post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>كلمة بين يدي الذكرى:</h2>
منذ مدة، رحل عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء &#8220;ملك من ملوك السماء&#8221;، رجل الحب والسلام، رجل المبدأ والموقف، رجل الصمود والثبات رجل القوة الهادئة والحكمة البالغة، رجل الابتسامة الحانية، رحل عن دنيانا الفانية آخر الرجال العظام في زمن قل فيه الرجال، قد تختلف معه لكن اختلافك معه لا يمنعك من احترامه إلى أقسى مدى، وإلى حبه إلى أقسى مدى، رجل من طينة غير طينتنا من زمان غير زماننا، رجل سماوي روحاني من زمن العظام، طبع تاريخ المغرب ببصمته ووصمه بطابعه. زهد فيما عند الناس من حظوة ومنصب وجاه، فخطب وده أصحاب الوجاهة والمكانة والجاه، رجل آمن بالسلم والسلام في زمن العنف الثوري، رجل اختار الجهر يوم كانت السرية مذهبا واختيارا، دافع عن الحوار يوم كان الإقصاء شعارا، واختار الاستقلال يوم كانت التبعية حماية ودثارا. 
 إن أمثال هؤلاء العظام يحيون في وجدان الأمة وضميرها بقدر ما يحيون فيها من قيم ومثل، وبقدر إخلاصهم للمبادئ التي عاشوها وعاشوا بها، يحيون في نفوس الأجيال لنبل القيم التي دافعوا عنها وسقوها من دمائهم وأرواحهم، والأستاذ &ndash;بالمعنى القشيري للكلمة- رحمه الله تعالى دافع عن العدل والحرية والسلام والمحبة وعن التعايش، لذا سيظل حيا مادامت الإنسانية تؤمن بهذه القيم وتناضل لإحقاقها وتحقيقها، ومادامت السماء راعية لها وسيأتي يوم يدرك فيه المغاربة أي رجل فقدوا. رحمه الله وأجزل له العطاء وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

<h2>استهلال لابد منه:</h2>
هذا مقال كتبته قبل وفاة الأستاذ عبد السلام ياسين بأيام قلائل، ولم أتردد في نشر مقال كما ترددت في نشره، لأني أحسست بأنه يشبه النعي لهذا الرجل رحمه الله تعالى. وبعد وفاته لم أجد لي لسانا أو قلما للكتابة ففداحة المصاب وجلال الخطب ألجماني، فاكتفيت بنشر تعزية مقتضبة على حائطي في الفايسبوك، واليوم وبعد أن ألح علي بعض الأصدقاء ممن اطلعوا على المقال في حينه وطلبوا مني نشره، أنشره بمناسبة الذكرى الأربعينية مستغلا المناسبة لأعزي أهله وأحبابه وتلامذته ومحبيه في المغرب والعالم. 
 الشيخ عبد السلام ياسين كما قرأته على مدى ربع قرن. 
 قبل أسبوع تقريبا أهداني أحد الأصدقاء مشكورا نسخة من كتاب جديد للأستاذ عبد السلام ياسين عنوانه &#8220;جماعة المسلمين ورابطتها&#8221; يعود تاريخ تأليفه إلى سنة1981 رغم أنه لم ينشر حتى الآن، وبعدها بيومين أو أكثر، على ما أظن، تلقيت على بريدي الالكتروني رسالة إعلانية عن تنظيم مؤتمر حول فكر الشيخ ياسين باسطنبول بتركيا تحت شعار:&#8221;مركزية القرآن الكريم في نظرية المنهاج النبوي&#8221;. 
 في حقيقة الأمر بقدر ما وجدت في خبر تنظيم مؤتمر عالمي فرصة لتكريم شخص هذا الرجل وفكره وعلمه، آلمني أن ينظم أول مؤتمر حول شخصية وطنية من قامة هذا الرجل في غير بلده المغرب، فنحن أولى من الأتراك بفكر الشيخ وعلمه، لكنه الاستبداد للأسف من جهة، وعادة أننا لا نكرم إلا الأموات، أو بعد فوات الأوان في أغلب الأوقات من جهة ثانية. 
 بداية لا بد لي أن أقول أن خاطر الكتابة عن هذا المفكر العظيم راودني مرارا وتكرارا إلا أنني كنت أتردد لسببين: 
 -أولهما خوفي من أن يقحم البعض حديثي عن الرجل في سياق السجالات والمهاترات الفارغة، فيفقد الحديث قيمته فأكون كمن جعل الثريا في الثرى وكلام العقلاء منزه عن العبث. 
 -وثانيهما لأنني أجدني محرجا وصغيرا عن تناول قامة فكرية وسياسية وتربوية شامخة من أمثال هذا الرجل، خاصة أنه لم يسبق لأحد &ndash;من غير المنتمين المغاربة- الحديث عن فكر الرجل ومدرسته. 
 لكن الآن وبمناسبة هذا المؤتمر العالمي العلمي أجد أن المناسبة مواتية من جهة، ومن جهة أخرى أجد أن جزء من الحرج قد ارتفع، فماذا يمكن أن تكون خلاصات شخص مثلي قرأ هذا المفكر الإسلامي على مدى ربع قرن وكانت كتاباته مما أثر في حياته وأثراها؟ 
 كانت بداية تعرفي على فكر الشيخ وكتاباته منتصف الثمانينات وهي بداية مرحلة قراءتي في الفكر الإسلامي، بعد أن بدأ الإسلاميون يشغلون العالم وبدأت تصدر دراسات في أوروبا وأمريكا عن الخطر الأخضر القادم من الشرق، لم يكن الاتحاد السوفياتي قد سقط حينها، لكن علامات الانهيار الكبرى بدأت تظهر في أفغانستان، وبدأت بفضول علمي وأكاديمي البحث في ما كتب عن الإسلاميين أو ما كتبوه هم، وبدأت أنقب عن نظرياتهم في الفكر والتاريخ والفن والسياسة والفلسفة والاقتصاد والمرأة والإنسان، وكانت البداية من المدرسة الشيعية بحكم علاقتي ببعض الشيعة في بلجيكا، ولأن التجربة في إيران كانت ملهمة وكانت قوة النموذج الثوري الذي أقام الدولة حاضرة، فقد اطلعت على أكثر ما كتبه علماء الشيعة ومفكريهم في النظرية السياسية ونظريات التغيير الاجتماعي والاقتصاد والفلسفة، ولأن الفكر الماركسي هو المسيطر أو هو &#8220;القات&#8221; الذي تتعاطاه النخب المثقفة والسياسية في أغلبها &ndash;وأنا واحد منهم بالطبع- أو كما قال الأستاذ ياسين:&#8221;للماركسية في بلادنا الإسلامية، بين مثقفينا المغربين اليساريين رواج لا يزال قويا في عصر وفاة الإيديولوجيات. حتى أن مثقفينا يظنون أن لا أحد يستطيع تقديم فكرة واحدة صحيحة عن العصر ومشاكله، والتاريخ وتطوره، والمستقبل واقتحامه، ما لم يمخر في عباب الماركسي الزخَّار، علم ذلك أو لم يعلم&#8221;. كنت أحاكم الفكر &#8220;الأصولي الديني&#8221; وأطبق عليه أدوات التحليل الماركسي بصرامة منهجية وبالمقابل كان يشغلني سؤال كيف ينتقد الإسلاميون الفكر الماركسي عموما؟ لهذا كانت أغلب كتابات الإسلاميين -في نظري- تفتقد العمق العلمي والفكري وتتأسس على التجييش العاطفي والعموميات، باستثناء كتابات قليلة كانت عقلانية وعميقة ككتابات راشد الغنوشي وحسن الترابي وحسن حنفي وهويدي ومحمد عمارة، مما جعلها لا تصمد أمام انتقادات أقطاب العلمانية العربية في الشرق أو حتى بعض المستشرقين في الغرب، ومن هنا سادت تسمية &#8220;الإسلام السياسي&#8221;، لا أنكر أن قراءة كتابات هؤلاء المتنورين العرب والمسلمين وغيرهم من الغربيين الأكاديميين زعزعزت بعض قناعاتي وجعلتني أكثر انفتاحا وقبولا للمراجعة خاصة وأني كنت أعاني من أعراض &#8220;أزمة إيدولوجية&#8221; حادة سيما بعد تكشف كثير من الحقائق البشعة حول التجربة الشيوعية في شقها الإنساني والحقوقي، لكن هذا كله لم ينجح في إيجاد القطيعة بيني وبين الفكر الشيوعي كعقيدة وليس كفكر، حتى قرأت كتاب &#8220;الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية&#8221; في صيف 87 إن لم تخني الذاكرة، حينها اكتشفت أنني أمام مفكر كبير يناقش الماركسية بمنتهى الإنصاف من منطلق علمي عميق ودقيق، وليس من موقع الخصومة أو الدفاع أو الانهزام وبمنتهى الصرامة العقائدية أيضا. ومن هنا تقريبا كانت البداية، ومنذ الوهلة الأولى تأسست علاقتي الفكرية والعلمية مع الأستاذ -التي استمرت حوالي ربع قرن- على دعامتين: أنه رجل فكر وعلم أي أنني بين يدي مفكر وعالم وليس مناضل سياسي معارض للنظام في المغرب حتى لا يؤثر إعجابي أو تعاطفي مع الموقف السياسي الشجاع الجريء على خلاصاتي الفكرية والعلمية، وثانيا أنه وإن كان مؤسس وزعيم جماعة العدل والإحسان لا ينبغي نتعامل معه كمثقفين من خلال انتمائه &ndash;أو على الأصح من خلال انتماء الجماعة إليه فهو سابق عليها تاريخيا نظرية وموقفا- وكان لا يعجبني أن تحتكره الجماعة، فهو قيمة فكرية وعلمية من الطراز العالمي &ndash;قد لا يعجب هذا بعضهم- فقد كنت أرى أن فكره وعلمه وطبيعة تنظيره عالمية كونية في أهدافها وأفقها وشموليتها، فحسن البنا ليس ملكا للإخوان وحدهم، ولا المختار السوسي أو السي علال الفاسي أو محمد عابد الجابري أو طه عبد الرحمان أو عبد الله العروي ملكا لقومه أو عشيرته أو حزبه فحسب، فهو ملك للوطن وللإنسانية جمعاء. وأظن أن هذا الخلط في توصيف الرجل ضيع على النخب في المغرب وخاصة الإسلاميين الاستفادة من سعة فكره وحصافة رأيه لأن التعامل مع الرجل من خلال صفة صاحب رسالة &#8220;الإسلام أو الطوفان&#8221; المعارض السياسي المغضوب عليه مخزنيا، أو من خلال بوثقة الخصم السياسي المحتمل كانت خسارة على كثيرين-1-. 
 ومن أهم الخلاصات التي وقفت عندها بعد ربع قرن من المصاحبة الفكرية والتي تحتاج كل خلاصة منها إلى بحث علمي خاص ودقيق ما يلي: 
 1-أن الرجل يملك نسقا فكريا متكاملا، أي أننا أمام نظرية متكاملة قدمت الإجابة عن وظيفة الإنسان في الكون هذه النظرية &#8221; نظرية المنهاج النبوي&#8221; كما سماها المؤتمر أسست لنفسها جهازا مفاهيميا مستقلا مستوحى من الكتاب والسنة وبحمولات جديدة. 
 2-امتلاكه لحس نقدي هائل: فمن الأسئلة التي شغلتني كثيرا ما هو سر هذا العداء الفكري المفتعل ضد الشيخ من قبل أغلب التيارات الفكرية -السلفية المحافظة/ الحداثية المعاصرة/ التقدمية اليسارية/ الإخوانية/الليبرالية، ووجدت الجواب في أن الشيخ يتفرد بقراءة أصيلة حداثية في فهم الإسلام وتجديدية للقرآن والسنة وفق رؤية تغييرية شمولية، ولعل هذا ما جعله ينتقد أغلب المدارس الفكرية ويختلف معها في نقاط عديدة. 
 3-الغزارة والعمق وسعة الإطلاع وقوة المقارنة والقدرة على المحاججة، ويظهر ذلك في تحليله وتشريحه للعقل الغربي ونقد العقلانية الغربية.ويكفي قراءة كتابه: &#8220;العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى&#8221; لتدرك مدى العمق المعرفي والأرضية الفلسفية الصلبة التي ينطلق منها الرجل. 
 4-الرؤية المستقبلية الثاقبة المبنية على إلمام واسع بحركية التاريخ وصيرورته الاجتماعية والثقافية، وهذه مزاوجة شديدة بين الرجل الامفكر والرجل المناضل فالأستاذ يشبه كبار &#8220;المفكرين العضويين&#8221; ك&#8221;غرامشي&#8221;، مثلا فهو يعيش جدلية الفكر والواقع.. 
 5-العناية باللغة العربية عناية فائقة والتدقيق والقدرة الهائلة على تطويع اللغة وتوليد المصطلح، وهذه القدرة على التطويع اللغوي وهذا الثراء بدون شك يعود إلى ملازمة القرآن الكريم والنهل من التراث اللغوي الصوفي و&#8221;التعبيرية الإشراقية&#8221;. 
 6- الاعتزاز بالهوية المغربية، فرغم أبعاد شخصيته العالمية وخصوصياته الإسلامية ظل الأستاذ ياسين وفيا للهوية المغربية في مظهره وطريقة حديثه واختياراته الفقهية والعلمية وفي طريقة تفكيره واستقلاليتها عن التيارات الإسلامية في المشرق العربي. 
 من المؤكد أن في شخصية الرجل جوانب أخرى علمية وجهادية وسياسية وعرفانية صوفية، نتمنى على من يحيطون به أو ممن عرفوه عن قرب الكتابة فيها، حتى لا يظلم الرجل بيننا حيا وميتا.
&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;&#8212;- 
 1- لمست في كثير من الشهادات بعد وفاة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، أن النخب بدأت تدرك قيمة الرجل الفكرية والتربوية والسياسية.
المصدر: موقع لكم

إعادة قراءة كتب عبد السلام ياسين في أربعينيته

الإمام عبد السلام ياسين

الزيارة الأخيرة

مقالات في رثاء الإمام

إعادة قراءة كتب عبد السلام ياسين في أربعينيته

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

إعادة قراءة كتب عبد السلام ياسين في أربعينيته

مقالات ذات صلة