الإمام عبد السلام ياسين والسنة النبوية الشريفة
اهتم علماء الإسلام بالسنة النبوية اهتماما بالغا، أفنى في خدمتها أجيال من المحدثين أعمارهم، وركزوا فيها أخلص جهودهم، واستخدموا لصيانتها نبوغهم وإبداعهم وثاقب فكرهم، ونالت من عنايتهم الشيء الكثير، فهي وحي رباني مؤسس لبناء الإنسان والحضارة والعمران وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (النجم: 3-4).
وقد نوّع المحدثون التصانيف في السنة المشرفة، وتفننوا فيها، مما يجعل مصنفاتهم بتنوعها ملبية للمطالب التي يتطلع إليها العلماء والمتعلمون، فمنهم من ألف في المجامع والسنن، ومنهم من نزع إلى التصنيف في المستدركات والمستخرجات، ومنهم من ألف في أحاديث شعب الإيمان...إلى غير ذلك من التصانيف النافعة.
كان الإمام عبد السلام ياسين شديد الاعتصام بالكتاب العزيز، حريصا على اتباع السنة فهما واقتداء، عظيم الأدب مع رجال الحديث، كثير الترحم عليهم؛ لأنهم تركوا لنا: "أثمن مادة وأرفعها مكانة في السرادق الفخم، سرادق علوم الإسلام"[1].
سافر رحمه الله إلى مدينة طنجة رفقة الأستاذ محمد عبادي حفظه الله لطلب إجازة الحديث الشريف من المحدث الحافظ سيدي عبد الله بن الصديق الغماري الذي أجازه إجازة عامة في جميع مروياته.
شهد للإمام ياسين غير واحد من علماء عصره بالنبوغ والعلم والصلاح، قال العلاّمة المحدث الشيخ عبد الله التليدي رحمه الله: "المرشد العظيم العالم الفالح سيدي عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان بالمغرب ومرشدها العام"[2]. وقال أيضا: "أول ما التقيت بسيدي عبد السلام كان في سنة 1973م. تربطني به علاقة طيبة، نتبادل الزيارات، والمحبة التـي بيني وبينه محبة متينة وقوية، هي محبة لله. أشهد له بالعلم وبتجربة تربوية وصوفية عالية، وأشهد له بالكمال البشري، وإن كان الكمال البشري خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هناك رجالا كُمَّلاً. هذا زيادة على إلمامه الواسع بالشأن السياسي، وثبات موقفه الرافض للظلم وللظلمة ومجاهدته للطغيان. في أمثاله يقول الله سبحانه ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبا (الأحزاب: 39)، من نعم الله على هذه الأمة أن جعل فيها أمثال سيدي عبد السلام، وأراه على رأس مجددي الإسلام في هذا القرن. كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها. أرى أن سيدي عبد السلام في طليعة المجددين، ليس في المغرب فحسب، بل بالنسبة للعالم الإسلامي كله. أطلب الله أن يجعلنا دائما في طليعة المؤيدين له والواقفين في جماعته ابتغاء رضى الله"[3].
كان الإمام يدعو إلى التخلق بهدي السنة الشريفة، يقول "تخلق أخي بأخلاق رسول الله ﷺ، وخصص وقتا لقراءة الحديث وحفظه كما تخصص أوقاتا لتلاوة القرآن وحفظه، فما ملأت جوفك بشيء أنفع لك عند الله من كلام الله، ولا قرأت علما أنفع لك في سيرك إلى الله وبنائك للجماعة من حديث رسول الله ﷺ"[4].
عكف الإمام على دراسة السنة المشرفة، فكان من ثمار آثاره النفيسة في ذلك مصنفه الذي كتبه في السجن المسمى بـ (شعب الإيمان) يقع في سفرين اثنين اشتملا على أكثر من 2500 حديث، جمع فيه الأحاديث المتعلقة بالأعمال والأخلاق الإيمانية التي عبّر عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المشهور المتفق عليه بكلمة “الشعبة”، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :"الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ أَو بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة، فأفضلها قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شعبةٌ من الْإِيمَان"[5]. هذا الحديث الشريف "يضع أقدامنا على منطلق الجادة، ويضع لنا صوى ثلاثة من معالم الطريق، ثم يحصر لنا عددها في بضع وسبعين."[6]، وفي مقام آخر يقول الإمام إن هذا الحديث: "يعطي وسيلة التربية القلبية لا إله إلا الله، ويصف ثمرة الإيمان في خلق الحياء، ويتنزل إلى تلمس دلائل الإيمان في أسهل الأعمال وأبسطها كإماطة الأذى عن الطريق. هذه الثلاثة نماذج للسلوك الرباني النوراني: لا إله إلا الله ونورانيتها -وللتهذيب الوجداني: الحياء والخير الذي يأتي به- وللمشاركة الفعلية في الحياة العامة الجماعية: إماطة الأذى عن طريق المسلمين"[7]، إن حديث شعب الإيمان يصور لنا الإيمان وحركة المؤمنين في سيرهم إلى الله نهرا له شعب وروافد.
وضع الإمام كتاب (شعب الإيمان) على ترتيب جديد يختلف عن منهج الإمام الحليمي والإمام البيهقي وغيرهما ممن كتب في هذا الباب، حيث رتب مصنّفه الحديثي ترتيبا عمليا يحتاج إليه الفرد والجماعة، رتّبه تحت الخصال العشر، ثم فرع تحت كل أصل أعمالا وأخلاقا، وتلك الخصال العشر اختصارا، كما يلي:
1. الصحبة والجماعة: صحبة وجماعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2. الذكر: ذكر الله وكتابه وتوحيده ومحبته وحاكميته.
3. الصدق: رجولة الاخلاق الإيمانية، صدق الذمم والهمم.
4. البذل: عدل وعطاء، بذل النفس والنفيس في سبيل الله
5. العلم: طاقات العقل بعد طاقات الإيمان؛ علم وتعليم.
6. العمل: عمل منظم على الشورى والمسؤولية.
7. السمت: حضارة أخوية متميزة، سمت الإيمان بدل ذوبان الشخصية.
8. التؤدة: صبر وطول نفس ورفق.
9. الاقتصاد: اقتصاد الكفاية والقوة.
10 . الجهاد: بذل الوسع واستفراغه من أجل الوحدة الإسلامية، لتكون كلمة الله هي العليا.
ويجدر الإلماع إلى أن الإمام ياسين اعتمد في جمع أحاديث مصنفه على ما تيسر له من مصادر في السنة النبوية؛ وصلت إليه في سجنه، وهي: رياض الصالحين للإمام النووي، والترغيب والترهيب للمنذري، والإتحافات السنية للمناوي، والتاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف، وحياة الصحابة للشيخ الكاندهلوي.[8]
[1] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، دار الخطابي للطباعة والنشر - الدار البيضاء الطبعة الأولى، السنة 1989م، ص: 19.
[2] عبد الله التليدي، ذكريات من حياتي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى السنة 2004م، ص: 171.
[3] عبد السلام ياسين.. الإمام المجدد، لمحمد العربي أبو حزم، الطبعة الأولى 2017م، مطبعة إفريقيا الشرق، 1/501.
[4]عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، خرح أحاديثه عبد اللطبف آيت عمي وراجعه وشرح غريبه عبد العلي المسئول، الطبعة الأولى 2017م، 1/20.
[5] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، رقم: 9. مسلم، الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، رقم: 35.
[6] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة الثالثة، السنة 1994م، ص: 120.
[7] نفس المرجع، ص: 44.
[8] ينظر عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، 1/20.