post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

المنهاج النبوي انبعاث دعوة العدل والإحسان | 
د. عبد الواحد متوكل | 
قبل ما يقرب من سبعة وثلاثين عاما صدرت الطبعة الأولى من كتاب المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا. ظهر في البداية منجما في أربعة أعداد متوالية من مجلة الجماعة، ثم جمع في كتاب سرعان ما نفد. ونظرا لحالة الاختناق السياسي المهيمنة في البلد والتي كانت، ولا تزال، تضيق بالأصوات المنادية بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد، لم تكن إعادة طبع الكتاب بالأمر الهين، فلجأ الراغبون فيه إلى الاستنساخ للحصول على نسخة من هذا الذي فشا ذكره، وتحدث عنه، بين مؤيد ومعارض، ومنتقد ومساند. وبقي الحال على ذلك إلى أن تيسرت، من بين فرث ودم، طبعة ثانية ثم ثالثة خارج المغرب.
وفي تقديمه<a href="https://siraj.net/ar/read?id=1077&amp;page=11"> للطبعة الثالثة</a> تحدث الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عن عمله في الكتاب فقال إنه كان «استطلاعات محلق من على ربوة الأمل»، و «إطلالات على حافات الطريق وجوانبها ومعالمها، إن يكن للرائد يومئذ استبصار بما يحق وما يتعين من عموميات التربية والتنظيم والزحف، فما كانت له خبرة المدافع المثافن (المثافنة: المدافعة والمزاحمة واكتساب الخبرة المباشرة والاطلاع على الخفايا)»(1). ثم أشار إلى أنه بعد عشر سنوات من صدور الطبعة الأولى للكتاب، قد جرت أحداث جسام، وتغيرت أمور كثيرة ليتساءل: «هل لمِاَ رُسِم منذ عشر سنوات خَلَتْ من مزايا تستفاد حتى يعاد طبعه ويعاد؟»(2).
ولئن كان رحمه الله قد طرح هذا السؤال، ولم تكن قد مرت على صدور الطبعة الأولى إلا عشر سنوات، فإن إعادة طرح السؤال نفسه يكتسي مشروعية أكبر، لاسيما وقد عاشت الأمة الإسلامية خلال العقود الأربعة الماضية أحداثا مهولة، واستنسر بأرضها الطغاة والمفسدون، وأضحت غرضا للمستكبرين والتافهين من كل جنس، وموضوع مؤامرات ودسائس لاتنقطع، يشارك في وضعها والتخطيط لها وتنفيذها الأعداء والعملاء في الداخل والخارج. فهل بعد هذه المحن والإحن التي توالت واستحكمت حلقاتها، والشعوب الإسلامية بلسان الحال أو المقال تجأر وتتساءل: هل إلى خروج من سبيل، لاتزال «لما رسم [منذ ما يقرب من أربعة عقود] مزايا تستفاد حتى يعاد طبعه ويعاد؟»
لا يمكن لإنسان عاقل، مهما أوتي من مواهب وقدرات، إن خرج بنظرية أو تصور ما أو منهاج للعمل أن يقول للناس إن عمله ذاك مبرأ من كل عيب، وخال من الهنات، ولا يقبل تعديلا ولا مراجعة. وللإمام ياسين رحمه الله أقوال كثيرة مشهورة تؤكد هذه الحقيقة. وقد سجل في أول صفحة من مجلة الجماعة التي نشرت الفصول الأولى من كتاب المنهاج ما نصه: «ما كتبناه مطروح للمناقشة والأخذ والرد، فإن وضوح المنهاج لدينا وتعديله وإغناءه ضرورة عملية لكيلا نسير بالارتجال وفي الغموض»(3).
هذا وإن قيمة أي عمل لا تكون وتتأكد بكثرة الإشادة به والدعاية له، وإنما بما له من آثار وفوائد حقيقية لا وهمية. ولئن كان «المنهاج النبوي»، كما وصفه مؤلفه، «علما من العلم، وفكرا من الفكر، واجتهادا من الاجتهاد»(4) فإنه كان حاسما في انبعاث دعوة العدل والإحسان، وسرعة انتشارها، وقوة تماسكها بما وفر لها من منهاج تربوي وفكري وحركي متوازن جَنبَّ الجماعة مخاض التأسيس، وحيرة البداية، والتخبط في المسير. فمنذ أول يوم كانت الرؤية واضحة، والمواقف من قضايا شائكة جلية أقنعت بما بسطته من حجج كثيرين؛
وإن لم تكن داعمة لاقتناعات حاصلة ابتداء لدى البعض، فقد كانت مشجعة للتخلص من حالات التردد لدى آخرين. والأمثلة في هذا الباب كثيرة. من ذلك الموقف من العنف والعمل السري، والارتباط التنظيمي أو المالي بجهات خارجية، والعمل النخبوي والجماهيري، والقطرية والعالمية، وطبيعة النظام السياسي المغربي، ومن أين يبدأ التغيير، والسلفية والصوفية، ومركزية التربية في العمل الإسلامي&#8230; وغير ذلك من القضايا التي كانت مطروحة بحدة في السبعينات والثمانينات، وكانت تثير جدلا واسعا في أوساط الشباب الإسلامي.
غير أن تميز المنهاج لا يكمن فقط فيما وفر من عُدة نظرية، وإنما أيضا وأساسا فيما أرشد إليه من «كيفية » مستقاة من مشكاة النبوة، مسنودة بحضور صاحب المنهاج، بمثاله ومواقفه وسمته ودَلِّه، لحصول صحوة إيمانية في محاضن تربوية تنعقد بانتظام يجد بركتها وأثرها كل من أقبل عليها بهمة وانخرط فيها بصدق. وكان لحصول هذا التلاقي بين الأثر الإيماني والاقتناع الفكري والاتزان الحركي الأثرُ البالغ في شحذ العزائم على العمل الدؤوب الذي حقق بفضل الله لدعوة العدل والإحسان في زمن يسير الانتشار الواسع والراسخ في طول المغرب وعرضه، ووصل صداها حتى خارج حدود البلد. ولاشك أن كتابا بهذه المزايا لجدير أن يعاد طبعه ويحتفى به أيما احتفاء.
لكننا ونحن نعيد طبعه لخامس مرة على صورته الأولى، لابد من تسجيل مجموعة من الملاحظات ليكون القراء الكرام، ولا سيما الباحثين والمتابعين لشؤون الحركة الإسلامية عموما، والعدل والإحسان بصفة خاصة، على بينة من الأمر، ولفهم كتاب المنهاج النبوي على وجهه الصحيح.
فقد وقع البعض في مواقف خاطئة لأنهم اعتمدوا على معطيات غير دقيقة، أو بنوا تحليلاتهم على تفاصيل أو تقديرات متجاوزة. ولئن كان الغلط الناتج عن مقاصد سيئة غير مستغرب من قبل الذين يكيدون الجماعة، ويكِدُّون لتشويه صورتها، ومحاولة صد الناس عنها، لاسيما بعدما لقيت بفضل الكريم المنان قبولا متزايدا جعل منها أكبر جماعة إسلامية في المغرب بشهادة الخصوم والمخالفين قبل الأصدقاء والعاطفين، فإنه ما يجمل بالمنصف والباحث المدقق أن يقع في الغلط نفسه حتى وإن كان عن غير قصد.
من الأمور التي ينبغي الانتباه إليها عند قراءة كتاب المنهاج النبوي هو ضرورة التمييز بين الثابت والمتغير، والمبادئ والاجتهاد في تنزيلها على أرض الواقع المتحرك، وبين الكليات والتفاصيل، والمواقف المظروفة بظروفها أو المرتبطة بعلة تدور معها وجودا وعدما. وينبغي كذلك استحضار كتب المؤلف الأخرى، وخاصة التي ألفت بعد كتاب المنهاج للتأكد من بعض الآراء والمواقف، وهل مازالت قائمة أم تم العدول عنها جزئيا أو كليا. فهناك مسائل وردت في المنهاج، لكن تم التراجع عنها في طبعات لاحقة، مثل القول بضرورة انتظام العمل الإسلامي في كيان واحد الذي نسخ بالقول بجواز التعددية ما لم تكن عدائية أو كيدية، وكذلك تجربة ألبانيا التي نوه في البداية بإنجازاتها التنموية، ثم غير موقفه منها لما تبين له أنها، كما قال: «كانت أخزى القوم حظا(5).
وهناك مسائل ناقشها الإمام رحمه الله في الكتاب لكنه لم يحسم فيها، ثم عاد إليها مرة أخرى في كتبه اللاحقة ليسلط عليها إضاءات جديدة، ولا تزال مع ذلك مفتوحة للنقاش. مثال ذلك مفهوم أهل الحل والعقد الذي اعتبره غامضا وانتقد مذاهب بعض الفقهاء فيه. وهناك تجارب إسلامية أشاد بها كثيرا لأنها كانت تعتبر زمن تأليف الكتاب أملا للأمة ورفدا، لكنه غيَّر موقفه منها لما انتكست ولم تكن في مستوى ما كان متوقعا منها، مثل الثورة الإيرانية، وجهاد الأفغان.
وهناك مسائل ربما لو استقبل من أمره ما استدبر لما أدرجها في الكتاب أصلا لأنها من النوع الذي يتعين مراجعته وتعديله أو تغييره باستمرار. وأبرز مثال في هذا الباب هو «هياكل التنظيم، وسلم إمارته، ومجالسه، وأجهزته وعقد الإمارة، وتعدد البيعة وتكرارها » من الفصل الرابع من الكتاب المتعلق بالتنظيم. فأكثر ما سطر بهذا الخصوص قد تم تجاوزه منذ سنوات، وبعضه لم يطبق أصلا. وتكفي إطلالة سريعة على الوضع الهيكلي الحالي للجماعة للتأكد من البون الشاسع بين ما هو مسطور هناك، والشكل المعتمد إلى حدود كتابة هذه الكلمات. والغريب أنه لا يزال بعض الكتبة يعتمدون كل ما جاء في هذا الفصل للخروج باستنتاجات وإصدار أحكام عن الجماعة تكون، ولا عجب، خاطئة جملة وتفصيلا. ولو أنصفوا وتريثوا أو عرفوا أين يذهبون لأخذ المعلومة الصحيحة، لأدركوا أن تنظيم الجماعة، وخلافا لما يظن البعض، قد تطور تطورا مستمرا وهائلا. وما نحسب أن حركة إسلامية حية، وتحظى بقبول في المجتمع واسع، يمكن أن تجمد على شكل تنظيمي معين طويلا، ولا تقوم بمراجعات تستدرك بها الخلل، وتتجاوز بها الثغرات، وتجود بها الأداء، وتستوعب الطارئ والمستجد. وقد كانت كثير من هذه التغييرات تحت إشراف وتوجيه الإمام نفسه رحمه الله.
هذا وإن أعضاء الجماعة يعرفون جيدا هذه الأمور، ويدركون حجم التطور الذي عرفته الجماعة منذ تأسيسها رسميا في شتنبر <a href="https://wordpress-1153707-4083331.cloudwaysapps.com/%d8%a8%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d8%ac%d9%85%d8%a7%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%ad%d8%b3%d8%a7%d9%86/">1981</a>. لذلك ونحن نسجل هذه الملاحظات، فإنما نتوجه بها إلى القراء الجدد والباحثين الذين يريدون أن يتعرفوا على هذه التجربة الإسلامية المغربية، وفكر مؤسسها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله. إنها ملاحظات سريعة ومركزة نأمل بها أن تكون عونا للباحث المنصف والسائل الجاد على الخروج بصورة دقيقة عن هوية جماعة العدل والإحسان وعما تريده وتسعى إليه. ولكل بعد ذلك أن يتخذ الموقف الذي يراه، ما لم يقول الإمام ما لم يقل، أو ينسب إلى الجماعة ما هي منه براء. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
كتبها الفقير إلى رحمة ربه عبد الواحد متوكل يوم الخميس 23 جمادى الثانية 1439 الموافق ل 8 مارس 2018
&nbsp;
(1) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة 1422 ،4 ه/ 2001 م،ص 5. (2) المصدر السابق. (3) مجلة الجماعة، العدد 8، شعبان 1401 /يونيو 1981. (4) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة 4، 1422 ه/ 2001 م، ص 5. (5) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة 4، 142

كتاب المنهاج النبوي في طبعة جديدة

المنهاج النبوي انبعاث دعوة العدل والإحسان

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

لمحة في مفهوم اقتحام العقبة

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

المنهاج النبوي

المنهاج النبوي انبعاث دعوة العدل والإحسان

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

المنهاج النبوي انبعاث دعوة العدل والإحسان

مقدمة إمامة الأمة

الكلمة الإفتتاحية للدكتور عبد الواحد المتوكل

مقالات ذات صلة