مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

السياسة والحكم

استراتيجية التغيير في فكر عبد السلام ياسين

استراتيجية التغيير في فكر عبد السلام ياسين

عندما نقرأ كتب الداعية والمفكر المغربي عبد السلام ياسين، نلاحظ أن فهمه لاستراتيجية التغيير كان حاضرا في وعيه بشكل واضح، فلم تكن كلماته المخطوطة ولا دروسه المبثوثة ولا لقاءاته المعلومة تسير وفق النهج التقليدي للدعاة، الذي ينهل من معين الإسلام: أخلاقا، وفقها، وسيرة، وتاريخا..؛ بهدف تقديم دروس وعظية في المساجد أو المدارس، وإنما كان فكرا مرتبا، مستقى من علم شرعي غزير، وخبرة دعوية واقعية، وإحساس بآلام الأمة والأوطان، لذا، فهو حريص على أن يكون الإسلام الصحيح هو ديدن رؤيته في التغيير، فلا معنى لالتزام ديني دون علم وبصر وهداية وفهم.

  ويقول الشيخ ياسين عن هذا التوجه: “لطالما بقي الإسلام غامضا في ذهن الناس، طالما قبع الإسلام في التقوى الفردية، في المسجد لا يخرج منه، في الكتب الفقهية وخلافاتها، في الفضاء النفسي بعيدا عن واقع المسلمين”[1]، وإنما يضع الداعية عينيه على تربية الفرد المسلم، بشكل متصل ودائم، لا أن يقول الداعية أو الخطيب كلمته، ثم ينصرف إلى حال سبيله، لا ينظر إلى أثر كلامه في سامعيه، ولا مقدار فهم المتلقين له، وهل سيطبقون ما سمعوه أم الأمر عندهم مجرد كلام نظري سمعوه مرات، ولا تغير يطرأ على حياتهم. إنه يريد تربية إسلامية صالحة للفرد: كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا أو أنثى، وللأسرة والعائلة، وللعشيرة والقبيلة، ثم المجتمع المسلم أينما وُجد وامتد. وشتان بين مفهوم التربية بما يعنيه من ديمومة الاتصال والتواصل مع الجميع. ومن ثم “يتضح للمسلمين أن الإيمان الذي كان حيا في قلوب سلفنا الصالح، فاعلا في مجتمعهم وفي العالم، يمكن أن يصبح بديلا للفتنة”[2]، وبالطبع يعني بالفتنة هذه الحياة البعيدة عن الإسلام، ولا تأخذ منه إلا شكليات وقشور، وهو حريص على الإيمان الحي، الذي يصبح طاقة دافعة، محركة مغيرة، وليس الفهم الاتكالي السلبي.

   وستأتي قراءتنا لاستراتيجية التغيير في فكر الشيخ ياسين، من خلال محاور عديدة، تبدأ بتأصيل رؤيته من المنظور الشرعي، ومن ثم تبيان أبعاد التغيير ومآلاته، وكما يعلن الشيخ في مواضع كثيرة عن وجوب إعلان الإيمان، والمجاهرة به، والذود عنه، والسعي إليه، فبالإيمان الصحيح تعتدل بوصلة الفرد والجماعة والوطن والأمة، “ونحن لكيلا يجرفنا التيار الفكري الحضاري الدوابي ينبغي أن نعلن إيماننا. وينبغي أن نصرح به. وينبغي أن نقاتل عنه. إن كان إسلامنا نائما عن معاني الإيمان فلن نعلن ولن نصرح ولن نقاتل حتى يستيقظ فينا الإيمان. وإن كان إيماننا قاصرا عن مطمح الإحسان فلسنا أولئك الذين يؤيد الله عز وجل بهم دينه. لسنا من حزب الله حتى نجمع الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا[3].

أسس التغيير في فكر عبد السلام ياسين

    ينطلق الشيخ من الآية القرآنية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يغُيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتى يغُيرُواْ مَا بِأَنفُـــــــــــــــسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ سورة الرعد، الآية ( 11 ) ، حيث يؤكد أنه قد: جاء في القرآن اقْتِرانُ تغيير الأحوال بتغيير ما بالنفس، وأن الله عز وجل يغيّر نعمته نقمة على قوم جحدوا دينه، فالتغيير المستهدف يدور  أولا حول الإنسان، ويخدُم غاية تحرير الإنسان من كل عبودية، ليدخل في العبودية لله عز وجل، ثم يسير في طريقنا إلى دولة القرآن، وفي خَطَوات دولة القرآن نحو مجد الإسلام، لا دليل لنا في المهمات، وفي تحديد الأهداف والغاية، إلا كتاب الله عز وجل كما طبقته سنة رسوله عليه من الله الصلاة والسلام [4]ومن هنا يعيد الأمر إلى مرجعية الإسلام الأولى وهي القرآن الكريم، الذي نزل منجّما على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فكانت النفوس تتلقاه وتسمو به يوما بعد يوم، أي أقاموا دولة القرآن في قلوبهم، فقامت بعد سنوات على أرضهم، بل وامتد فيؤها إلى قارات العالم.   

  ونلاحظ هنا وقوف الشيخ عند مفهوم التغيير، فيربطه بالهداية الربانية، التي تأتي من الله تعالى، مصداقا لقوله جل شأنه: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ سورة القصص، الآية ( 56 )، فهو يجعل القرآن مبتدأ في التربية الإيمانية، ودستورا في الدولة القرآنية، وغاية لأهل القرآن وحملته والمجاهدين لرفعته، “إن سلطان الدولة القرآنية أداة إلزام بالشرع الذي تقتنع به الأمة الحُرة في اختيار حكامها. وفي هذه الحالة لا تناقُض بين الإيمان والشرع. بل يكون الشرع والإلزام به إطارًا يصون الإيمان ويعضده”.[5]

    وكل هذا لن يتحقق إلا من خلال تغيير القلوب، حيث يشير في كتاب آخر إلى أن “مناط التغيير الأساسي هو قلب الفرد، لا يمكن أن يتجدد للمسلمين دين ولا أن تستجد لهم عزة بعد الذل ولا قوة بعد الضعف، إن لم يبدأ البناء من القلوب. معنى هذا أن تجديد الإسلام ينبغي أن يبدأ من التربية والتزكية الذين ينبغي أن يصبا جهودهما على تطهير النفوس، وعلى تزكية النفوس”[6]، ومن هنا يتميز التغيير عبر النهج القرآني، لأنه تغييرٌ أساسه القلوب، وليس مجرد رصّ أعداد من الجنود وتجميع للجماهير، فنصرة الإسلام لا تتأتى بكثرة العدد ولا بعظم العتاد، وإنما بالقلوب الموقنة الثابتة، المطهرة بالعقيدة، المزكاة بالأخلاق، ومن ثم يكون التجديد في الإسلام ذاته.

    وهذا معنى غاية في الأهمية، ولابد أن نتوقف عنده هنيهة، فإن التجديد في الإسلام يعني العودة إلى منابع الإسلام على مستوى الفهم والإيمان والتطبيق، فالمجالات الإجمالية لتجديد الدين تتمثل في أساسيات أبرزها: الحفاظ على عقيدة الإسلام صحيحة نقية، ونصوصه الأصلية من قرآن وسنة مطهرة، وإحياء الفهم السليم لها، وتصحيح الانحرافات العقدية والشرعية والعلمية، وحماية الدين والدفاع عنه، والاجتهاد في الأمور المستجدة، وإيجاد الحلول لها وفق الأطر الشرعية، التي تراعي مصالح العباد، وفيها من قواعد التيسير الكثير[7] وهذا يعني أن كلا من “التجديد والتغيير” في فكر الشيخ ياسين بمعنى واحد، وكما يؤكد بنفسه: “فلابد أن يكون تجديد الدين وتجديد الإيمان أمرين متطابقين أو متوافقين أو متقاربين أو متكاملين”(). فالشيخ ينطلق في رؤاه للتغيير ضمن ثوابت الشريعة التي عليها سلف الأمة ومجددوها وعلماؤها، ويردف الإيمان مع الدين، لأن الإيمان مناطه القلب، أما الدين هنا فهو مقصود به الشرع الحنيف كله، مقاصد وأحكام.

منهاج التغيير وميثاقه

    إن رؤية الشيخ تستند أولا إلى المنهاج القرآني، الذي يربي الإنسان، ويربطه بخالق السماء، ويعمل من أجل ذلك على تحقيق قيم عليا، تضع للإنسان – أي إنسان – مكانة التكريم العظيمة. ثم تأتي الدراسة المتفحصة للمنهاج النبوي الشريف، أي بالعودة إلى الأصول الأولى، وهي منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي تلقى الوحي القرآني، ومن ثم طبّقه على نفسه فكان قرآنا يمشي على الأرض، ثم ربّى أصحابه عليه، وجعل منهم طليعة مؤمنة، قادت العرب ثم الشعوب الأخرى إلى دين الهداية والسعادة، أي أنه يعود بالمسلمين إلى منابع الإسلام الصافية وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، لينهلوا منها مباشرة، فيتربّون مثلما تربّى الرعيل الأول من الصحابة عليهم الرضوان، ومن سار على دربهم من السلف الصالح، ومن تلاهم من الأجيال المجاهدة على مدار التاريخ الإسلامي. وكما يترنم الشيخ شعرا فيقول:

وإنْ بالكـــــــــــتاب العزيز اهتَــــــديْتُ…بآيـــــــــــــــــــــــاتِهِ الغُرِّ، مُسْـــــــــــــــــــتَرْشِدا
بمنهاج خيِر الوَرَى عصــــــــــــــــمتيِ…عليه، جهــــــــــــــــــــــاداً، أشُدُّ اليَدَا[8]

ثم يشدد دعوته لأهل الحق:

معا لله فاصدُقْ يا فتى العدل وابذُلَنْ…على حبه النفسَ الثمينة والكسْبَا
وما حَبَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــه مَنْ لَمْ يُتَابِعْ محمدا…فيا سَعْدَ من كان الإله له حِبَّا
إنَّا لَنَرْجُو أُسْــــــــــــــــــــوَةً بمحــــــــــــمدٍ…بجــــــهاده وبِصَحْبِهِ الغُّرِّ الصِّباحْ[9]

  ويوضح الشيخ ياسين رؤيته بأن: “المسلمين بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط”[10]. وهذا قمة الفهم لحقيقة رسالة المسلم على الأرض، فهي رسالة دينية، تربط حياة المسلم بتوحيد الله، وعبادته، وعمرانه للأرض، وبالطبع فإن مفهوم الاستخلاف يضع المسلم في مكانة سامقة، لأنه خليفة الله على الأرض، ويا له من تكريم، ويا لها من مهمة سامية، لو أدركها العلماء والفلاسفة لاهتدوا.

    والعائق الأساسي أمام التغيير في سبيل النهضة يوضحه الشيخ بقوله  “إن الفهم الحرفي والفهم التبريري سِيانِ في قلب الحقائق. وما هي إلا الإرادة تكون صادقة في نصر شرع الله فتبصر التوجيه الإلهي النبوي بَصرا صحيحا، أو تعجز فتتلهى عن الوِجهة الصحيحة وتصطنع فهما تحُدُّه النفس الواهنة الغثائية، وتحُدُّهُ الفتنة الغالبة[11]

    ولنتوقف عند التعبيرين الواردين في الاقتباس السابق: الفهم الحرفي، الفهم التبريري، الأول يعني التمسك بالمعاني السطحية دون الغوص في الدلالات والمقاصد والمرامي، وهذا ديدن الفهم الظاهري الذي نجده عند بعض السلفية المعاصرة، والظاهرية القديمة، وعاقبة هذا الفهم هو جمود العقل، لأنه وقف عند ظاهر النص، ولم يتعمق في المقصود منه، والحكمة وراءه، ومن ثم البحث عن المصلحة.

    أما التعبير الثاني: الفهم التبريري، فهو ما عليه جمهرة علماء السلطة والسلطان، الذين يبحثون عن مسوغ شرعي أو فتوى شاذة فإن لم يجدوا يصمتوا عن عسف الحاكم وبطش شرطته وعسكره.

  وكلا الفهمين مصيبتان ووبالان على الأمة، فالأول يجمّد العقل، والثاني يشرعن الظلم، وكلاهما للأسف لا يقتصر ضررهما على أفراد، وإنما يمتد للمجتمع والأمة كلها، فالفهم السطحي الحرفي يعني جمود الإبداع والتجديد، والفهم التبريري يعني الرضا بمظالم الحاكم، وعدم معارضته.

       لذا، فإن فكر الشيخ ” ياسين “يرفض الابتداع والتزيد والتعلق بالشكليات ويحارب الخرافات والشعوذات، ويعود لجوهر الإسلام المتمثل في نهج الرسول وتعاليمه، وقراءة السيرة العطرة بمناهج حركية تفيد كل داع، وظيفة المنهاج النبوي العلم والعمل مترابطين، النداء والاستجابة متلازمين، الرحمة والحكمة متعاضدتين، أمر إلهي وطاعة، خطة وتنفيذ معا، وإلا كان النفاق، نفاق الذين يقولون ما لا يفعلون”[12]، وتلك آفة كبرى، إذا أصيب بها من يعمل في حقل الدعوة، عندما يكون بوقا وآلة للكلام، يخالف فعلُه منطوقه، ويضاد سلوكه شعاراته، فتفقد الجماهير الثقة به، وهذا حادث مع كثير من العلماء المتصدرين الساحة والإعلام، لأن الجماهير لا تجد صدقا في كلامهم.

  وفي هذا السياق، يستخدم الشيخ في ذلك مصطلح ” منهاج ” وليس منهجا، لأن الثاني ترجمة للفظة أجنبية، لا تحمل في طياتها الدلالات المرجوة، وإنما تحمل تطبيقا إجرائيا لنظريات وأفكار، لذا يقول: “ونفضل كلمة «منهاج» القرآنية النبوية لندل بها لا على وساطة المنهاج من حيث كونه جسرا علميا بين الحق في كتاب الله وسنة رسوله وبين حياة المسلمين فقط، بل لنربط به معاني التمسك الصارم بأمر الله في كتابه، ومعاني الاتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في السلوك الفردي والجماعي، الخاص والعام، النفسي والخلقي واليومي، العبادي والاجتماعي، السياسي والاقتصادي، الرباني في كلمة واحدة”[13]، وساعتها سيكون جهاد النفس المؤمنة في سبيل الله، وستنال أجرين: إما النصر أو الشهادة، كما وعدنا الله ورسوله، وهذا ما أسماه الشيخ ياسين في إحدى رسالاته بأنه “الثمن”: “من كان يظن أن الإسلام سيقوم بدون مساعي متواصلة، بدون بذل، بدون أذى، بدون نفقة في سبيل الله، بدون موت في سبيل الله فإنما يكذب على الله ويكذب علينا ويُضلنا[14]، ساعتها يكون الألم والتعب والمشقة وتحمل الجراح والتعرض لخطر الموت يهون في سبيل الله تعالى، فالوعد بالجنة متحقق للمؤمن.    

   ولن يتحقق التغيير إلا بوجود “الإرادة المغيرة الفاعلة من داخل صدور الملايين، وقد ألِفَتْ الملايين قرونا أن تضع أمرَها بين يدي الحاكم، وتتواكل إليه، وتسكت عنه” [15]، فهو هنا يحفز المسلمين أن ينفضوا من عليهم غبار قرون، تواكلوا فيه وتقاعسوا، وظنوا أن الحكام سيقومون بكل شيء، والحادث أنهم عملوا من أجل استتباب الأمر لسلطانهم، وإخماد كل من يعلو صوته من رعيتهم.

التغيير ومستقبل الأمة المسلمة

 إن المسلم المعاصر – بشكل عام – يعيش أزمتين: أزمة جهله بإسلامه، وإن علم منه شيئا فيكاد يكون عبادات وطاعات، ويجهل رسالته ذاتها في الحياة. وأزمة دوره المجتمعي ودوره نحو أمته كلها، وهو دور تغييري، عليه – إن فهم ووعى وأخلص – أن يسعى لتحقيق هذا الدور، وفي سبيل ذلك، يأتي هذا المحور، حو دور المسلم في نهضة أمته، وإخراجها من عثراتها وضعفها واستكانتها، ومن خلال تضافر الجهود الفردية في أطر جماعية، يتولد رأي عام، ثم تيار يضطلع بمسؤولية التغيير، فلا يحقرن فرد دوره، فإذا كانت النار تأتي من مستصغر الشرر فلنمنعه، وإن الشجرة تسمق من بذرة، فلنغرسها.

    وكما يقول الشيخ “ياسين” في مقدمة كتابه “العدل”: “جسم الأمة مريض، ونفوس المسلمين وعقولهم مريضة، لَمّا بثُّتْ في كياناتهم الحسية والمعنوية جراثيم التغَرُّب عن دينهم وعناكب الوحشة والفُرقة فيما بينهم. ولَمَّا طرَقَت أبوابهم وولجتها واغتصبتها عقلية تِقْنَوِية تزُري بالدين وتَدين بالمادية الربحية الصرفة مِلَّةِ الرأسمالية الوحشية الناشِبةِ أظفارها في جسم الأمة الإسلامية تجهض كل محاولة لانتشال المسلمين من وَهْدة عوَزهم وفقرهم وتخلُّفهم الذي يلعن لعنا أليما تخمة بعضهم” [16]

   فقد وضع الشيخ يده على العلة وهي مرض الأمة وشعوبها (لا موتها كما يريد الأعداء)، أما أعراض العلة فهي: تغريب، فرقة، علماء سلطة، نخبة مثقفة تؤمن بمذهبيات مادية، وتتربص بأي جهود إصلاحية إسلامية، وتتحالف مع السلطة القائمة تحالف إيديولوجي نفعي، فتشرعن ما ترتكبه من مظالم، وها هي المحصلة التي نراها أمامنا ؛ الأمة المسلمة  تعيش حالة من التراجع النفسي والحضاري، العقدي والقيمي، الأخلاقي والنظامي، ولن تستيقظ إلا بالعودة إلى شرع الله تعالى، بفهم صحيح، وإيمان راسخ، وعمل فاعل، وتحرك مثمر، ووفق أهداف كبيرة، واضحة في العقول، جلية في القلوب، حتى لا يخبط المسلم في حياته خبط عشواء، فهو ليس مجرد إمام وخطيب في أحد المساجد، إنما عليه عبء كبير  – حتى لو كان واقفا على منبر صغير في مسجد قصي – نحو عامة المسلمين نصحا وإرشادا، وتحفيزا على النهوض الحضاري، والوحدة بين أبناء الإقليم والشعب والدولة والأمة، فـــــ ” المستقبل للكتل البشرية الكثيرة العدد، المنظمة الدولة، الموحدة الاقتصاد، المسلحة بالعلم والصناعة، وبالنَّاب والمخِلَبِ، والذَّرة، فقاتل الله التمزق والغثائية والوهْنَ، وتطفل الصنائع على موائد السادة ! الدنيا دار الكسب والاختبار والعبور لدار البقاء، فحيى الله أهل الإيمان، أهل الهجرة والجهاد”[17]، إنها دعوة تمزج بين الإيمان والسعي، الفهم والكد، الهجرة والعلم، الجهاد والعطاء.

      وفي هذا الصدد، على المسلمين أن يعيدوا قراءة مصادر دينهم، بشكل دائم، وبقراءة فاعلة، وبدلا من أن يولّوا وجوههم قبل المشرق أو المغرب، كي ينهلوا من نظرياتهم وفلسفاتهم، عليهم أن يبدأوا وينتهوا بالقرآن والسنة، فينهلون منهما الفكر والخلق والإرشاد، ولا بأس بعد ذلك من الاستفادة من الطرائق والسبل الحديثة التي هي اجتهاد إنساني في النهاية. كما يشير الشيخ: “وبدون تأسيس البناء على قواعد الإيمان بالله وباليوم الآخر، والوَلاية الجامعة المنظمة، والقومة الشورية، والتعلُّم المتواضع من تجارب الإنسان وتراكم معرفته وحيلته في السيطرة على الطبيعة نبقى كالجوقة المتخلفة تُنغِّم بألحان الحزن والحنَق الشتائمَ المُنَوَّعة في وجه العصر وأبناء العصر وسادة العصر”[18]، وبعبارة أخرى: فإننا نعود لتراثنا ومصادر ديننا من أجل الحفاظ على هويتنا، والعودة لأصولنا، ثم تأتي الاستفادة من الأمم الأخرى وعلومها في مراحل تالية، وساعتها ستكون نفوسنا ملأى بما يعصمها من التأثر أو الذوبان.

    فالمثال على ذلك المجال التربوي، فإن المسلمين يتطلعون إلى الغرب كي يستقوا منه نظريات ومناهج وطرائق ؛ ونسوا – أو تناسوا – أن عليهم أولا العودة والدراسة لهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم في التربية، وفيها ما فيها من قيم وأخلاق ورؤى ونظر وعمل وتطبيقات، فالسيرة النبوية اشتملت على أسس تربوية تمثلت في نهج الرسول في تربيته لأصحابه وهذه الأسس هي: الأسس الإيمانية العقائدية والأسس الأخلاقية والأسس العلمية والأسس الجهادية، كما أن السيرة النبوية غنية بالمبادئ التربوية مثل تربية الحواس ووجوب التعلم ونشر العلم واستمرارية التعليم ومراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين وتوجيه المتعلم نحو التربية الذاتية والتعامل الناقد مع التراث والتدرج في التربية والتجديد والانفتاح على خبرات الآخرين والمرونة في التربية والصحبة بين المعلم والمتعلم، والتي ساهمت في بناء مجتمع إسلامي قوي استطاع أن يصمد في وجه التحديات لقرون طويلة. كما تميزت أساليب تربية النبي لأصحابه بالتنوع والمرونة والتكامل والشمول مما جعلها صالحة لكل زمان ومكان ولكل فئات البشر ومن هذه الأساليب: التربية بالقدوة، والتربية بالقصة، والتربية بالأحداث، والتعليم بضرب الأمثال، وهي ليست سبلا بقدر ما هي مدرسة مفتوحة للتعليم تفيد الصغار والكبار على السواء” [19]

    ولكن الحادث هو سقوط بعض باحثينا وعلمائنا في الاستلاب الحضاري، مع فقدانهم للتأسيس المعرفي في علوم الشريعة ومصادرها، فينبهرون بما عند الآخر / الغرب أو الشرق، ويتعلقون به، ويقدمونه لشعوبنا المسلمة على أنه غاية ما انتهى إليه العلم، وينسون أنهم ينقلون – بوعي أو بغير وعي -استلابهم الحضاري إلى شعوبهم، في ضوء المعلومات البسيطة التي يتلقونها عن دينهم، وتلك طامة كبرى، أن نجني على أمتنا عن طريق أبناء جلدتنا، ونعيد الاحتلال الأجنبي بإرادتنا، وهذا كله ناتج عن سوء الفهم، وعمى البصر، وعطب البصيرة، ليكون منافسا لأهل الدنيا في دنياهم، ساقطا في دركات المادة. وفي هذا المجال، يطرح الشيخ ياسين نوعين من المسلمين، يعيشان بين ظهرانينا: “إنسان الفطرة وإنسان العادة. الأول يقف بين يدي الفاطر يتبع سبيل الله وينتظر موعود الله، والثاني يعيش لعاداته مخلدا إلى الأرض، همه رغد العيش وغايته انتهاب اللذة في الحياة القصيرة التي تتيحها له الفرص في اعتقاده، وتنتهي بالموت”[20]

  ولا مجال للمفاضلة بين الاثنين، وإنما المقارنة هنا من باب التأمل، في الحياة والعيش والخاتمة.

  وكم كان الشيخ راصدا بعمق لأزمة التخلف التقني التي يعيشها المسلمون، حتى باتوا عالة على دول العالم المتقدم في طعامهم وكسائهم وسلاحهم، يقول الشيخ: “في الحقل الإسلامي غياب مذهل. غياب المسلمين مذهل في كل المجالات، في المجال العلمي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والجهادي. غياب مذهل! لكن والحمد لله ونحمد الله عز وجل على نعمه وتوفيقه أخذت الشهادة بمعنى الحضور الإسلامي يفرض نفسه على ضمائر الأمة وعلى ضمائر الإنسانية “.[21]

   لذا، فهو ينادي بصوت جهوري، مؤكدا أن دولة القرآن دولة الإبداع والاختراع ، إذ يقول: “ولا تتنكب دولةُ القرآن ضرورات الابتكار، والتصنيع، والتنمية الاقتصادية، ومنافسة بضائع الآخرين، وأسلحتهم، وتنظيماتهم المالية، والإدارية، والعسكرية. ولا تتنكب مهمات تغيير البنُى الفاســـــــدة، وتركيب جهاز الدولة تركيبا يساعد على الفعالية والجدوى، ويساعد عل توحيد الأمة، وجمعِها، وتحصينها من القلق والاضطراب. بل تهدف دولة القرآن إلى كل ذلك التغيير، وتعتبره واجبا من آكد واجباتها. لكـن الدعوة إلى الله، وإنقاذ الإنسان من ظلام الكفر، وقتامة النفاق، وقذارة معصية الله، وغبش الغفلة عنه، المؤدية إلى بؤس الدنيا وعذاب الآخرة، هي الهدفُ الأسمَى، ومحورُ الحركة، ومحطُّ الطموح”[22]

    دولة القرآن ليست قطرية وإنما وحدوية، تجمع الشعوب المسلمة على امتداد رقعة وجودهم الجغرافية، وتسعى إلى نشر رسالة الإسلام السامية في العالم، والمتمثلة في عبادة الواحد الأحد، وإخراج الناس جميعا من الجور والظلم إلى سعة الخير والعدالة، هي دولة أساسها القرآن، وعمادها العلم، وأملها مقاصد الشرع، وسبلها الاستفادة من كل إبداعات البشرية من أجل إسعاد المسلمين خاصة والناس عامة، ينشرون الإسلام بين الشعوب غير المسلمة بأخلاقهم، ويرعون الفقراء والمحتاجين دون أن يساوموهم على الإسلام، لأن الإسلام لا يحتاج إلى مساومين بل إلى دعاة هادين.

التغيير بين الدولة القطرية والأمة المسلمة

      إن منهاج التغيير وفق الهدي النبوي هو الأساس الذي ينبغي على الفرد والعالم والجماعة والمجتمع والأمة أن يلتزموا به، بمعنى أن تتم التربية الإيمانية، مع الفهم الصحيح لجوهر الإسلام وشريعته، وفهم مقاصده العليا، في المجتمع والحياة. أما هذا المحور، فيمثل المستوى التالي / الثاني، والذي يتأسس على المستوى الأول، لأن المسلم إذا صحّت عقيدته وعباداته وفهمه، عليه أن ينتقل إلى الطور الأعلى وهو النظر إلى جماعته المسلمة ثم الأمة كلها، ليعمل من أجلها ويسعى في سبيل نهضتها، لأن رسالة المسلم ذات شقين مرتبطين ببعضهما: شق فردي يخص المسلم ذاته، كي يفوز بالسعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وشق جماعي، مرتبط بدور المسلم نحو جماعته ومجتمعه، وكثير من الأمور التعبدية، لا تمارس إلا في جماعة مثل الحج وصلاة الجماعة والجمعة وغيرها، بجانب أن الشريعة الإسلامية موجهة إلى المجتمع كله، بمسلميه وذمّييه وأقلياته، وتستهدف العدالة والمساواة وحفظ الحقوق.

   فالبعد الوحدوي الشامل للأمة المسلمة كان حاضرا في فكر الشيخ، وعبر عنه عشرات المرات في ثنايا خطبه ومقالاته وبطون كتبه، ومنها قوله: إنّ الوحدة الإسلامية -“الأمة”- تحمل تلك العالمية لأن كل عضو من أعضائها مرتبط بكل عضو آخر -من وراء فروق الجنس والأرض والتاريخ- بروابط الإيمان الواحد بوجود الله. ومن وجهة النظر هذه الإسلامية الصرفة فإن “القومية” مرض غربي وميراث مخزٍ للتجزئة التي فرضها الاستعمار على أرض المسلمين”[23]، ولنتوقف عند مفهوم العالمية الذي ينبغي على المسلم أن يفهمه، ويكون جزءا من وعيه، فهو مفهوم يتخطى القطرية الضيقة التي حشرتنا فيها الحكومات، ويجعل آفاق المسلم النفسية والفكرية شاملة للعالم كله، الإسلامي وغير الإسلامي، فالمسلم يتطلع إلى أن يملأ الأرض بنور التوحيد، وينشر هدي الإسلام بين الناس، فيرتفع عن القطرية الضيقة، والتعصب المرذول للأوطان، صُنِعَت حدودها قوى الاستعمار العالمي.

   ويضاد مفهوم عالمية الإسلام، مفهوم التجزئة القطرية، “إن ما يؤلمنا أشد الألم ما فيه الأمة من تجــــــــــزئة وتشتت، لكن العواطف المتأسفةَ لا تفيد، ولا يفيد أن نندفع بوخز الضمير، وداعي الواجب الشرعي في الوحدة، إلى التسرع في بناء وهم وحدوي سرعان ما ينصدع عند أول صدمة. معاذ الله أن نكون ممن يرضونَ بالتجزئة”[24].

   ويبيّن الشيخ أن تطبيق “الإسلام لن يتأتى بالمثالية الحالمة، ولا بالعنف الكاسر، ولا بالمطالبة السياسية، بل يتأتي بالجهاد الذي جعله الله عز وجل شرعا يضبط حركة جند الله في حلبة التاريخ التي أرادها جل شأنه مسيرة تدافع بين الناس لا تصلح الأرض بدونه.. إننا إذ ننتقد الماركسية اللينينية لإٍلحادها وكفرها وعنفها على الإنسان نحس بألم شديد غياب التحليل الإسلامي للاستكبار والاستضعاف في خطاب رجال الدعوة. وكأن اكتظاظ مصر بهذه الاجيال المباركة إن شاء الله بينما يشكو”[25]

   إنه هنا يؤكد على أن التغيير وفق المنهج الإسلامي لن يتأتى بمن يحلم ويدبج المقالات ويخطب بالكلمات، ولا بنهج العنف، ولا حتى بالسبل السياسية التقليدية (الانتخابات وغيرها)، فهذا كله تغيير محدود ومؤقت، وإنما التغيير المنشود مقصود به تحوّل بوصلة الأمة نحو الإسلام، والتزام شعوبها بالإسلام فهما وسلوكا وعملا، وضلوعهم بالجهاد حفاظا على أرضهم المستلبة، وردا لغائلة الأعداء عليهم، ويستحضر في هذا السياق الشروط الشرعية وضوابطها في قضية الجهاد. غير أن النقطة الأهم والأبرز، التي يتوقف عندها الشيخ هي: أهمية اطلاع الدعاة واستفادتهم من التجارب الثورية في العالم، وأن تظهر هذه الاستفادة في خطابهم، لتعلم جماهير الصحوة الإسلامية أنها تسير على خطى مباركة، لأنها خطى مستقاة من المنهج الرباني في الإسلام، فالتغيير في النهاية هدفه القلوب والعقول. أما أن يتصارع الإسلاميون، والمسلمون على فتات ما يلقيه الحكام أو أهل السلطة من مناصب، فهذا يؤدي إلى انحرافهم عن رسالتهم، فأهلا بالسلطة إذا كانت في سبيل مناصرة الإسلام، ولا للسلطة إذا تصارعنا عليها، وجعلتنا مثل الآخرين نتكالب على الدنيا. يقول الشيخ: “والخطرُ المتربصُ بكل زاحف على قلعة الدنيا وزبدتِا، أعني الحكمَ وممارستَه ومصارعةَ الناسِ عليه وفيه، هو انمحاقُ الإيمان الفرديِّ وانسحاقُ التطلع الإحسانيِّ إن وُجِدَ ابتداءً. ومن ثم ذوبانُ الدعوة في الدولة، وانتِهاكُها، وتسربها في مساربها كما تتسرب قطراتُ الماءِ في الرمال العطشى[26]

   ومن أجل تبيان الفرق بين التغيير السلمي، والتغيير الثوري العنيف، يستحضر الشيخ عبد السلام ياسين التجربة الماركسية اللينينية، والتي جاءت بتغيير عنيف، وأقامت دولة الاتحاد السوفيتي الضخمة، ولكن كانت المحصلة للثورة مريعة، فالملايين تُقتَل باسم الثورات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية تحت رايات لمذاهب وضعية، فلا ينال هؤلاء إلا الموت أو الإصابة من أجل إرضاء زعامة لا يضرها أي عدد يموت من أجل ما يدعون إليه، وكما كان يهذي “ستالين ” وهو يبيد شعوبا في الاتحاد السوفيتي سابقا ويقول: “فليذهب الشعب إلى الجحيم وتبقى النظرية “. وهل وُضِعت النظرية إلا من أجل رفاهية الشعوب كما يدّعون؟

    وكم كانت النتائج بشعة، وكما يوردها الشيخ ياسين: في الإجراءات التي تم اعتمادها في الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية، ومنها: انتزاع كل الممتلكات، والإيداع في السجن، والإرسال إلى جبهات القتال وإلى الأشغال الشاقة، في حق كل المعارضين والمخالفين، وسحق الأغلبية من عبيد الأمس للأقلية المستغلة مهمة غاية في السهولة والبساطة والطبيعية نسبيا، وقد كلف هذا السحق «السهل نسبيا » منذ بدء الثورة البلشفية: ستًّا وستين مليون إنسان، أما أسلوب الحكم فهو الإحصاء والمراقبة، أو بكلمات أوضح: التجسس والحكم البوليسي سياسة وإدارة، والتخطيط اقتصادا. وكم كان ستالين وفيا لتعليم رفيقه الأكبر فيما يخص المراقبة[27]. هذه المعلومات وغيرها، مستقاة من كتب الرفاق الشيوعيين، المؤيدين منهم والمعارضين، يقدمها الشيخ في معرض ردوده على الفكر الماركسي ورجاله الذين بشرونا بالحريات والمساواة الاجتماعية والحفاظ على كرامة الفرد.  

  ويمتد العمر بالشيخ ليشهد انهيار هذه الدولة العظمى التي ضمت قوميات شتى (156 قومية وشعبا) بين يوم وليلة، بعدما أذاقت شعوبها ويلات التعذيب والتقتيل والتعنيف، بجانب ما حدث لباقي الشعوب في العالم التي اكتوت بنيران الحكم الماركسي، وظن مناصروها أنها تحقق العالمية من خلال المنظومة الماركسية، وكان السقوط مدويا.

   يشير الشيخ إلى مفاهيم الثورات الاشتراكية التي عصفت فترة بالعالم، وأصيب بشرارها العالم الإسلامي، فيؤكد على أن النهج الماركسي المزعوم يسعى إلى أهداف أرضية، يقول: “غيرُنا هدف من الثورات إلى تغيير بنيات المجتمع، وبناء اقتصاده، وإصلاح نظامه السياسي. ثم لا شيء بعد ذلك إلا هذه الثقافةُ الثوريةُ، والفنُّ الثوريُّ، وما يواكب الثورة من عنف، واستبدال طبقة بطبقة، ومادية اشتراكية بمادية رأسمالية”[28]، إنه هنا يقارن بين الثورة في بعدها الإسلامي، والثورة التي يطرحها الماركسيون والقوميون، ينظر إلى مآلات كل منها، إنها مآلات دنيوية، تتصل بإشباع حاجات مادية لدى الإنسان، ولكنها تطحن في طريقها. وللأسف فهناك “من الاشتراكيين العرب شطرٌ مهم يهتبلون بالتحليل الماركسي لتاريخ المسلمين، تحت أقلامهم تنازع المادية مشروعية الدين، وتفسر مولده، وتطوره. كما تحذف الجدلية كل أخلاق، وكل اعتقاد، وكل إنسانية[29].

  ولو تأملنا مقالات الشيخ وكتبه المتعددة عن الماركسية مذهبا وتجربة وتطبيقا، سنجد أنه يمتاز بخاصية مهمة، ألا وهي خاصية المفكر المتعمق، الذي ناقش المذهب في إطاره النظري مقولاته الفلسفية، ودحض افتراضاته المزعومة، ومن ثم تناول التطبيق[30]. ردا على ما قد يقوله البعض: شتان بين النظرية والتطبيق، ولكن الشيخ توقف عند الاثنين معا، مؤكدا على صحة المنهج الإسلامي، الذي يربي الفرد  الجندي  والقائد، ويهتم ويعتني به عقيدة وخلقا وعلما، كي يكون عدة الدعاة في جهادهم، والجهاد بلا شك يشمل جهاد النفس وجهاد العدو.

  التغيير من أجل الاستخلاف

     إن الشيخ عبد السلام ياسين، وكما تبين لنا يتحرك باستراتيجية واضحة، تأمل في التغيير على مستويات عدة: مستوى الفرد، والجماعة، والدولة، والأمة، ومن ثم يأتي الهدف الأسمى وهو إقامة الخلافة على الأرض، ومن ثم أستاذية العالم، فأما الخلافة فهي رمز وحدة المسلمين جميعا، ويكفي أن يستعيد المسلمون كتب التاريخ، ويطالعون صفحاتها، عندما كان المسلم يستظل بالخلافة الإسلامية أين أو متى ضرب في جنبات الأرض، وإن كانت أرضا غير إسلامية، وأما أستاذية العالم، فتعني ببساطة الدور الحضاري للإسلام والمسلمين، فقد كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة الأعظم في رسالتها وهداها وعلومها ورجالها، إذا نظرنا إلى منجزها الحضاري، بعيدا عن الصورة المشوهة التي يقدمها لنا الاستشراق الغربي، ومن سار على دربه من أبناء جلدتنا، حينما يعرضون الحضارة الإسلامية على أنها صراعات قصور، وليست صناعات وإبداعات وعلوم وفنون، في حين أنهم يقدمون التاريخ الأوروبي / الغربي من خلال عصور النهضة، وما تلاها، عبر لوحات الرسامين، واختراعات العلماء، والثورات التحررية.

   ومن هنا يجب أن تكون وحدة الأمة المسلمة إيمانا ووعيا وهدفا لكل مسلم، فالإسلام يحيا في جماعة، والجماعة أساس في الدولة، وهي لبنة الأمة كلها , بوصفه استراتيجية محورية في دعوته، وأنه كان يتحرك في بوصلتها، التي تمثل رؤية شاملة له تهدف إلى تغيير حياة الأمة كلها، وانتشالها من بوتقة الفقر والتخلف والتشتت والتمزق، بأمل ” توجيه وتنسيق الجهود، في أهداف واضحة، ومسلك نموذجي، فهناك كلمة «تكتيك » وهي أيضا لفظة عسكرية تعني: الناحية التنفيـــــــــــــــــــذية الجزئية لاستراتيجية ما”[31]، وبالتالي يتغير فكر الداعية من الفردية إلى الجماعية، ومن النظرات الجزئية إلى الرؤية الشاملة، ومن القطري إلى الأممي، ومن الإقليم إلى الخلافة والأستاذية الحضارية العالمية.  

    وكم كان الشيخ واضحا، وهو يبشر بالخلافة الثانية القادمة، والتي ستكون على منهاج النبوة، بكل ما فيها من قيم وسلوك وأخلاق عظيمة، تساهم في قيادة الإنسانية إلى الإسلام بكل ما فيه من خير للبشرية كلها، فلا معنى أن يأتي التغيير عنيفا، أو مبتدَعا، مخالفا لنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير. يقول الشيخ عبد السلام ياسين: “الخلافة الثانية على منهاج النبوة هي مستقبل المسلمين، وإن تعامل العاملين للإسلام مع سواد الأمة وطوائفها وأحزابها السياسية وتعامل الجماعات الإسلامية فيما بينها إما أن يكون بالرفق الإسلامي والتؤدة والتفاهم فيحالفَه توفيقُ الله في الدنيا والسعادةُ للجميع في الآخرة. وإمَّا أن يكون على الأساليب العنيفة المبدِّعة المكفِّرة المتجهمة الخوارجية فذاك الضلال بعينه عافانا الله”[32]

[1]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، الرباط، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، ط2، 1410هـ، 1989م، ص7 .
[2]السابق، ص7
[3]عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، سلا – المغرب، بدون ناشر، ط1، 1420هـ، 2000م ص163
[4]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، بيروت، دار لبنان، ط1، 2009 م، ص85، 86.
[5]عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، بيروت، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1،1432هـ  2011م،ص36
[6]عبد السلام ياسين، الفطرة وعلاج القلوب ( من سلسلة دروس المنهاج النبوي )، سلا – المغرب، بدون ناشر، 1419هـ، ص9 .
[7]عدنان محمد أمامة، التجديد في الفكر الإسلامي، الدمام – القاهرة، دار ابن الجوزي، ط1، 1424هـ، ص37-41
[8]عبد السلام ياسين، قطوف 1 ( شعر )، سلا – المغرب، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، ط1، 2000م،ص34
[9] السابق، ص19، 20
[10]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، ص3
[11]عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص126
[12]عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، الرباط، حقوق الطبعة محفوظة للمؤلف، ط1، 1989م، ص37
[13]عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، ص4
[14]عبد السلام ياسين، الثمن، من سلسلة المنهاج النبوي، سلا – المغرب، بدون ناشر، 1419هـ، ص26
[15]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص92
[16]عبد السلام ياسين، العدل : الإسلاميون والحكم، ص9.
[17]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص93
[18]عبد السلام ياسين، العدل : الإسلاميون والحكم، ص393
[19]منال موسى علي دبابيش، منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية من خلال السيرة النبوية، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، 1429هـ، 2009م، راجع الصفحات : 13 -25، 30 – 50.
[20]عبد السلام ياسين، الإسلام بين الدعوة والدولة: المنهاج النبوي لتغيير الإنسان، الرباط، بدون ناشر، 1972م، ص83
[21]عبد السلام ياسين، الثمن، ص26
[22]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص87
[23]عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، ص45
[24]السابق، ص72
[25] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ص120
[26]عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ص104.
[27]عبد السلام ياسين، الإسلام وتحدي الماركسية اللينيية، سلا – المغرب،  بدون ناشر، 1406هـ،  ص93-95
[28]عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص85، 86
[29]عبد السلام ياسين، الإسلام وتحدي الماركسية اللينيية، ص108
[30] انظر تفصيلا كتابه : الإسلام وتحدي الماركسية اللينيية، الذي فصل فيه القول على مزاعم الماركسية وفلسفتها، بما يوضح بجلاء سعة اطلاعه على هذا المذهب، ورفضه لماديته البغيضة . ص31 – ص70 .
[31]عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، الرباط، حقوق الطبعة محفوظة للمؤلف، ط1، 1989م، ص38
[32]عبد السلام ياسين، الإحسان 1، – الدار البيضاء، مطبوعات الأفق، ط1، 1998م، ج1، ص366، 367

أضف تعليقك (0 )



















النشرة الإخبارية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد