post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

مدلولات التغيير في نظرية المنهاج النبوي :
إذا كان المدلول اللغوي للتغيير يدور حول الصلاح والإصلاح والانتقال من حال إلى حال[1]، فإن مفهومه في نظرية المنهاج النبوي يدور حول هاته المعاني من خلال خمسة مدلولات:
<h2>1.   التغيير بين مقصده الأصلي والتبعي:</h2>
إن مقصد التغيير الأصلي عند صاحب نظرية المنهاج النبوي هو بناء الإنسان ليحقق العبودية الخالصة لله تعالى فهو &#8221; يدور حول الإنسان، ويخدُم غاية تحرير الإنسان من كل عبودية، ليدخل في العبودية لله عز وجل&#8221;[2]. لذلك ما فتئ الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يؤكد أن أساس بناء الأمة ينطلق من تربية الإنسان ليتسدد قصده في الحياة، وأن رسالة الجماعة التي تنهض بأعباء التغيير لأعضائها وللأمة هو سعيها &#8221; لأن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد. أن يكون ابتغاء رضــاه، والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته، والوصول إليه، والنظر إلى وجهه الكريم، منطلق الإرادة، وحادي المسارعة وقبلة الرجاء&#8221;[3]؛ فالتغيير بهذا المدلول أصل و &#8221; كل تغيير في السياسة والاقتصاد فإنما هو تبع لهذا التغيير الكلي الجوهري للإنسان&#8221;[4].
وإذا كان تغيير بُنى المجتمع وتنشيط اقتصاده وتطوير وسائله من أهداف التغيير في نظرية المنهاج النبوي فإن مقصده الأسمى هو تحقيق &#8220;التغيير الجذريُ&#8221; في تصور الإنسان لنفسه، وللعالمين الدنيويِّ والأخروي، وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت لا سيما لدى الحاملين لمشروع التغيير الساعين إلى إخراج الأمة من غثائيتها والارتقاء بها إلى مقام الشهود العمراني.
<h2>2.   التغيير قومة:</h2>
اختار الأستاذ ياسين مفهوما قرآنيا أصيلا يختزن جميع مدلولات التغيير، هذا المفهوم هو: &#8221; القومة&#8221;، ومفهوم القومة عند الإمام مفهوم شامل ومتكامل، يشمل بناء الإنسان ليقوم بوظيفة العبادة لله تعالى، والقيام بالقسط الاجتماعي والاقتصادي من خلال مشروع مجتمعي ينشد إقامة العمران الأخوي بديلا عن واقع البؤس والعنف والمادية الذي أدخل الإنسان في دوامة من ضنك العيش؛ إذن: &#8221; التغيير قومة لا تتجزأ&#8221;[5].
وإذا كانت كثير من المشاريع التغييرية تعتبر أن طليعة التغيير هي التي ينبغي أن تستأثر بفعل التغيير، وتسهم فيه الطبقات الشعبية من خلال انتفاضتها على الأنظمة المستبدة، ثم تنتقل إلى وضع انتظار قطف ثمار التغيير؛ انتظارية أثبتت كثير من التجارب الإنسانية أنها صارت من أكبر العقبات في وجه التغيير، بل توفر أكبر فرصة لقوى الظلم والاستبداد أن تستجمع قواها لإعادة صياغة نفسها لتعيد التحكم؛ لذلك يعتبر الإمام ياسين أن بناء الأمة الراشدة القوية من أولويات التغيير لتحقيق قومة حقيقية تنتشلنا من واقع إلى واقع؛ فيصف القومة الإسلامية بأنها: &#8220;ليست عبارة عن انتفاضة جماهيرية تهز أركان الظلم وقد انتهى كل شيء. ليست هديَّةً يأتي بها جند الله للأمة باردةً هنيئة مريئة. ليست إجراء إداريا يَصْلُحُ أمرُ الأمة عَقِبَ تطبيقه. إن القومة تعني، كما لا نمَلُّ نكرر، أن نَعُودَ أمةً مجاهدة كما كنا، راشدةً، تقررُ مصيرَها بإرادتها الحرة، وتفرض قرارها بقوة الساعد المُنتج، وتدبير العقل المتحرر من الخرافة وفلسفة الإلحاد، وتنظيم الطاقات البشرية والاقتصادية. القومةُ أن يصبح أمرُنا شورى بيننا، أن تحمل الأمة عبء الحاضر والمستقبل .&#8221;[6].                              
القومة في منطلقها تغيير لنظرة عامة الشعب لوظيفتهم، وتعبئتهم ليسهموا في البناء، ولتأسيس الوعي لديهم بحقيقة التغيير ومؤونته وأنه مسار، &#8221; إن القومة الإسلامية يجب أن تقدم للعامة وللجماهير، وتترسخ في عقولنا، على أنها فاتحة عهد طويل من البذل (التضحيات) والعمل الدائب. من ماضينا الفتنوي مخلفات ثقال، جروح مثخنة في نفوس الأمة وعقولها وأحوالها&#8221;[7].
<h2>3.   التغيير اقتحام عقبة:</h2>
يصف الأستاذ ياسين فعل التغيير وحركيته على مستوى الفرد والجماعة والأمة بفعل اقتحام العقبة، وقد وظف الإمام هذا الوصف لما له من دلالات قرآنية[8] تعبّر عن هوية التغيير الذي تتغياه، فيعرف اقتحام العقبة بأنه &#8220;تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية&#8221;[9].
كما تستحضر نظرية المنهاج النبوي مختلف التحديات التي تجابه الفرد المؤمن في تزكية نفسه، والارتقاء به لتحقيق كرامته الإنسانية وأداء وظيفته الاستخلافية، والجماعة التي تسعى إلى الارتقاء بأمتها إلى وظيفة الشهود التي ارتضاها الله لها، وهي عقبات ثلاثة:
1. &#8220;الذهنية الرعوية: وهي ذهنية النفوس القاعدة التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل، وأن يدبر غيرها لها وهي لا تقدر أن تدبر. أولئك قوم يحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: &#8220;من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق&#8221;.
2. الأنانية المستعلية أو المتمتعة: يعوق أصحابها عن اقتحام العقبة امتلاء ما هم فيه وطلب المزيد مما هم فيه. قوم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس!
3. العادة الجارفة للمجتمعات المسلمة في تيار التبعية للوضع السائد، المانعة لنا أن نعرف معروفا بميزان الشرع، أو ننكر منكرا يذمه الشرع، فتنة!
ثلاث تغييرات ضروري أن يحدثها الدعاة بتربيتهم وتنظيمهم في الجو الفكري والنفسي والعملي في الأمة. ودون التغيير مقاومة الحكام واضطهادهم للدعاة. دونه جهل المسلمين بالإسلام. دونه هذه الحضارة المادية التي احتلت نفوسنا وأرضنا وحياتنا السياسية واليومية ببضائعها وأفكارها وصنائعها فينا ومكرها&#8221;[10].
وإذا كان فعل التغيير بهذا العمق، وأمامه كل تلك التحديات النفسية والفكرية والواقعية، فمن أين منطلق الاقتحام؟ وكيف تتولد الإرادة لمغالبة الواقع، وتحقيق التحرك الإرادي لتحقيق مقصود التغيير إحسانا على مستوى الأنفس، وعدلا في الأرض؟
يجيب الإمام أن الحاسم في هاته المعادلة هو توتر ثلاثي الأبعاد يحصل للفرد ويمتد أثره، توتُّرُ القلب الذي تحرك فيه الشوق لابتغاء مرضاة مولاه، فانفتحت بصيرته على حقيقة الوجود والمآل، فتحركت جميع مداركه وقواه اجتهادا من أجل تعرف طريق خلاصه الفردي وخلاصه أمته الجماعي؛ والتوتران السابقان لا يُمَكّنا من بلوغ التغيير مداه إلا إن ظلت الإرادة متقدة على مدى المسار من واقع الأمة المأزوم إلى مستقبلها المنشود. يقول الأستاذ ياسين: &#8221; إن توتر القلب شوقا إلى اللّه عز وجل يبقى أماني جميلة عقيمة إن لم يصحبه توتر العقل لمعرفة الشريعة، الطريق، المنهاج، الكتاب والسنة (كلها مترادفات)، ولم يصحبه توتر الإرادة على مدى الإنجاز وقطع المراحل. بين مرمى الطرف ومحط الأشواق وبين مواقع الأقدام في الواقع الآني مسافات شواسع&#8221;[11].
<h2>4.   تغيير كليات لا انحباس في جزئيات:</h2>
إن سؤال الأولويات حاسم في تحديد مسار التغيير والتأثير في مآلاته، والمتأمل في واقع كثيرٍ من تيارات الأمة يجد أن من أعظم ما أُتيت منه اختلال سلم الأولويات في فعلها التغييري؛ وهذا السؤال الحرج عالجته نظرية المنهاج النبوي من زاوية قراءة واقع الأمة ومسار التردي الذي هوت فيه، وأسبابه الحقيقية مع تمييزها عن أعراضه وتجلياته؛ فلما كان موطن الداء الخراب الذي أصاب النفس المسلمة لما ابتعدت عن هدي دينها، وموطن الداء الذي أتيت من قبله الأمة انتقاضُ عروة الحكم واستحالتها استبدادا ووراثة بعدما كانت عدلا وشورى؛ وجب استجماع الجهد واستفراغ الوسع في هذين الثغرين؛ أما الانشغال بمظاهر الفساد التي نتجت عن أصل الداء فسيكون ضربا من هدر الطاقات، لذلك يرى الإمام &#8220;ألا نعمد إلى الجزئيات من ذلك نتخذها ميادين لمعارك جانبية&#8221;[12].
وهذا الترجيح في الأولويات عند الإمام نظر تعليلي يعتبر بمقاصد التغيير ومدى إفضاء وسائله إلى تحقيقها، لذلك نجده يحذر أن ينصرف الجهد في تتبع مظاهر الفساد والغفلة عن جذوره والمنابع التي تغذيه، فيختصر فعل التغيير في &#8221; التذمر، واللعن، وشتم الواقع وملاحقة الزجاجات تكسر، والمجرمين الصغار، والفجار العابثين، حتى يصبح ذلك متنفسا للضمير الإسلامي المعذب، وحتى يصبح آخر الأمر الفتك بعاهر في الشارع، واقتحام حانة، أهدافا في حد ذاتها&#8221;[13]. وهنا يحذر الإمام من صرف الجهد &#8220;أسى على ثمار الفروع&#8221;، ونغفل عن الأسئلة الضرورية: عم تتولد المناكر؟ أين عشها؟ كيف تفرخ؟ كيف تنمو؟ من حاميها ومخططها؟&#8221;.[14]
كما أن الانشغال ببعض جزئيات الدين والتي قد تكون مثار اختلاف يوقع أصحابه في التنطع، وإيقاع الأمة في الفتنة بدل انتشالها منها؛ وفي ذلك يقول: &#8221; إنما التنطع أن يعمد بعض الناس إلى جزئيات من الشريعة يؤولها بفهمه، ويسخر فهمه لتغليب شهوته في الظهور، ليفتن المسلمين والمؤمنين&#8221;[15].
إن دعوة الإمام إلى الانشغال برأس الفساد وأصوله ليس استهانة بمظاهره وآثاره بل سعيا إلى تغيير المنكر من أساسه، أما تتبع الاختلالات الفرعية فيؤدي إلى إنهاك الجهد دون تحقيق التغيير المنشود، بل يمكن أن تصطنع دوائر الفساد من حين لآخر قضايا هامشية جزئية لتشغل المصلحين والدعاة ونخب الأمة وتلهيهم عن قضيتهم الكبرى.
المصدر: التغيير عند الإمام عبد السلام ياسين: مفهومه ومرجعيته وشروطه. مؤتمر التغيير في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام عبد السلام ياسين، مفهومه وإشكالاته وقضاياه، إسطنبول 16 ـ 17 يناير/ كانون الثاني 2016.
<hr />
[1] أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395هـ)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، عام النشر: 1399هـ &#8211; 1979م، مادة: غ-ي-ر. [2]  ياسين عبد السلام، إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر. الطبعة الأولى: 2009، ص: 86. [3] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 8. [4] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، الشركة العربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1989، ص: 88. [5] ياسين عبد السلام ، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق الدار البيضاء. الطبعة الأولى:1994، ص: 173. [6] ياسين عبد السلام، إمامة الأمة، ص: 45 &#8211; 46. [7] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 241. [8] قال الله تعالى في الآيات (10- 18) من سورة البلد: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ). [9] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 16. [10] المنهاج النبوي، ص: 15. [11] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 74. [12]ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص:263. [13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 394. [14] نفسه، ص: 394. [15] نفسه، ص: 264.

مدلولات التغيير في نظرية المنهاج النبوي

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -2-

قواعد التفكير المنهاجي

مكانة الإمام الغزالي عند الإمام عبد السلام ياسين -1-

الصهيونية بين رؤيتين..عبد الوهاب المسيري وعبد السلام ياسين

قضايا فكرية

مدلولات التغيير في نظرية المنهاج النبوي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

شروط التغيير في نظرية المنهاج النبوي

مدلولات التغيير في نظرية المنهاج النبوي

مقالات ذات صلة