post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الإسلام دين جماعة، لذلك لا تجد أمرا يُقَوّي نسيج العلاقات بين أهله، ويُحْكِم عُقدة التواصل بينهم، إلا حضّ عليه ورغّب فيه، ورتَّب عليه الأجر الكبير والجزاء الموفور. ولا تجد أمرا يهدم هذا البناء، ويُفضي إلى تفكيك هذا الترابط إلا شدَّد في النهي عنه والتخويف منه، وتوَعَّد فاعلَه بعسير الحساب، وشديد العقاب.



فَلَمحةٌ سريعة في تعاليم هذا الدين تُنبئ المُطَّلع الغريب، والباحث مِن بعيد، بهذا الحرص العجيب على إقامة بنيان مرصوص لا تُزعزعه رياح التنازع، ولا  تُقَوٍّضُه معاولُ التشاحن. فهو الذي لا يُرضيه أن يُصليَ المسلمون فرادى في بيوتهم، بل سنَّ الجمعة والجماعات، ووسّع دائرتها في صلوات الأعياد والمناسبات. وهو الذي حث على التزاور في السراء، وعلى التكافل في الضراء. وهو الذي جعل الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى والمحتاجين، ثانيَ إثنين بعد إفراد العبودية لله عز وجل. وهو الذي أوصى بملازمة مجالس الخير، وحذّر من عاقبة الغنم القاصية. وهو الذي أصبغ على هذه المعاني صبغة الجلال والجمال، فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم : ( يَدُ الله مع الجماعة )<a id="_ftnref1" href="#_ftn1">[1]</a>.



هذا المقصد العظيم تغشانا نسماتُه، وتَحوطنا بركاتُه، في ما جاءنا من الوصية بالجار والضيف، صلةً وإكراما وحُسنَ خلُق. مِن رِفعة شأن هذا العمل أن كان شاهدا على اكتمال الإيمان، ودرجةً في سُلَّم الترقي إلى مقامات الإحسان. عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ )<a id="_ftnref2" href="#_ftn2">[2]</a>.



وقد خصّ الله عز وجل الجارَ بالوصية في كتابه العزيز، فقال سبحانه: ﴿۞ وَٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰا وَبِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡجَارِ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالࣰا فَخُورًا ﴾<a id="_ftnref3" href="#_ftn3">[3]</a>.



بَلَغَت هذه الوَصاةُ مِن أهميتِها أن قاربَت بالجار منزلةَ أولي الأرحام من حيث استحقاق الإرث. وبلغت من الإمعان في التشديد عليها أن كان الجار الصالح عنوانا لسعادة الإنسان، وكان السعي في إذاية الجار أمارةً على الشقاوة، وحرمانا من دخول الجِنان.



من العلماء من اعتبر حدَّ الجيرة أربعين دارا، ومنهم من جعله أرحب من ذلك فَعَدَّ المدينةَ جوارا. وقالوا بأن الوصية تزداد تأكيدا بالجار المسلم القريب مسكنا ورَحِما.



ضرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمثلة لإكرام الجار، فرغَّب الجارات المسلمات في التهادي ولو بأقلّ ما يَملِكْن. ودعا أبا ذرٍّ أن يُكثِرَ ماءَ مَرَقَته ليتعاهد جيرانه.



علَّق القرطبي على هذا التوجيه النبوي فقال : ( قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فَأَكْثِرْ مَاءَهَا ) نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى تَيْسِيرِ الْأَمْرِ عَلَى الْبَخِيلِ تَنْبِيهًا لَطِيفًا، وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ ثَمَنٌ وَهُوَ الْمَاءُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ لَحْمَهَا، إِذْ لَا يَسْهُلُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ )<a id="_ftnref4" href="#_ftn4">[4]</a>.



ولَخَّص رحمه الله صُوَر هذا الإحسان فقال: ( وَالْإِحْسَانُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمُوَاسَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَكَفِّ الْأَذَى وَالْمُحَامَاةِ دُونَهُ )<a id="_ftnref5" href="#_ftn5">[5]</a>.



هذا السلوك العملي هو الذي يعطي للمحبة بين المؤمنين معنى واقعيا يَصرِف عنها التحليقَ في عالم المثاليات، ولَوْكَ اللسان في موائد الوعظ وعلى منصات المحاضرات. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله : ( هذه المحبة كانت طاقة هائلة مجمِّعة، وكانت اللحام بين أعضاء الجسد الجماعي. ولكيلا تتبدد ولكيلا تخطئ المحبة مقصدها نظمها رسول الله ﷺ حين آخى بين المهاجرين والأنصار، ونظمها الله حين جعل أولي القربى أحق بها والوالدين قبل لك، ثم الجار والصاحب بالجنب. ليست هذه المحبة تائهة مثالية إنما هي لحام بين المؤمنين مجلاه في العمل اليومي والبذل اليومي والتعاون اليومي )<a id="_ftnref6" href="#_ftn6">[6]</a>.



كانت هذه الصلةُ بين المرء وجاره، قناةً للتقوى والعمل الصالح، حافظت على تماسك المجتمع الإسلامي قرونا طويلة. ( كان المدرس مربيا على مقدار ما وصل العلم بالعمل الصالح. كان الجار للجار وإمام المسجد وعائل الأسرة مربين على قدر ما ورثوا بالصحبة والملازمة لمن قبلهم من تقوى الله )<a id="_ftnref7" href="#_ftn7">[7]</a>.



ومع الجار، جاءت الوصية كذلك بالضيف. جمع بينهما الإرشادُ النبوي مَتْنا وسيرةً. بل تَمَثَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الخلُق الرفيع قبل البعثة وبعدها. جاء ذلك على لسان الصدّيقة المحبوبة وهي تُطَمئِن قلبا حديثَ عهدٍ بِوَحي : ( أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا <a href="https://www.dorar.net/ghreeb/9687" target="_blank" rel="noreferrer noopener">يُخْزِيكَ</a> اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ <a href="https://www.dorar.net/ghreeb/13994" target="_blank" rel="noreferrer noopener">الكَلَّ</a>، <a href="https://www.dorar.net/ghreeb/11824" target="_blank" rel="noreferrer noopener">وتَكْسِبُ المَعْدُومَ</a>، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ )<a id="_ftnref8" href="#_ftn8">[8]</a>. رضي الله عنها وأرضاها، تَرَكَت مِن ورائها سُنَّةً لا تتبدّل، وقاعدةً لا تتحوَّل : القَرْيُ والخِزيُ لا يجتمعان.



في حياة الصحابة صفحات مشرقة من &#8220;الكَرَم الحاتمي&#8221;. بل تَعلوهُ بالنية الإحسانية، وتزيد عليه بالإرادة الجهادية. نعم، خلَّد التاريخ ذِكرَ الطائيّ الكريم. لكن، أن يضحك الله عز وجل ويَعجَبَ من زوجين يحتالان على ضيفهما لِيُطعِماه، ويَبيتان وصِبيَتَهما جائعِين، هذا لا يُوَفَّق إليه إلا أنصاريان ربَّاهما صاحب الخلق العظيم.



الضيافة سنَّة، ومدتها ثلاثة أيام، وذهب الإمام أحمد &#8211; في رواية – إلى وجوبها. وحُفِظت لها &#8211; في ثنايا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية &#8211; أذواق وآداب، من جميل الترحيب، ولطيف الخدمة، والمبادرة إلى الإكرام، وعدم التكلّف، والدعاء عند الانصراف.



كان الصالحون يتبرؤون من التكلّف، ويَحذَرونه. عن ابن عون  قال: ( ربما دخلنا على الحسن البصري فقَدَّم إلينا مرقًا وليس فيه لحم )<a id="_ftnref9" href="#_ftn9">[9]</a>. وكيف لا يفعلون وقد جاء فيه الوعيد الشديد. فقد دَخَلَ عَلَى جَابِرٍ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ خُبْزًا وَخَلًّا، فَقَالَ: كُلُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ( نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ، إِنَّهُ هَلَاكٌ بِالرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ النَّفَرُ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَيَحْتَقِرَ مَا فِي بَيْتِهِ أَنْ يُقَدِّمَهُ إِلَيْهِمْ، وَهَلَاكٌ بِالْقَوْمِ أَنْ يَحْتَقِرُوا مَا قُدِّمَ إِلَيْهِمْ ).<a id="_ftnref10" href="#_ftn10">[10]</a>



غزا أنموذجُ الاستهلاك الجاهلي مجتمعاتِ المسلمين فتقاطعوا وتدابروا. عَمَّ الاختلاف لمَّا تناكرت الأرواح، وتنافرت القلوب رغم تقارب الأشباح. تلِجُ المُجَمَّع السكنيَّ فلا تكاد تجد فيه طعم جوار ولا نَفَس إخاء. ويسمع أهلُ البيت بالضيف يقدُم عليهم، فيُفجَعون لذلك كأنما هو فَقْدُ عزيز أو حلول مُصاب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.



و في أهل الإيمان، ودعاة الإحسان، الأملُ والرجاء لتجديد ما بَلي، ووصل ما قُطِع، بإذن الملك الوهاب. قال الإمام رحمه الله : ( فينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يفتحوا بيوتهم للواردين. وعلى الدعاة أن يضربوا المثال في ذلك. فداعيةٌ لا يفتح باب داره، وباب قلبه، وبشاشة وجهه، للمؤمنين والواردين دَعِيّ )<a id="_ftnref11" href="#_ftn11">[11]</a>.



قال الشيخ شمس الدين البديوي رحمه الله :



إذا المرء وافى منزلا مِنْك قاصدا &#8230; قِراك وأَرْمَتْهُ لديك المَسالكُ



فكُن باسما في وجهه مُتهلّلا &#8230; وقُل مرحبا أهلا ويومٌ مبارك



وقدِّم له ما تستطيع من القِرى &#8230; عَجولا ولا تبخل بما هو هالك



فقد قيل بيتٌ سالفٌ متقدِّم &#8230; تَداولَه زيدٌ وعمرو ومالك



بشاشة وجه المرء خيرٌ من القرى &#8230; فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك<a id="_ftnref12" href="#_ftn12">[12]</a>



وقال الأصمعي:  سألت عيينة بن وهب الدارمي عن مكارم الأخلاق فقال: أو ما سمعت قول عاصم بن وائل:



وإنّا لَنقري الضيفَ قبل نزوله &#8230; ونُشبعه بالبِشْر من وجه ضاحكِ<a id="_ftnref13" href="#_ftn13">[13]</a>
&nbsp;


<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity" />


<a id="_ftn1" href="#_ftnref1">[1]</a>  رواه الترمذي رحمه الله.



<a id="_ftn2" href="#_ftnref2">[2]</a>  رواه مسلم رحمه الله.



<a id="_ftn3" href="#_ftnref3">[3]</a>  سورة النساء : 36.



<a id="_ftn4" href="#_ftnref4">[4]</a>  القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، ط1، 1427/2006، ج6، ص: 307.



<a id="_ftn5" href="#_ftnref5">[5]</a>  نفسه، ص: 304.



<a id="_ftn6" href="#_ftnref6">[6]</a>  ياسين، عبد السلام، الإسلام غدا، موسوعة سراج، ص: 136.



<a id="_ftn7" href="#_ftnref7">[7]</a>  ياسين، عبد السلام. الإحسان، ج1، مطبوعات الأفق، المغرب، الطبعة الأولى1998، ص: 23.



<a id="_ftn8" href="#_ftnref8">[8]</a>  متفق عليه.



<a id="_ftn9" href="#_ftnref9">[9]</a>  ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد، قرى الضيف، مكتبة أضواء السلف، الرياض-المملكة العربية السعودية، ط1، 1418/1997، ص: 44.



<a id="_ftn10" href="#_ftnref10">[10]</a>  رواه الإمام أحمد رحمه الله.



<a id="_ftn11" href="#_ftnref11">[11]</a>  ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، الطبعة الرابعة 1422-2001، ص: 144.



<a id="_ftn12" href="#_ftnref12">[12]</a>  الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد، المستطرف من كل فن مستظرف، دار المعرفة، بيروت-لبنان، ط5، 1429/2008، ص: 263.



<a id="_ftn13" href="#_ftnref13">[13]</a>  نفسه، ص: 264.

التزكية والدعوة

إكرام الجار والضيف

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

البر وحسن الخلق

رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس

إكرام الجار والضيف

القوامة والحافظية

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

مقالات ذات صلة