مقاصد التغيير السياسي عند الأستاذ عبد السلام ياسين:
يتقصد الجهد التغييري المنهاجي عموما والتغيير السياسي خصوصا تحقيق عدة مطالب في نظر الإمام عبد السلام ياسين لعل أبرزها: تحرير الإنسان مطلقا والمسلم خاصة، وإقامة أركان الدولة التشاورية العادلة وإعمال الإعمار وتعميم الرخاء وإعادة الاعتبار لأخلاقية الدولة والتوجه نحو توحيد الأمة الإسلامية.
أ- تحرير الإنسان:
تروم عملية التغيير من منظور عبد السلام ياسين تحرير الإرادة السياسيّة للإنسان مطلقا والمسلم خاصّة، والتّمكين له في المشهد المجتمعي المدني داخل الأمّة الإسلاميّة باعتباره فاعلا حضاريّا يساهم في تشكيل واقعه السّياسي المعيش، ويرسم معالم مستقبله وأفراد أمّته في القادم من السّنين. وهذا الفعل التّحريري لا يكون إلاّ بامتلاك القدرة على اتّخاذ القرار وعلى التخلّص من هيمنة السّلطان المستبدّ، وهو مطلب عزيز أكّد الشّيخ ياسين على ضرورته في الآن والهنا، فكان سبّاقا في دعوة العرب والمسلمين إلى الثورة على حكّامهم المستبدّين الطّغاة، وتمّت ترجمة ذلك في ثورات الرّبيع العربي فـ “لا عصمة من الشرّ إلاّ بمقاومته (…) ولا يقهر السّيف إلاّ السّيف متى فشلت الوسائل السّلميّة والقوْمات الجماهيريّة” على حدّ قول الأستاذ عبد السّلام ياسين. وبذلك فالرّجل ينظّر للإطاحة بالسّلطان الظالم لإقامة الحكم العادل، ويؤسّس للتّغير الجذري تحقيقا لمطلب الخلافة المنهاجيّة على الطّريقة النبويّة، إذ ما الفائدة من إصلاح يُديره المفسدون، ويشرف عليه عتاة المحتالين، فـ “إذا كانت مفاسد القهر، والظّلم والاستبداد والانحلال الخلقي ناشئة عن الملك لازمة لهن فكيف ننتظر أن يصبح الفساد صلاحا؟”[ref]ياسين، عبد السلام، الخلافة والملك، ص22[/ref]
وقد كان الإمام صريحا في نقد أشكال الاستيلاء على السّلطة بدافـع العصبيّة أو الـوراثـة أو الانقلاب العسكري وبحجّة البيعة الإكراهيّة، في ذلك يقول: “مازالت بدعة الوراثة تسير في طريقها الطبيعي حتّى تطوّرت إلى اللّعب السّافر بالأمّة، تريد الأسرة الحاكمة، والعصبيّة الجاثمة، والنّظام المتسلّط أن تُحافظ على مصلحتها وبقائها، فينصّب الحاكم ابنه أو واحدا من قرابته وليّا لعهده، ويعطون لهذه الولاية الفاجرة صفة شرعيّة، عندما يكرهون النّاس على بيعة الوارث… وهي في الحقيقة بيع للدّين، لا بيعة يقرّها الدّين. نُصّب الصّبيان سادة على رؤوس الأمّة. بل بويع حتّى لمن لم يولد. وهكذا فسدت أداة الحكم، وشوّهت السّلطة، وعُبدت الأصنام الوراثيّة، وعبث الغلمان وعُبث بهم فذلك هلاك الأمّة” . وفي هذا الخطاب سخرية فاضحة، تعتريها مرارة معبّرة مردّها ما آل إليه واقع العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم الإسلامي، فقد غدا استمرار الاستبداد، وانفراد الفرد أو الأسرة بالحكم عادة في السّلوك السياسي للمسلمين ترسّخت على مدى قرون. وبلغ الأمر بالملوك درجة التصرّف في الأمصار على أنّها مزارعهم الخاصّة، ودرجة التحكّم في رقاب النّاس وفي مصيرهم، وكبت أفواههم، وإجبارهم على إعلان الولاء، وإشهاد العالم على النّفس للزوم الطّاعة، وإلاّ كانت نهاية كلّ معارض للصنميّة الملكيّة أو السلطانيّة أو الرّئاسيّة أو العسكريّة المعاصرة الموت أو النّفي أو السّجن أو التّشريد، أو المتابعة والمراقبة، والمحاصرة وقطع أسباب الرّزق والعيش الكريم. وأمام هيمنة الدولة القامعة في البلاد الإسلامية فإن مهمة جيل القومة في نظر صاحب المنهاج النبوي تتمثل أساسا في تحرير المسلمين من سطوة الأنظمة السلطوية /الشمولية، وتأسيس الدولة التشاورية العادلة على منهاج النبوة.
ب- إقامة أركان الدولة التشاورية العادلة:
نبّه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى خطورة تعطيل الشورى بعد الفترة الراشدية وعدم اعتمادها في تدبير الشأن السياسي للمسلمين، معتبرا ذلك انزياحا عن الخلافة المنهاجية وتأسيسا لحكم استبدادي/عضوض، يرسخ هيمنة الحاكم، ويجعل بلا رقيب وبلا حسيب، بل له اليد الطولى في إدارة الشأن العام، وبالمقابل تصبح الرعية كيانا اجتماعيا مهمشا لا تتجاوز مهمته تأييد السلطان ومباركته وإعلان البيعة له على سبيل الخوف أو الإكراه “فبعد أن كانت البيعة في عهد الخلافة الراشدة عقدا اختياريا (…) يعطي الإمام حق السمع والطاعة بشروط. أصبحت البيعة اسما للانقياد بلا قيد أو شرط. وألحقت أحكام المبايعة وشؤون الإمامة بكتب الفقه كأنها فروع لا خطر لها، بينما هيمن على تاريخ الأمة “دين الانقياد”[ref]ياسين، عبد السلام، الخلافة والملك، ص 18[/ref]
و جرى في هذا السياق توظيف الدين لتبرير السياسة وإضفاء القداسة على بيعة الإكراه وحكم الغلبة. وعدّت الشورى على التدريج فعلا ديكوريا. فموقف أهل الحل والعقد غير ملزم للحاكم، وما على الناس إلا لزوم الطاعة، وأفرز ذلك النهج في إدارة مؤسسة الحكم حالة من الاستبداد السياسي في العالم العربي ترسخ معها حضور الدولة الجائرة، وتراجع معها الإسهام التاريخي للمسلمين في الحضارة الكونية. من هنا دعا صاحب كتاب “المنهاج النبوي” إلى إعادة قراءة التراث السياسي الإسلامي من منظور نقدي، موضوعي، و كشف في أكثر من موضع من مصنفاته تهافت الحكم الفرداني والحكم الوراثي أو العصبي القائم على سلطة الأسرة أو القبيلة. وأكد ضرورة إحياء التجربة التعاقدية التشاورية في حكم المسلمين وتسيير أمورهم، وذلك تأسيا بالتجربة المحمدية، والتجربة الراشدية. وذهب الإمام إلى أن “العدل والشورى دين الأمة الذي تحترمه، وأمل الأمة الذي يبرق في خيالها، ووعد الله ورسوله الذي تصدّقه” [ref]ياسين، عبد السلام، الإسلام وتحدي الماركسية اللينية، ط1 ، 1987 ، ص118[/ref] فالخلافة المنهاجية قائمة على العدل والشورى، ومؤسسة على اعتبار المسؤولية تكليفا لا تشريفا، والعمل بتعاليم الله وسنة رسوله في إدارة الشأن العام. وغاية القومة السياسية منح المسلمين الحق في اختيار من يتولى أمور حكمهم واختيار الحاكم على سبيل التشاور والتعاقد لا على سبيل الجبر والإكراه أو على سبيل البيعة الآلية. ومعلوم أن العدل أساس العمران وإكسير استمرار الدول وبقيامه من عدمه يتحدد رقي المجتمعات، ويتجلى مدى احترامها لحقوق الفرد والجماعة. والعدل من منظور الإمام عبد السلام ياسين نوعان: عدل حكمي مداره أحكام القضاء ونزاهة القضاة، وعدل قسمة مداره توزيع الثروة بين الناس بالقسطاس ويتجسد العدل الحكمي أساسا في عدل القاضي والحاكم، فهما مكلفان بتطبيق شرع الله عز وجل في إعطاء حقوق العباد وإنصاف بعضهم من البعض” [ref]ياسين ، عبد السلام، المنهاج النبوي، ص 250[/ref]ويكتسب هذا الصنف من العدل أهميته في أنه الضامن لفضّ مختلف أشكال التنازع بين الأفراد وبين الجماعات، وبين الحاكم والمحكوم، وفي أنه الركن المتين لإقامة دولة الحق والواجب، والأساس الصحيح لإقرار السلم الاجتماعي، فبفضل القضاء النزيه يتراجع دابر الفساد، وينصف المظلوم ويعاقب المجرم، ويشعر الناس بالطمأنينة. وإعلاء عبد السلام ياسين من قيمة العدل الحكمي يجد له سندا في النص القرآني من ذلك قوله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ” (النحل : 90)، وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء: 58) وقوله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” (المائدة: 44).
والمراد بعدل القسمة من منظور ياسين “القسمة العادلة و للمال والأرزاق وهو مطلب شرعي لا يقل أهمية عن مطلب العدل الحكمي والقضائي”[ref]ياسين، عبد السلام، في الاقتصاد، الدار البيضاء ، مطبوعات الأفق ، ط1 ، 1995 ، ص 190[/ref] لأن العدل في القسمة مؤدّاه إلى تأمين العدل في توزيع الثروة فيكفّ التفاوت في المكاسب المادية بين الأفراد، وتضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويتم تصريف المواد الأولية والموارد المالية بطريقة عادلة بين الجهات، وهو ما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والنهضة الاقتصادية المفقودة. ذلك أن “العدل في القسمة والقدرة على الإنتاج أساس بديهي لبناء العمران الأخوي”[ref]ياسين، عبد السلام، العدل، الإسلاميون والحكم، ص 249[/ref] فاعتماد سياسات تنموية عادلة، يؤدي بالضرورة إلى إحساس الناس بالاستقرار وشعورهم بالكرامة، ويعزز من ثقتهم بأجهزة الدولة، ويدفعهم إلى الانخراط في دورة الجهد الجماعي، والعمل التضامني لتحقيق التقدم الاقتصادي والتطور الحضاري المنشود. ولخص الإمام المجدد ذلك كله بقوله “إن الانتقال من الملك الجبري إلى الخلافة (المنهاجية) إنما محكّه العدل في القيمة، محكّه إنصاف المستضعفين، محكّه جمع المال العام بحق وصرفه بحق”[ref]ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي، ص 449[/ref]
بناء على ما تقدم يمكن أن نذهب إلى أن الدولة المنهاجية التي يروم التغيير السياسي تحقيقها وتروم القومة تأسيسها هي دولة تشاورية عادلة من أهم خصائصها:
– إعادة إنتاج دولة الخلافة وفق النموذج النبوي/الراشدي.
– تفعيل دور المسلمين في المجال العام وضمان حقهم في اختيار من يحكمهم عملا بمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن وعمل به النبي والخلفاء الراشدين من بعده.
– اعتبار الحكم مسؤولية قوامها التكليف لا التشريف، وأساسها الاستحقاق لا التفضيل.
– اعتماد الصيغة التعاقدية/التشاورية في بناء مؤسسات الحكم.
– تحديد صلاحيات الحاكم ومراقبة أدائه من جانب أهل الحل والعقد.
ج- تحقيق الإعمار والرخاء:
شوق الإنسان إلى العيش في أمن وكرامة، وشوقه إلى التحرر من هيمنة الحاكم المستبد، شوق مشروع وتحقيقه ممكن، وقدرة الناس على القومة في وجه الدولة القامعة تقتضي الالتفات في مرحلة لاحقة إلى معركة البناء الاقتصادي، والإصلاح الهيكلي لمؤسسات الدولة، فالتغيير السياسي يبقى عديم الفائدة ما لم تواكبه حركة إنماء واسعة في مختلف المجالات الجهوية التي عليها قوام الدولة فمن المهم أن يجني جيل القومة وعموم الناس ثمار المكابدة في تحدي المستبد، ومن المهم أن يتم تحويل النجاح السياسي إلى نجاح اقتصادي تستفيد منه كل الفئات الاجتماعية، ذلك أن القومة هي “معركة شديدة نحو الرخاء للأمة جميعا”،[ref] ياسين عبد السلام، في الاقتصاد، ط1، 1995 ص 204[/ref] فمن المهم تطوير “الاقتصاد والتنمية ولوازمها من التضييع والتمويل والتنظيم والبحث العلومي والتسويق” [ref]ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، ج1، ط1، 1996، ص106[/ref]لكسب رهان التنافسية ورهان الجودة في المشهد الاقتصادي العالمي، ولتحقيق الرفاه لعموم الرعية. فالتغيير السياسي المنهاجي هو جسر عبور إلى تنمية شاملة، فيتم الانتقال وفق خطط استراتجية وخيارات منهاجية من طور الفساد الاقتصادي إلى طور النجاعة الاقتصادية، ومن طور الاستهلاك والتبعية للآخر إلى طور الإنتاج والإنتاجية، مع العمل على كسب أسباب الاستقلال الاقتصادي وأدوات التميز في الأسواق العالمية، وذلك لا يكون إلا بإحياء ثقافة العمل، واستنهاض الجهود واستثمار الطاقات في تطوير البحث العلمي والإنتاج الكمي والكيفي.
ومعلوم أن الاقتصاد عصب الحياة الاجتماعية والتجارية ومعلوم أن المال قوام الأعمال، لذلك ألحّ صاحب المنهاج على الفاعلية الاقتصادية في مشروع التغيير، ذلك أن التنمية الشاملة شكل من أشكال اضطلاع الإنسان بدوره في عملية الإعمار وخلافة الله في الأرض، وهي أيضا وسيلة من وسائل بلوغ الرخاء العام على نحو يضمن العيش الكريم لعامة الناس.
د- توحيد الأمة الإسلامية:
عايش الإمام عبد السلام ياسين زمنا آله فيه العالم العربي والإسلامي إلى التفكك وتفرق فيه المسلمون شيعا وأحزابا داخل دول قطرية، ورثت الاستعمار، ولم تحقق مطالب الناس في الكرامة والأمان والرخاء والحرية… وظل العرب على مدى عقود كيانا ملحقا بالمعسكر الاشتراكي، أو المعسكر الرأسمالي، لا يملكون مصيرهم، ولا يملكون ثرواتهم ومقدراتهم، ولا يقفون على أرض واحدة وعلى كلمة سواء في معالجة ما يتهددهم من تحديات وما يواجههم من قضايا وهو ما أثمر حالة من الارتباك في مستوى الأداء العربي والإسلامي في مجالات شتى تتعلق بالامتداد الجغرافي للأمة وبقرارها السيادي،وإرثها التاريخي، وهويتها الحضارية، فقد أخذت نزعات التقسيم وتفتيت المفتت من الأمة مأخذها، فانتشرت الطائفية السياسية، والمذهبية الدينية، وغلب التعصب للقبلية وللعشيرة، وللدوغما الأيديولوجية على الانتماء لرابطة العروبة والإسلام، وأنتج ذلك حالة من الاستقالة الحضارية لعموم العرب والمسلمين. من هنا جاء خطاب صاحب المنهاج مفعما بحث الهمم على طلب الوحدة، ذلك أن لمّ شمل الأمة وتوحيد صفوفها، هو السبيل إلى استعادة حضورها الفاعل في المشهد الحضاري الكوني، وهو السبيل إلى استعادة سطوتها لمقدراتها وثرواتها، وهو السبيل إلى لحاقها بركب الدول المتقدمة، فوحدة الصف الإسلامي في صورة قيامها تعيد رسم خريطة القوى الإستراتجية الفاعلة على الساحة الدولية، وتمكن العرب والمسلمين من الإمساك بزمام المبادرة الحضارية، وتخول لهم تشكيل قطب اقتصادي/سياسي/ثقافي وازن قادر على توجيه السياسات الدولية في خدمة الصالح العربي الإسلامي. من هنا كان زعيم حركة العدل والإحسان حريصا على تجديد الدعوة في أغلب مصنفاته إلى صوغ “ميثاق إسلامي”، يجمّع ولا يفرق، ويتجاوز أسباب النزاع الطائفي، والانقسام المذهبي، والتشتت القطري داخل جسم الأمة الواحدة ويؤسس لدور ريادي جديد للمسلمين في العالم. ذلك أن “جمع كلمة الأمة وائتلاف قلوبها وتقريب آرائها، شروط ضرورية لإقامة الملّة وتقوية الدولة (…) (فمن المهم تحقيق) الدمج المذهبي والتعايش السلمي بين الآراء والتفاهم والتعاون ليتحد الناس ماديا ومعنويا”[ref]ياسين، عبد السلام، إمامة الأمة، ص258[/ref] فتتحقق النهضة الحضارية المنشودة.
الثابت من خلال النظر في مؤلفات عبد السلام ياسين أن الوحدة الإسلامية غاية سنية وهدف مركزي من أهداف الحركة التغييرية، وهي السبيل إلى تجاوز النزعات الانفصالية والصراعات الداخلية، وحركات التشتيت والتطرف، وهي السبيل إلى استئناف دور المسلمين في صناعة التاريخ.
أضف تعليقك (0 )