لقد سبق أن تحدثنا في الموضوع السابق مداخل الفكر المنهاجي عن أربعة مداخل رأيناها ضرورية لفهم الفكر المنهاجي وهي: المدخل الغيبي والمدخل التاريخي والمدخل الاستراتيجي والمدخل الواقعي. وعندما كتبنا في خاتمة الموضوع: “إن عدم الدخول من هذه المداخل الأربعة إلى فكر الأستاذ عبد السلام ياسين يجعل الباحث لا يفهم كثيرا مما يريده الرجل، مما يؤدي به إلى إصدار أحكام تفتقد إلى الموضوعية والعلمية، لأن بدون هذه المداخل يكون الفهم ناقصا لا يحيط بكل جوانب المشروع”) لم يكن المقصود أن نقطع الطريق أمام طرح أي مداخل أخرى من وجهة نظر مغايرة، وإنما كان القصد هو التأكيد على أهمية هذه المداخل وفاعليتها لفهم هذا الفكر.
كان حديثنا عن المداخل الأربعة، في الموضوع السابق الذكر، حديثا مختصرا لا يليق بحجمها وقيمتها، لذلك رأينا أنه من الواجب شرحها والتعمق فيها حتى تكتمل النظرة ويظهر المخفي ويوضح المبهم.
إن هذه المداخل ترتبط فيما بينها ترابطا قويا، لأنها ترتكز على أربع دعائم كل دعامة هي أساس بناء مدخل محدد. وهذه الدعائم هي بالتتابع: الإيمان بالغيب وفهم التاريخ والوعي الاستراتيجي وفقه الواقع. وهذه الركائز هي أيضا غير منفصلة عن بعضها بل هي متداخلة فيما بينها تداخلا يحدث تكاملا في بناء المداخل الأربعة.
نلاحظ جليا كيف تتداخل هذه العناصر كلها فتلتقي جميعها لصياغة فقه واقع يجعل جند الله العاملين للإسلام يتعاملون مع كل العقبات الموجودة في الطريق بحكمة بالغة.
“الدنيا ما خلقت لراحة المؤمنين، إنما جهاد شاق وعقبة تقتحم”). لذلك سيكون حديثنا في البداية عن فقه الاقتحام في “المنهاج النبوي”، ثم نتحدث في المرات المقبلة إن شاء الله عز وجل في أربعة محاور عن عامل الإيمان بالغيب وتاريخ المسلمين ووحدة الأمة ثم إجرائية المداخل الأربعة.
مقدمة
لما طرح الأستاذ عبد السلام ياسين مشروعه أراده أن يكون أصيلا في كل شيء، فاعتمد على مفاهيم منهاجية مأخوذة من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول مثلا في حديثه عن القومة: “نستعمل كلمة قومة تفاديا لاستعمال كلمة ثورة. لأن ثورة فيها العنف ونحن نريد القوة… فنريد أن نتميز في التعبير ليكون جهادنا نسجا على منوالنا النبوي”) . وتكمن أهمية التميز في التعبير أنها تبقي الخطاب الإسلامي متحررا من أي حمولات تحملها مفاهيم دخيلة، لذلك انتبه الأستاذ إلى هذا الأمر وأعطاه أولوية كبيرة. إذن فحديثنا عن الاقتحام من داخل “المنهاج النبوي” يجعلنا بعيدين جدا عن حمولة المصلح من داخل الفكر الجدلي المادي.
ارتبط مفهوم الاقتحام في كتاب الله تعالى بالعقبة في قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة ، قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في “مفردات ألفاظ القرآن”: “الاقتحام توسط شدة مخيفة”) .
إن الحركة الإسلامية اليوم وهي تشق طريقها نحو إحياء الأمة من جديد وتأسيس دولة الإسلام على قواعد الحرية والعدل والشورى تعترضها عقبات عدة في الطريق. والتعامل بالحكمة اللازمة مع هذه العقبات اقتحاما، يعطيها فرصة كبيرة للاستمرار حتى تنفذ مهمتها. ولن يتحقق ذلك إلا بعلم مسبق بوجهة الاقتحام وكيفيته. ونحن إذ نعتمد على فكر الأستاذ عبد السلام ياسين لتوضيح طبيعة الاقتحام ووجهته وكيفيته، ليس من باب المزايدات التي ينبغي على الصف الإسلامي أن يتجاوزها، بل لأن فكر هذا الرجل أعطى أولوية لهذا العلم، حيث اعتبر أن مفهوم “اقتحام العقبة” هو رأس المفاهيم المنهاجية التي اعتمدها في صياغة مشروعه، يقول:“رأس هذه المفاهيم (المفاهيم المنهجية) العبارة المقتبسة من سورة البلد: “اقتحام العقبة” إلى الله عز وجل. هذه العبارة لم آخذها صدفة إنما توفيق الله عز وجل سبق، فإذا بالعبارة حبلى بكثير من العلم).
وجهة الاقتحام
يقول الحق سبحانه في سورة البلد: ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة . لقد هدى الله تعالى الإنسان النجدين أي طريق الخير وطريق الشر، فهو إذن حر في اختياره. ومن هنا جاء حديث الأستاذ عبد السلام ياسين عن “الحرية والمصير”، فاعتبر أن الحرية تتجاوز مجالها الأرضي ومطالبها الدنيوية لتصبح خادمة لمصير الإنسان بعد الموت.
ولما اجتمعت الحرية بالمصير فإن هذا الأخير يصبح مرهونا بسلوك الإنسان في الدنيا وبحريته، فإما حرية تحقق المنفعة الدنيوية فقط فيكون من أصحاب المشأمة، وإما حرية تولد إرادة تدفعه لاقتحام العقبة فيكون في الآخرة من أصحاب الميمنة إن شاء الله تعالى.
قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة أولائك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار موصدة .
للفقيه الذي يبحث عن الأحكام العينية الجزئية أن يفسر فك الرقبة وإطعام المسكين واليتيم والكينونة مع الذين آمنوا في سياق الأحكام الفقهية، وتكون في هذا الإطار العقبة المراد اقتحامها فردية لا تتجاوز ذالك إلى ما يخدم الدعوة وما يخدم تحرك جند الله لإقامة دولة الإسلام، لكن هذا لا ينقص شيئا من قيمة هذه الأحكام، ف“الأحكام التفصيلية باقية على وجهها” ، “لكن أي شيء يمنعنا أن نفهم عن الله عز وجل ما وراء الأحكام التفصيلية، ما يجمع تلك الأحكام وما يربطها وما يكون منها معرفة شمولية للإنسان وسلوكه عبر العوائق والحواجز التي تعترض صعوده في معارج الإيمان؟”) فنكون آنذاك قد خرجنا من إطار ما تسمح به الأحكام التفصيلية الجزئية إلى فقه أوسع جامع يعطي جند الله معاني أكبر عن الاقتحام وطبيعته وعن العقبات ونوعيتها، فينتقل فك الرقبة من المفهوم الجزئي إلى آخر كلي بمعنى “تحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل”) ، ويصبح “إطعام اليتيم والمسكين تحريرا لطاقاته لينتج ما به يستطيع أن يطعم المعوزين ابتداء من إطعام نفسه”) ، ثم الكينونة مع الذين آمنوا التي هي “تحرير الإنسان المؤمن الفرد من العزلة والخمول والانفراد، وإدماج له في الجماعة ليتحزب لله عز وجل”) ، وبهذا يكون المؤمن قد وضع نفسه على الجادة لما اكتمل في وعيه الجمع بين المصيرين: مصيره الفردي إلى الآخرة ومصير أمته إلى الاستخلاف والتمكين في الأرض.
وبالجمع بين المصيرين في وعي المؤمن تكون وجهة الاقتحام قد تحققت في كليتها كما كانت عند الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذين كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار لا ينفصم في فكرهم وممارستهم همهم الفردي عن هم أمتهم، وكذلك “المؤمن الكامل الإيمان هو ذاك الذي لا يهرب من الميدان مخافة التلوث، لا يدع العالم وصراعاته للتقوى والعبادة، لا يفصل مصيره في الآخرة عن مصير أمته التاريخي.”)
عقبات تقتحم
لقد انحدرت الأمة بعد انقضاض عروة الحكم انحدارا شديدا من أعلى الدرج إلى أسفله لما ذهب العدل والشورى وحل محلهما الجور وحكم السيف، مما يجعل إعادة الأمور إلى نصابها والسفينة إلى وجهتها عقبة واجب على من ندب نفسه لهذه المهمة اقتحامها. ولن يتصدى لهذه المهمة العظيمة أفراد أشتات بل جند الله المنظمون الواثقون من نصر الله الحاملون مع همهم بالآخرة ولقاء الله عز وجل تهمّمهم بمصير أمتهم “حتى تقوم دولة الإسلام الخلفية على منهاج النبوة”) .
إذن فإعادة إحياء الأمة ورفعها من هذا المنحدر، الذي أسقطها الملك العاض والملك الجبري فيه، هي عقبة جماعية، اقتحامها يتطلب رؤية ووضوح غاية ومنهاجا يوضح الطريق ليكون الاقتحام“اقتحاما على هدى لا على تخبط، على علم لا على ظن، على حق وسنة لا على هوى وبدعة”) .
إن الجماعة المنظمة التي تريد أن تستجيب لله فتنصره لينصرها ويرضى عنها تتكون من أفراد،“ومتى كانت القوة الجماعية لخلل في همم الأفراد لا تستهدف رضى الله كان الفشل”)، لذلك وجب على كل فرد أن يقتحم عقبة نفسه، ف“شيطنة النفس، وشيطنة الوسواس الخناس من الجنة والناس، وفتنة الدنيا، تشكل مجتمعة عقبة في أنفس البشر”) و“اقتحام العقبة بالنسبة للفرد المؤمن جهاد لنفسه كي تستقيم على طاعة الله، وجهاد مع المؤمنين المتواصين المتراحمين لإقامة دين الله في الأرض”) .
وهنا نعود من حيث بدأنا لنؤكد على ضرورة أن يجتمع في وعي المؤمن همه الفردي بهم أمته، وهو ما يصطلح عليه في مشروع الأستاذ عبد السلام ياسين بالغاية الفردية التي تستهدف رضى الله تعالى، والغاية الجماعية التي تستهدف إقامة نظام إسلامي يقيم دين الله تعالى في الأرض.
كيفية الاقتحام
اقتحام العقبة بالنسبة للفرد المؤمن الذي يؤرقه مصيره في الآخرة كما يؤرقه الحال الذي وصل إليه المسلمون يكون بالتربية، ف“التربية بداية السير، فمتى كانت متينة على هدى من الله كان الجهاد ممكنا”)، وبذلك يندمج المؤمن في الجماعة المنظمة “اندماجا عاطفيا وحركيا… اندماجا لا ينقطع بانتهاء الحياة الدنيا بل يمتد إلى الحياة الأبدية”) .
أما اقتحام العقبة الجماعية بالنسبة لجند الله المنظمين فهو “جهاد تربوي وتنظيمي وميداني ومالي وقتالي وسياسي”) ، وقد حدد الأستاذ عبد السلام ياسين كيفية اقتحام هذه العقبة بعرضه لمهمات جند الله في كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”)، و“هي بالترتيب الذي لا يمنع التداخل والتزامن متى كانا حكمة”) .
المهمة الأولى: “تأليف جماعة المسلمين القطرية وتربية رجالها”) .
المهمة الثانية: “إقامة الدولة الإسلامية القطرية”) .
المهمة الثالثة: “توحيد الأقطار الإسلامية”) .
المهمة الرابعة: “الخلافة الوارثة”) .
هذه المهمات هي صوى في الطريق تنقلنا “من أسفل العقبة، وهو واقعنا كأمة متخلفة مقهورة… إلى قمة العقبة بإقامة الأمة الوارثة في مقام الخلافة عن الله ورسوله”) .
لقد كان المقصد واضحا عند الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، وهو أن يكون الدين كله لله وأن يسلم الخلق جميعا لله عز وجل، فوحد هذا المقصد الجليل قبائل وأجناسا على اختلاف الطبائع والعادات والنفوس، فأصبحت الجهود موحدة تصب جميعا لخدمة هذا الهدف السامي. لكن حدث أن انفرطت هذه الوحدة بعدما أصبح المسلمون تحت حكم السيف فهان على المستعمر أن يحتل أرضهم ويجزئها إلى دويلات، لذلك فالمطلب الأول الذي يجب أن تشترك فيه الحركة الإسلامية هو وحدة الأمة. في كل قطر من هذه الأقطار القفصية التي نراها اليوم يعمل الإسلاميون لغد يأذن في الله تعالى فيحدث اللقاء وتتوحد الأمة من جديد بعدما تتحرر الأقطار قطرا قطرا.
“التنظيم القطري قبل الوصول إلى الحكم وبعده هو الطليعة الشجاعة التي ينبغي أن تخطط للمستقبل، حتى يصبح توتر الأمة نحو المستقبل إرادة واعية لا حماسا حالما. ينبغي أن تخطوا على ميدان الجهاد خطوات ثابتة لتتبع الأمة خطواتها”) .
إن الحركة الإسلامية لن تستطيع أن تقود الأمة إلى ميدان الجهاد بخطوات ثابتة، بل قد تصبح لاعبا يحمل رقما في مربع السياسة الضيق كما للآخرين أرقاما، إن لم تخطط لهذه الحركة تخطيطا محكما توضح من خلاله الطريق والوجهة. ولقد بين الأستاذ عبد السلام ياسين ذلك بقوله: “مهمات جند الله تريد كتائب منظمة، تريد الضبط، تريد الفهم الواضح لعقبة السير، تريد فهما لأمر الله ورسوله.”)
خاتمة
إن الاقتحام الذي تحدثنا عنه ما هو إلا استجابة المؤمن لنداء ربه عز وجل الذي يدعوه لاقتحام العقبة، لكن هذه “الاستجابة لا تتخذ معناها من خصال المقتحم ولا من وعورة المسلك، لكن من كونها تلبية لنداء الحق”) . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله الشورى الآية 26.
“الطليعة المجاهدة” هي المعول عليها بعد الله عز وجل لإحياء الأمة من جديد، ولا تكون هذه الطليعة إلا رجالا صادقين لا تتعلق أنفسهم بالدنيا ولا يفسدهم متاعها ولا زينتها، لأن خطر الاحتواء وإفساد الرجال حاضر دائما لا يغيب، لكن “متى كانت التربية إحسانية، وكان الجند وقادة الجند ربانيين، فإن لعبة الاحتواء تنفضح وتنهزم آخر الأمر”) .
لا يقتحم العقبة من “يستكبر عن الدخول في حصن الجماعة”)، ولا تقتحم العقبة جماعة مكونة من عناصر مريضة فاترة تميل إلى الراحة والخمول، إنما يقتحم العقبة المؤمن الشاهد بالقسط “القوي الأمين الثابت في رباطه لا يتزعزع عن خط سيره مهما كانت العقبات”) ذلك المؤمن الذي يقيم صلب الجماعة التي “تواجه عقبات الحاضر لتخرق طريقها إلى العزة بالله ورسوله”) . إذن فاقتحام العقبة ما هو إلا “تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام. حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية”) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك (0 )