلا لأن القرآن الكريم اتخذ مع التربية الوالدية والمسجدية والمدرسية حاكما على المعرفة ومُصحِّحا لها. أما مَن جحد هذه الحقيقة فقد أنزل كلام الله في محل كلام البشر، ففقد ظلم نفسه وظلم غيره، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾(العنكبوت:49)، دون أن يُتوهم النزاع بين الشرع والعقل، مادام &#8220;الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان، ولكون الشرع عقلا من خارج، سلب الله تعالى اسم العقل عن الكافر في غير موضع من القرآن، نحو قوله &#8220;صم بكم عمي فهم لا يعقلون&#8221;[8].
وباختصار، لقد كانت &#8220;وظيفة العقل كما يقول علماؤنا أن ينظر في ملكوت السماء والأرض وفي نظام العالم حتى يقتنع أنه لا بد للوجود من موجد. وعندئذ يستمع للنبوءة تأتيه بخبر الألوهية وخبر الآخرة&#8221;[9]، وغير هذا الطريق لا هداية للعقل من ذاته ولا من الأشياء.
&nbsp;
[1]- عبد السلام ياسين، <a href="https://siraj.net/ar/read?id=1067&amp;page=15">محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى</a>، الرباط، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال، ط1، 1994م، ص14 [2]- نفسه، ص24 [3]- نفسه، ص17 [4]- نفسه، ص6 [5]- نفسه، ص76 [6]- نفسه، ص83 [7]- ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، دار الخطابي للطباعة والنشر، المغرب، ط1، 1989م، ص: 10 [8]  &#8211; الأصفهاني، الراغب. تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط 1، 1983م، ص 73-74، انظر أيضا: Jabre, Farid. La notion de certitude selon Ghazali, Paris, p 65  [9]- ياسين عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص: 490

في نشأة العقل المسلم

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

قضايا فكرية

في نشأة العقل المسلم

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

سيدي محمد العلوي ومفاتيح الصُّحبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

الهجرة النبوية: الصُّحبة شرطها

عيد الأضحى: آداب ومقاصد

خطبة الــوداع

مقالات ذات صلة