عِبَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ
لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
قِيَامُ رَمَضَانَ هُرُوباً مِنْ دَنَاءَةِ الهِمَّةِ
صَحَابِيٌّ مِنَ الأَبْطَالِ العُظَمَاءِ رَضِي الله عَنْهُ
اِشْتَغِلْ بِإصْلاَحِ عُيُوبِك
دُعَاءٌ نَبَوِيٌّ شَرِيفٌ
إلى الإخوة والأخوات في الدورة 23 لمجلس الشورى
شعبان 1446هـ | فبراير 2025م
عِبَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ
من كتاب البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير رحمه الله
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائماً إلا رأيته، ولا تشاء أن تراه نائماً إلا رأيته.
قالت: وما زاد على رسول الله ﷺ في رمضان، وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يوتر بثلاث.
قالت: وكان رسول الله ﷺ يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه.
وذكر ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه صلَّى معه ليلة فقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، والنساء، وآل عمران، ثم ركع قريباً من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه.
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قام ليلة حتى أصبح، يقرأ هذه الآية: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.[1]
وقد ثبت في الصَّحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قام حتى تفطَّرت قدماه. فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً”.
وروى الإمام أحمد والنسائي رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله ﷺ قال: “حبِّب إليَّ الطِّيب والنِّساء، وجعلت قرَّة عيني في الصَّلاة”.
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل قال لرسول الله ﷺ: “قد حُبِّب إليك الصَّلاة، فخذ منها ما شئت”.
وثبت في الصَّحيحين عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة.
وفي الصَّحيحين عن علقمة رضي الله عنه قال: سألت عائشة هل كان رسول الله ﷺ يخص شيئاً من الأيَّام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيُّكم يستطيع ما كان رسول الله -ﷺ- يستطيع؟
وثبت في الصَّحيحين من حديث أنس، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله ﷺ كان يواصل، ونهى أصحابه عن الوصال وقال: “إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.
والصَّحيح أنَّ هذا الإطعام والسُّقيا معنويان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم أن رسول الله ﷺ قال: “لا تُكرهوا مرضاكم على الطَّعام والشَّراب فإنَّ الله يطعمهم ويسقيهم”.
وما أحسن ما قال بعضهم:
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”.
وروى البخاريّ رحمه الله عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “اقرأ علي، فقلت: أقرأ عليك، وعليك أُنْزل؟ فقال: إني أحبُّ أن أسمعه من غيري”. قال: فقرأت سورة النِّساء حتى إذا بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾[2]. قال: “حسبك”. فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام كان يجد التَّمرة على فراشه فيقول: “لولا أني أخشى أن تكون من الصَّدقة لأكلتها”.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. وفي رواية: “وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء”.
ليلة النصف من شعبان
من العهود المحمدية، للإمام الشعراني رحمه الله
روى الطبراني وابن حبان رحمهما الله مرفوعا: “يطلع الله تعالى إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن”.
وروى البيهقي رحمه الله مرفوعا: “أتاني جبريل عليه السلام فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم بني كلب، لا ينظر الله إلى مشرك ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل إزاره، ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدين خمر”.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: “فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل النفس”. وفي رواية للبيهقي رحمه الله مرفوعا: “يطلع الله على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كماهم”.
وروى ابن ماجه رحمه الله مرفوعا: “إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا يومها، فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتل فأعافيه ألا كذا، ألا كذا حتى يطلع الفجر”.
قلت: معنى (ينزل ربنا) أنه ينزل نزولا لائقا بذاته لا يتعقل، لأنه لا يجتمع مع خلقه في حد ولا حقيقة. ومن فوائد أخبار الصفات امتحان العبد هل يؤمن بها كما وردت، فيفوز بكمال الإيمان أم يؤولها فيحرم كمال مقام الإيمان. والله تعالى أعلم.
أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن نقوم ليلة النصف من شعبان، ونصوم نهارها، ونستعد لها بالجوع الشاق وقلة الكلام والصمت، فإن من يشبع ليلتها وأكثر اللغو من الكلام والغفلة عن الله تعالى لا يذوق لما فيها من الخيرات طعما، ولو سهر فهو كالجماد الذي لا يحس شيئا.
وما حث الشارع العبد على الاستعداد لحضور المواكب الإلهية إلا ليشعر بذلك، فإنه خير كبير، فعلم أنه يجب على كل مؤمن أن يتوب من جميع ما ورد في الحديث أنه يمنع حصول المغفرة لصاحب ليلة النصف من شعبان قبل دخول ليلة النصف كالمشاحن بغير عذر شرعي، وكأخذ العشور من المكس، وكالعقوق للوالدين ونحو ذلك، فيجب السعي في إزالة ما عندنا من الشحناء، وما عند غيرنا منها في حقنا ولو بإرسال كلام طيب أو مدح بين الأقران ونحو ذلك، كإهداء هدية وبذل مال لننال الرحمة والمغفرة من الله تعالى في تلك الليلة، ولا نتهاون بالمبادرة في إزالة الشحناء إلى ليلة النصف، فربما يتعسر علينا إزالة ما عندنا أو عند المشاحن لنا من الحقد الكمين، فتفوتنا المغفرة تلك الليلة.
وبالجملة فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ ليخرجه من محبة الدنيا وأغراضها ومناصبها، وطلب المقام عند أهلها، ومن لم يسلك كذلك فمن لازمه غالبا الشحناء بواسطة الدنيا؛ إما لكونه يحوف على الناس أو هم يحوفون عليه، ولذلك قلّ العاملون بهذا العهد حتى من العلماء، فتراهم تدخل عليهم ليلة النصف من شعبان وأحدهم مشاحن أخاه ولا يبالي بما يفوته من المغفرة العظيمة.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: “يجب على قاطع الرحم المبادرة قبل ليلة النصف من شعبان إلى زوال القطيعة، وكذلك الحكم في جميع ما ورد فيه التجلي الإلهي كالثلث الأخير من الليل في جميع ليالي السنة، فيجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب، وإلا لم يكن من أهل دخول حضرة الله عز وجل ولو وقف يصلي، فصلاته لا روح فيها”.
وسمعت سيدي محمد بن عنان رحمه الله يقول: «تجب المبادرة على قاطع الرحم إلى صلة الرحم، ولا يؤخر الصلة حتى تدخل ليلة النصف، فربما يتعسر صلتها تلك الليلة، وكذلك تجب المبادرة إلى بر الوالدين على كل من كان عاقا لوالديه، فإن الله تعالى أخبر أنه لا يغفر لأهل هذه الذنوب ولا يرفع لهم إلى السماء عملا، وذلك عنوان الغضب من الله تعالى عليهم، نسأل الله اللطف”.
فاعلم أن التوبة عن هذه الأمور وإن كانت واجبة على الدوام فهي في ليلة النصف آكد، كما قالوا يستحب للصائم أن يصون لسانه عن الغيبة والنميمة في رمضان، ومعلوم أن ذلك واجب في رمضان وغيره، ولكن لما توقف كمال العبادة على ذلك استحب من تلك الحيثية فافهم. والله تعالى أعلم.
قيام رمضان هروبا من دناءة الهمة
من العهود المحمدية، للإمام الشعراني رحمه الله
روى النسائي والبيهقي رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله تعالى عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله تعالى فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم الخير كله”.
وفي رواية لمسلم رحمه الله: “فتحت أبواب الرحمة، وسلسلت الشياطين ومردة الجن”. وفي رواية لابن خزيمة وابن ماجه رحمهما الله وغيرهما: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن”.
ومعنى صفدت: أي شدت بالأغلال. قال الحليمي رحمه الله: “وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به أيامه خاصة، وأراد الشياطين الذين يسترقون السمع، ألا تراه قال: مردة الشياطين؛ لأن شهر رمضان كان وقتا لنزول الرحمة والقرآن إلى السماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب كما قال تعالى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾[3]. نزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ. والله تعالى أعلم”.
قال: ويحتمل أن المراد أيامه ولياليه، ويكون المعنى أن الشياطين لا يخلصون فيه إلى إفساد الناس كما يخلصون في غيره لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات بقراءة القرآن وغيره من سائر العبادات.
وروى ابن ماجه رحمه الله بإسناد حسن مرفوعا: “إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم”.
وروى البزار رحمه الله وغيره مرفوعا: “إن لله تبارك وتعالى في كل يوم وليلة في رمضان دعوة مستجابة”.
وروى البيهقي رحمه الله، وقال الحافظ المنذري رحمه الله: حديث حسن، مرفوعا: “ينادي مناد من السماء كل ليلة – يعني من شهر رمضان – إلى انفجار الفجر: يا باغي الخير تمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من سائل يعطى سؤله”.
وروى النسائي رحمه الله مرفوعا: “إن الله تعالى فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه”.
وذكر مالك رحمه الله في الموطأ قال: “سمعت من أثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله ﷺ أري أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر”.
وروى الشيخان رحمهما الله مرفوعا: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”.
وفي رواية لمسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه: “من يقم ليلة القدر فوافقها- أراه قال: إيمانا واحتسابا- غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وروى الإمام أحمد رحمه الله وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله، أخبرنا عن ليلة القدر. قال: «هي في شهر رمضان في العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو آخر ليلة من رمضان، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”. والله تعالى أعلم.
أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن يكون معظم قصدنا من قيام رمضان وغيره امتثال أمر الله عز وجل، والتلذذ بمناجاة الحق لا طلب أجر أخروي ونحو ذلك، هروبا من دناءة الهمة، فإن من قام رمضان لأجل حصول الثواب فهو عبد الثواب لا عبد الله تعالى، كما أشار إليه حديث: “تعس عبد الدينار والدرهم والخميصة”[4]. اللهم إلا أن يطلب العبد الثواب إظهاراً للفاقة ليميز ربه بالغنى المطلق، ويتميز هو بالفقر المطلق، فهذا لا حرج عليه، لكن هذا لا يصح له إلا بعد رسوخه في معرفة الله عز وجل بحيث يصير يجل الله تعالى أن يعبده خوفا من ناره أو رجاء لثوابه.
فيحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى شيخ يسلك به حتى يدخله حضرة التوحيد، فيرى أن الله تعالى هو الفاعل لكل ما برز في الوجود وحده، والعبد مظهر لظهور الأعمال، إذ الأعمال أعراض وهي لا تظهر إلا في جسم، فلولا جوارح العبد ما ظهر له فعل في الكون، ولا كانت الحدود أقيمت على أحد، فافهم.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله إذا صلى نفلا يقول: أصلي ركعتين من نعم الله علي في هذا الوقت، فكان رضي الله عنه يرى نفس الركعتين من عين النعمة لا شكر نعمة أخرى، فقلت له في ذلك فقال: ومن أين يكون لمثلي أن يقف بين يدي الله عز وجل؟ والله إني لأكاد أذوب خجلا وحياء من الله لما أتعاطاه من سوء الأدب معه حال خطابه في الصلاة، فإن أمهات آداب خطابه تعالى مائة ألف أدب، ما أظن أنني عملت منها بعشرة آداب، فأنا إذا وقفت بين يديه في صلاة أو غيرها من العبادات إلى العقوبة أقرب، فكيف أطلب الثواب؟
وسمعته مرة أخرى يقول: يجب على العبد أن يستقل عبادته في جانب الربوبية ولو عبد ربه عبادة الثقلين، بل ولو عبده هذه العبادة على الجمر من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ما أدى شكر نعمة إذنه له بالوقوف بين يديه في الصلاة لحظة ولو غافلا، وكذلك ينبغي له إذا قلت طاعاته أن يرى أن مثله لا يستحق ذلك القليل، ومن شهد هذا المشهد حفظ من العجب في أعماله، وحفظ من القنوط من رحمة الله تعالى.
وكان سيدي أبو المواهب الشاذلي رضي الله عنه يقول: حكم الملك القدوس ألا يدخل حضرته أحد من أهل النفوس.
وكان سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يقول: من كان الباعث له على حب القيام بين يدي الله تعالى في الظلام لذته بمناجاته فهو في حظ نفسه ما برح، لأنه لولا الأنس الذي يجده في مناجاته ما ترك فراشه وقام بين يديه، فكأن هذا قام محبة في سواه، وهو لا يحب من أحب سواه إلا بإذنه، فإن الأنس الذي يجده في قلبه سواه بيقين.
وكان يقول: ما أنس أحد بالله قط لعدم المجانسة بينه وبين عبده بوجه من الوجوه، وما أنس من أنس إلا بما من الله تعالى من التقريب الإلهي، لا بالله تعالى.
ومن هنا قامت الأكابر حتى تورمت منهم الأقدام لعدم اللذة التي يجدونها في عباداتهم، فإن اللذة تدفع الألم فلا يتورم لهم أقدام، فاعلم أن عبادتهم لله تعالى محض تكليف لا يدخلها اللذة، ولو دخلها لذة لكانوا عبيدها وهم مطهرون مقدسون عن العبودية لغير الله تعالى.
فاسلك يا أخي الطريق على يد شيخ حتى يخرجك من العلل وتصير تأتي العبادات امتثالا لأمر ربك لا غير، ولا تريد بذلك جزاء ولا شكورا.
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: إذا وقع لأحدكم تقريب في المواكب الإلهية فلا يقتصر على الدعاء في حق نفسه فيكون دنيء الهمة، وإنما يجعل معظم الدعاء لإخوانه المسلمين.
وقد من الله تعالى علي بذلك ليلة من الليالي لما حججت في سبع وأربعين وتسعمائة، فمكثت في الحجر أدعو لإخواني إلى قريب الصباح، فأعطاني الله تعالى ببركة دعائي لهم نظير جميع ما دعوته لهم بسهولة، ولو أني دعوت ذلك الدعاء لنفسي لربما لم يحصل لي ذلك، فالحمد لله رب العالمين.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا تقتصروا في قيام رمضان على العشر الأواخر من رمضان، بل قوموه كله واهجروا نساءكم فيه كما كان رسول الله ﷺ يفعل، فإني رأيت ليلة القدر في ليلة السابع عشر منه. قال: وقد أجمع أهل الكشف على أنها تدور في ليالي رمضان وغيره ليحصل لجميع الليالي الشرف، فاعلم ذلك. ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
صَحَابِيٌّ منَ الأبطالِ العُظمَاءِ
من المستدرك، للحاكم رحمه الله
أخرجه الحاكم رحمه الله في مستدركه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وأذربيجان، فقال: “يا أمير المؤمنين، أصبهان الرأس، وفارس وأذربيجان الجناحان، فإذا قطعت إحدى الجناحين فالرأس بالجناح، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بأصبهان. فدخل عمر بن الخطاب المسجد فإذا هو بالنعمان بن مقرن يصلي، فانتظره حتى قضى صلاته فقال له: إني مستعملك، فقال: أما جابيا فلا، وأما غازيا[5] فنعم. قال فإنك غازٍ، فسرّحه وبعث إلى أهل الكوفة أن يمدوه ويلحقوا به، وفيهم حذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، وعبد الله بن عمرو، فأتاهم النعمان وبينه وبينهم نهر، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة رسولا، وملكهم ذو الحاجبين، فاستشار أصحابه فقال: ما ترون؟ أقعد لهم في هيئة الحرب أو في هيئة الملك وبهجته؟ فجلس في هيئة الملك وبهجته على سريره، ووضع التاج على رأسه وحوله سماطين عليهم ثياب الديباج والقرط والأسورة، فجاء المغيرة بن شعبة فأخذ بضبعيه[6] وبيده الرمح والترس، والناس حوله سماطين على بساط له، فجعل يطعنه برمحه فخرقه لكي يتطيروا، فقال له ذو الحاجبين: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد وجهد فخرجتم، فإن شئتم مرناكم ورجعتم إلى بلادكم.
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنا كنا معشر العرب نأكل الجيفة والميتة، وكان الناس يطؤونا ولا نطؤهم، فابتعث الله منا رسولا في شرف منا أوسطنا وأصدقنا حديثا، وأنه قد وعدنا أن ها هنا ستفتح علينا، وقد وجدنا جميع ما وعدنا حقا، وإني لأرى ها هنا بزة وهيئة ما أرى من معي بذاهبين حتى يأخذوه، فقال المغيرة: فقالت لي نفسي: لو جمعت جراميزك[7] فوثبت وثبة، فجلست معه على السرير إذ وجدت غفلة، فزجروني وجعلوا يحثونه، فقلت: أرأيتم إن كنت أنا استحمقتُ فإن هذا لا يفعل بالرسل، وأنا لا نفعل هذا برسلكم إذا أتونا، فقال: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئتم قطعنا إليكم. فقلت: بل نقطع إليكم، فقطعنا إليهم، وصاففناهم[8]، فتسلسلوا كل سبعة في سلسلة، وخمسة في سلسلة حتى لا يفروا.
قال: فرامونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان إن القوم قد أسرعوا فينا فاحمل، فقال: إنك ذو مناقب، وقد شهدت مع رسول الله ﷺ، ولكني أنا شهدت رسول الله ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر، فقال النعمان: يا أيها الناس، اهتز ثلاث هزات؛ فأما الهزة الأولى فليقض الرجل حاجته، وأما الثانية فلينظر الرجل في سلاحه وسيفه، وأما الثالثة فإني حامل فاحملوا، فإن قتل أحد فلا يلوي أحد على أحد، وإن قتلت فلا تلووا علي، وإني داع الله بدعوة فعزمت على كل امرئ منكم لما أمن عليها، فقال: اللهم ارزق اليوم النعمان شهادة تنصر المسلمين وافتح عليهم. فأمن القوم وهز لواءه ثلاث مرات، ثم حمل فكان أول صريع رضي الله عنه، فذكرت وصيته فلم ألو عليه وأعلمت مكانه، فكنا إذا قتلنا رجلا منهم شغل عنا أصحابه يجرونه، ووقع ذو الحاجبين من بغلته الشهباء فانشق بطنه، وفتح الله على المسلمين، فأتيت النعمان وبه رمق، فأتيته بماء، فجعلت أصبه على وجهه أغسل التراب عن وجهه، فقال: من هذا؟ فقلت: معقل بن يسار، فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم، فقال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه، فاجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس، فقال: فأتينا أم ولده فقلنا: هل عهد إليك عهدا؟ قالت: لا، إلا سفيط له فيه كتاب، فقرأته فإذا فيه إن قتل فلان ففلان، وإن قتل فلان ففلان.
قال حماد: فحدثني علي بن زيد ثنا أبو عثمان النهدي أنه أتى عمر رضي الله عنه فقال: ما فعل النعمان بن مقرن؟ فقال: قتل، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم قال: ما فعل فلان؟ قلت: قتل يا أمير المؤمنين، وآخرين لا نعلمهم. قال: قلت: لا نعلمهم، لكن الله يعلمهم”.
اشتغل بإصلاح عيوبك ولا تعلق همتك إلا بالله
من شرح الحكم العطائية لابن عباد رحمه الله
نظر الإنسان إلى عيوبه خير من تطلعه إلى ما حجب عنه من الغيب
اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه، والواصلون لهم أنوار المواجهة. فالأولون للأنوار، وهؤلاء الأنوار لهم، لأنهم لله لا لشيء دونه، ﴿قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾[9].
أي اهتدى السالكون السائرون إلى الله تعالى بأنوار التوجه؛ أي الأنوار الناشئة من العبادات، والرياضات التي توجهوا بها إلى حضرة الرب، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[10].
والواصلون إلى الله تعالى لهم أنوار المواجهة؛ أي التقرب والتحبب. فالأولون عبيد للأنوار؛ لاحتياجهم إليها في الوصول إلى مقصودهم، وهؤلاء؛ أي الواصلون، الأنوار لهم؛ لأنهم لله لا لشيء دونه، عملاً بإشارة قوله تعالى: ﴿قُلْ اللَّهُ﴾ أي توجه إليه، ولا تمل إلى أنوار ولا غيرها، ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾؛ أي اتركهم، ﴿فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾. فإفراد التوحيد بعد فناء الأغيار، هو حق اليقين، ورؤية ما سوى الله، خوض ولعب.
تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب.
تشوفك، أي تطلعك بعين البصيرة إلى ما بطن، أي خفي فيك، من العيوب والأمراض القلبية؛ كالكبر والحقد والعجب والرياء والسمعة والمداهنة وحب الرياسة والجاه ونحو ذلك، حتى تتوجه همتك إلى زوال ذلك بالرياضة والمجاهدة، خصوصاً على يد شيخ عارف، خير لك من تطلعك إلى ما حجب عنك من الغيوب، أي ما غاب عنك، كالأسرار الإلهية، والكرامات الكونية، لأن هذا حظ نفسك، وذلك واجب عليك لربك.
دعاء نبوي شريف
من المعجم الكبير، للإمام الطبراني رحمه الله
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ علمه هذا الدعاء، وأمره أن يتعلمه ويتعاهد به أهله في كل يوم يقول حين يصبح: “لبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير في يديك ومنك وبك وإليك، اللهم ما قلت من قول، أو حلفت من حلف، أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير.
اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت، إنك وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين.
اللهم إني أسألك الرضى بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر في وجهك الكريم، وشوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. أعوذ بك اللهم أن أظلم أو أظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكسب خطيئة مخطئة أو ذنبا لا يغفر.
اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهدك وكفى بك شهيدا، إني أشهد أن لا إله إلا الله وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وإنك تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخلل وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك، واغفر لي ذنبي كله، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم”.
[1] المائدة، 118.
[2] النساء، 41.
[3] الحجر، 17-18.
[4] أخرج الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقش».
[5] الغَازي: الذي يَخرُجُ للجِهادِ والغَزوِ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
[6] الضبع: وسط العضد، وقيل: هو ما تحت الإبط إلى الخاصرة، أو هو ما بين المرفق والكتف.
[7] جراميزُ الإِنسان: أَطرافُه وبدنُه. جَمَعَ جراميزَه: تقبَّض ليثب.
[8] صاففناهم: واقفناهم، وقمنا حذاءهم.
[9] الأنعام، 91.
[10] العنكبوت، 69.
أضف تعليقك (0 )