post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

قال الله تعالى: (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ اَوِ اِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ اَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (البلد: 11 ـ 18).



تمثل سورة البلد نداء إلاهيا قويا حازما، وإلحاحا ربانيا حانيا رحيما، لا يملك الإنسان العاقل إلا أن يسمع صداه ويستجيب لمقتضاه. نداء يتضمن معنى رفيعا يتجلى فيه الإلحاح الدائم والأزلي من الله عز وجل على عبده أن يسلك إليه السبيل حتى يصل إلى أرفع درجات القرب، لا يعبأ في سبيل الظفر بمحبوبيته بما يلاقيه من مشقة الطريق ووعورة العقبات، قبلة رجائه وحاذي مسارعته التطلع إلى رأس العقبة ومنتهاها. رأس العقبة ومنتهاها ومشارفها هو محبة الله عز وجل وشوق متزايد للفوز برضاه والظفر بالنظر إلى وجهه الكريم.



في هذه الآيات الكريمات نداء رباني لهذا الإنسان الذي أودع الله تعالى في فطرته وعقله وقلبه ونفسه وجسمه قدرات مادية، وحوافز معنوية من عزم وإرادة وصبر ويقين وشجاعة وهمة ويقظة، تؤهله ليهتديَ إلى النجدين، إما إلى طريق الخير أو طريق الشر، وأتاح له الحرية الكاملة التي تتجاوز مجالها الأرضي لتصبح خادمة لمصير الإنسان الأخروي، ذلك المصير الذي يصبح مرتهنا بسلوك الإنسان في الدنيا، فإما سلوك يقتصر على المنفعة الدنيوية فيُصَيِّرُهُ من أصحاب المشأمة، وإما حرية كاملة تنبعث منها إرادة حافزة له على أن يندرج في أصحاب الميمنة.



هذا نداء يناشد الإنسان مطلق الإنسان، أن يفك عنه أولا وعمن حوله كل الأصفاد والأغلال التي تحول بينه وبين الارتقاء المستمر والسلوك الصابر لتحقيق الكمال البشري. نداء يستنهض همة الإنسان ويستحثه لاقتحام العقبة، فمفهوم اقتحام العقبة جعله الإمام ياسين رأسَ المفاهيم المنهاجية المعتمدة في صياغة مشروع إحياء الأمة أفرادا وجماعة، يقول رحمه الله: &#8220;المنهاج النبوي أجملناه في هذه العبارة (اقتحام العقبة إلى الله عز وجل)&#8221;<a href="#_ftn1" id="_ftnref1">[1]</a>.



قال الراغب الأصفهاني: &nbsp;&#8220;الاقتحام توسط شدة مخيفة&#8221;<a href="#_ftn2" id="_ftnref2">[2]</a>، وقال عن العقبة؛ &#8220;هي طريق وعر في الجبل&#8221;<a href="#_ftn3" id="_ftnref3">[3]</a>، فالعقبةُ هي كلُّ ما يعترض صفاءَ القلبِ في حضوره مع الله، أو هي كل عائق يعترض كلَّ مرحلةٍ من مراحل سلوكِ الإنسان إلى الله، سواء كانت مع نفسه أو الشيطان، فالإنسانُ ميَّالٌ بنفسه إلى الراحةِ والدَّعة، مُؤْثِرٌ الإِخلادَ إلى الأرضِ على الجهاد، وذلك لما جُبِلَتْ عليه النفوس من شُحٍّ مُطاع، وهَوًى مُتَّبَع، كما أنه يكابد مدى حياته فتن الدنيا ليصرعَها في النهاية أو تصرَعَه.



إن أول ما يفهم من عبارة &#8220;فلا اقتحم العقبة&#8221; كما يقول الإمام ياسين رحمه الله، هي: &#8220;تحرك سالك إلى مسلوك إليه، صعداً وارتقاءً. تقرب العبد إلى ربه. فكل ما يصرف العبد عن هذه الوجهة، أو يعرقل هذه الحركة، أو ينسيها أثناء السير، أو يذيبها في الانتشار الفكري والشغل الجماعي خطر يهدد عملنا بالسطحية، ثم بالغفلة، ثم بالانحراف. نسأل الله السلامة والعافية، عافية المجاهدين في سبيله&#8221;<a href="#_ftn4" id="_ftnref4">[4]</a>.



فاقتحام العقبة تحرير وعدلٌ وسيادة الإسلام، تحرير من العبودية لغير الله، من التبعية للغير، تحرير للإرادات، تحرير للعقول وسيادة في الاختيار وفي القرار. وقد اعتبر الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله أن&#8221;فك رقبة&#8221; دعوة لتحرير الإنسانية جمعاء من كافة أشكال العبودية لغير الله سواء كانت رقا أو أسرا أو استعمارا<a href="#_ftn5" id="_ftnref5">[5]</a>.



إن الذي يبحث عن الأحكام العينية الجزئية له أن يفسر فك الرقبة وإطعام المسكين واليتيم والكينونة مع الذين آمنوا في سياق الأحكام الفقهية، وتكون في هذا الإطار العقبة المراد اقتحامها فردية لا تتجاوز ذلك إلى ما يخدم الدعوة وما يخدم تحرك جند الله لإقامة دولة الإسلام، لكن هذا لا ينقص شيئا من قيمة هذه الأحكام، فالأحكام التفصيلية باقية على وجهها، ونحن أحوج ما نكون إلى فقه أوسع جامع يعطي الجيلَ الإيمانيَّ معانيَ أشمل عن الاقتحام وطبيعته والعقبات وأنواعها وأبعادها، فيتحول مفهوم فك الرقبة من إطاره الجزئي الذي لا يتجاوز باب الكفارات في فقه العبادات، إلى المعنى الواسع الشمولي الذي يجعل منه تحريرا للإنسان عامة من العبودية لغير الله عز وجل، ويرتفع حكم إطعام اليتيم والمسكين من درجة قربة وطاعة إلى مستوى تحرير طاقات الإنسان بأسرها لينتج بها ما يستطيع به إطعامَ المستضعفين بدءًا من إطعام نفسه، أما الكينونة مع الذين آمنوا فتتحول إلى تحرير كامل للإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد واندماجه في الجماعة، فينضج بذلك وعي المؤمن ويَصِحُّ مسارُهُ عندما يكتمل في وعيه الجمع بين المصيرين: مصيره الفردي إلى الآخرة، ومصير أمته إلى الاستخلاف والتمكين في الأرض. بل تحرير البشرية جمعاء من فساد واستبداد.



وينبغي التنبيه إلى أن اعتماد الأحكام التفصيلية المباشرة يحصر مفهوم العقبة في المضمون الفردي، ويحول دون الفهم العميق والمعرفة الشمولية للإنسان وما يعترض سلوكه من عوائق وحواجز تعترض صعوده في معارج الإيمان. وحاصل القول، فإن الحديث عن العقبة واقتحامها لابد أن يأخذ في عين الاعتبار بعدين أساسيين:



<ul class="wp-block-list">
<li>البعد الإحساني: وهو الذي أشارت إلى بعض جوانبه تأويلات العلماء المتقدم ذكرهم للآية الكريمة من سورة البلد، ويتمحور حول سلوك الفرد المؤمن وما يعترض سبيله من عوائق وحواجز وصعوبات نفسية وذهنية وقلبية وعقلية، وكيفية التخلص من كل ذلك في سبيل بلوغ مراتب الإحسان.</li>



<li>البعد العدلي: وغايته تحقيق العدل من ثلاثة جوانب، الجانب الاجتماعي، والجانب الاقتصادي، والجانب السياسي، والخروج من براثن التخلف الحضاري والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وما يرتبط بهما من فساد حاضر وموروث باعتبارها حواجز تحول دون تحقيق الغاية الاستخلافية.</li>
</ul>



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="#_ftnref1" id="_ftn1">[1]</a> &nbsp;ـ عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، السنة 2018م، ص: 36.



<a href="#_ftnref2" id="_ftn2">[2]</a> &nbsp;ـ الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية &#8211; دمشق بيروت، الطبعة الأولى، السنة 1412ه، ص: 656



<a href="#_ftnref3" id="_ftn3">[3]</a> &nbsp;ـ نفس المصدر، ص: 576



<a href="#_ftnref4" id="_ftn4">[4]</a> &nbsp;ـ عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص: 36



<a href="#_ftnref5" id="_ftn5">[5]</a> &nbsp;ـ ينظر عبد الله كنون، تفسير سور المفصل من القرآن الكريم، ص:369

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -2-

قواعد التفكير المنهاجي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -1-

الصهيونية بين رؤيتين..عبد الوهاب المسيري وعبد السلام ياسين

قضايا فكرية

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

مقالات ذات صلة