اتباع السنة المحمدية
هل نزور القبور؟ ولماذا؟
الاستعداد لأهوال القيامة
من حكم ابن عطاء الله
الإخلاص فراغ القلب من غير الله
إلى الإخوة والأخوات حجاج بيت الله بمناسبة زيارتهم
الدار العامرة – سلا
السبت و الأحد 25- 26 محرم 1424 هـ
اتباع السنة المحمدية
العهود المحمدية، للإمام الشعراني رحمه الله
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، قال المنذري: وهذا حديث حسن صحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: “أوصيكم بتقوى الله والعمل والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف؛ فإن من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”.
ومعنى “عضوا عليها بالنواجذ” أي اجتهدوا على وجه السنة لا على وجه البدعة، والزموا السنة واحرصوا عليها، كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفا من ذهابه وتفلته، والنواجذ: هي الأنياب وقيل هي الأضراس.
وروى ابن أبي الدنيا والحاكم وقالا صحيح الإسناد مرفوعا: “من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة”. قالوا: “يا رسول الله إن هذا اليوم في أمتك كثير؟” قال: “وسيكون في قوم بعدي”. يعني قلائل.
وروى البيهقي مرفوعا: “من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد”.
وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين مرفوعا: “الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة”.
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود وقال: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك”.
وروى ابن ماجه وابن حبان في صحيحيهما عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: “لقيت رسول الله ﷺ في رهط فبايعناه وإنه لمطلق الأزرار”. قال عروة بن عبد الله: فما رأيت معاوية ولا ابنه قط في شتاء أو صيف إلا مطلق الأزرار، وفي رواية إلا مطلقة أزرارهما.
وروى ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي عن زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصلي محلولة أزراره، فسألته عن ذلك فقال: رأيت رسول الله ﷺ يفعله.
وروى الإمام أحمد والبزار عن مجاهد وغيره قال: كنا مع ابن عمر في سفر فمر بمكان فحاد عنه، فسئل لم فعلت ذلك فقال: “رأيت رسول الله ﷺ فعل هذا ففعلته”. وقوله حاد: أي تنحى عنه وأخذ يمينا أو شمالا.
وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر أن النبي كان يفعل مثل ذلك.
وروى الإمام أحمد وغيره أن ابن عمر أناخ راحلته في مكان فقضى حاجته، وأخبر أن النبي ﷺ قضى حاجته في ذلك المكان، وقال: أحببت أن أقضي حاجتي في موضع قضى فيه رسول الله ﷺ حاجته.
قلت: وإنما تبع ابن عمر النبي ﷺ في ذلك لأن الكمل يستحيون من الأرض إذا قضوا عليها الحاجة خوفا أن تكون تلك البقعة مشرفة لا تصلح لقضاء الحاجة، فلما رأى رسول الله ﷺ فعل ذلك قال في نفسه: لولا أن رسول الله ﷺ علم أن تلك البقعة تصلح لذلك ما فعل النبي ﷺ ذلك.
قال الحافظ: والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في اتباعهم له واقتفائهم سننه كثيرة جدا. والله أعلم.
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ) أن نتبع السنة المحمدية في جميع أقوالنا وأفعالنا وعقائدنا، فإن لم نعرف لذلك الأمر دليلا من الكتاب والسنة أو الإجماع
أو القياس توقفنا عن العمل به، ثم ننظر فإن كان ذلك الأمر قد استحسنه بعض العلماء استأذنا رسول الله ﷺ فيه ثم فعلناه أدبا مع ذلك العالم، وذلك كله خوف الابتداع في الشريعة المطهرة فنكون من جملة الأئمة المضلين.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: ليس مراد الأكابر من حثهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسة الله ورسوله ﷺ في ذلك الأمر لا غير فإنهم يعلمون أن الحق تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرعه هو ورسوله ﷺ، أما ما ابتدع فلا يجالسهم الحق تعالى ولا رسوله ﷺ فيه أبدا، وإنما يجالسون فيه من ابتدعه من عالم أو جاهل، فعلم أنه ليس قصد أهل الله تعالى بعبادتهم حصول ثواب ولا غيره في الآخرة، لأنهم في الدارين عبيد والعبد لا يملك شيئا مع سيده في الدنيا والآخرة إنما يأكل ويلبس ويتمتع بمال سيده وسداه ولحمته من نعمته. ولو أن الحق تعالى أعطاه شيئا لوجب عليه التبري به إلى ربه، ولا يجوز له أن يشهد ملكه له طرفة عين. فلهذا المشهد خرجوا في جميع عباداتهم عن العلل النفسية فرضوا عن ربهم رضا مطلقا ورضي عنهم رضا مطلقا: ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾[1].
واعلم يا أخي أن من تحقق بالعمل بهذا العهد صار من رؤوس أهل السنة والجماعة في عصره، ومن لم يلقبه بذلك فقد ظلمه، ولا أعلم الآن أحدا في مصر تحقق بالعمل بهذا العهد وتقيد في أقواله وأفعاله وعقائده بالكتاب والسنة إلا بعض أفراد من العلماء، كالشيخ عبدالرحمن التاجوري المغربي وأضرابه رضي الله عنهم أجمعين.
قلت: وقد من الله تعالى علي بالعمل به في بعض أقوالي وأفعالي، فكذب والله وافترى من نسبني إلى البدعة المخالفة لجمهور أهل السنة والجماعة، فإن هذا ما هو نفس مبتدع، اللهم إلا أن يريد الابتداع في شيء من المباحات في الشريعة بحكم العمومات فهذا لا يحرج عليه في ذلك، لأن هذا الأمر قل من سلم منه من العلماء فضلا عن غيرهم كما هو مشاهد.
فاعلم ذلك واحم سمعك وبصرك في حق العلماء، ولا تصغ إلى قول حاسد لهم قط إلا إن اجتمعت بأحدهم وفاوضته في الكلام في تلك البدعة، فإذا رأيته متخلقا بها وعرفته بأنها بدعة وصمم على العمل بها فهناك حذر الناس منه شفقة عليه وعلى المسلمين، حتى لا يقع أحد منهم في إثم لا المبتدع ولا من تبعه. وإياك أن تحذر من اتباع أحد من العلماء بقول أحد من حسادهم من غير اجتماع به فربما يكون بريئا مما نسب إليه، فيكون عليك إثم قاطع الطريق على المريدين لاتباع الشريعة، فإنك حينئذ تحذر من اتباع السنة المحمدية، وهذا واقع كثيرا في الأقران في هذا الزمان، فترى كل واحد يحذر الناس عن الآخر وكل منهما يزعم أنه من أهل الطريق السنة والجماعة، فيختل الأمر إلى عدم الاقتداء بواحد منهما، فالله يحمينا وأصحابنا من مثل ذلك بمنه وكرمه آمين.
وكان سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: لا تكمل عبادة فقير حتى يصير يشاهد الشارع في كل عبادة عملها. يعني يعملها بحضرته على الكشف والمشاهدة، لا على الإيمان والحجاب. ثم قال: فإن قال قائل ما دليلك على ذلك؟ قلنا له: قد رأيت النبي ﷺ في واقعة من الوقائع فقلت له يا رسول الله! ما حقيقة متابعتك في العمل على موافقة شريعتك؟ فقال: هي أن تعمل العمل مع شهودك للشارع حال العمل وبعد العمل.
ويحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى الإحاطة بأدلة جميع المذاهب المستعملة والمندرسة وأقوال علمائها حتى لا يكاد يخفى عليه دليل من أدلتهم ولا قول من أقوالهم في مأمور به أو منهي عنه أو مباح. ثم بعد ذلك لا بد له من شيخ صالح يسلم إليه نفسه يتصرف فيها بالرياضات والمجاهدات حتى يزيل عنه سائر الصفات المذمومة ويحليه بالصفات المحمودة ليصلح لمجالسة الله تعالى ورسوله ﷺ، فإن غالب الناس قد ادعوا مجالسة الله تعالى ورسوله ﷺ مع تلطخهم بالقاذورات المانعة من دخول حضرة الله وحضرة رسوله فازدادوا مقتا وطردا.
فاعمل يا أخي على جلاء مرآة قلبك من الصدأ والغبار، وعلى تطهرك من سائر الرذائل حتى لا يبقى فيك خصلة واحدة تمنعك من دخول حضرة الله تعالى، أو حضرة رسول الله ﷺ. فإن أكثرت من الصلاة والسلام عليه ﷺ فربما تصل إلى مقام مشاهدته ﷺ، وهي طريق الشيخ نور الدين الشوني، والشيخ أحمد الزواوي، والشيخ محمد بن داود المنزلاوي، وجماعة من مشايخ اليمن، فلا يزال أحدهم يصلي على رسول الله ﷺ، ويكثر منها حتى يتطهر من كل الذنوب، ويصير يجتمع به يقظة أي وقت شاء ومشافهة. ومن لم يحصل له هذا الاجتماع فهو إلى الآن لم يكثر من الصلاة والتسليم على رسول الله ﷺ الإكثار المطلوب ليحصل له هذا المقام.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: لا يكمل عبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله ﷺ أي وقت شاء، قال: وممن بلغنا أنه كان يجتمع بالنبي ﷺ يقظة ومشافهة من السلف: الشيخ أبو مدين شيخ الجماعة، والشيخ عبدالرحيم القناوي، والشيخ موسى الزولي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وسيدي إبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين الأسيوطي، كان يقول: رأيت النبي ﷺ واجتمعت به نيفا وسبعين مرة.
وأما سيدي إبراهيم المتبولي فلا يحصى اجتماعه به لأنه كان في أحواله كلها ويقول: ليس لي شيخ إلا رسول الله ﷺ. وكان الشيخ أبو العباس المرسي يقول: لو احتجب عني رسول الله ﷺ ساعة ما عددت نفسي من جملة المؤمنين.
واعلم أن مقام مجالسة رسول الله ﷺ عزيزة جدا، وقد جاء شخص إلى سيدي علي المرصفي وأنا حاضر فقال: يا سيدي قد وصلت إلى مقام صرت أرى رسول الله ﷺ يقظة أي وقت شئت، فقال له: يا ولدي بين العبد وبين هذا المقام مائتا ألف مقام وسبعة وأربعون ألف مقام، ومرادنا تتكلم لنا يا ولدي على عشر مقامات منها، فما درى ذلك المدعي ما يقول وافتضح فاعلم ذلك. ﴿والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾[2].
هل نزور القبور؟ولماذا؟
العهود المحمدية، للإمام الشعراني رحمه الله
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: “استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم بالموت”.
وروى الإمام أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح: “إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة”. وفي رواية لابن ماجه بإسناد صحيح: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة”.
وروى الحاكم مرفوعا: “زر القبور تذكر بها الآخرة”. وفي رواية للترمذي: “كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة”. قال الحافظ المنذري رحمه الله: قد كان النبي ﷺ نهى عن زيارة القبور نهيا عاما للنساء والرجال ثم أذن للرجال في زيارتها، واستمر النهي في حق النساء، وقيل كانت رخصة عامة وفي ذلك كلام طويل للعلماء. والله تعالى أعلم.
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ) أن نرغب إخواننا من الرجال في زيارة قبور أمواتهم كل قليل، وذلك لنجازى على ذلك فلا ينسانا أهلنا من الزيارة إذا متنا، ولا نترك ذلك إلا من عذر شرعي.
وقد روى الإمام سنيد بن عبد الله الأزدي في تفسيره: زوروا القبور ولا تكثروا من زيارتها. أي خوفا من زوال الاعتبار بها كما هو شأن من يغسل الموتى ويحملهم ويحفر لهم فإنك لا تكاد تجد عنده اعتبارا بذلك أبدا لكثرة مخالطته لهم، وكذلك إذا سكن الإنسان في المقابر يذهب اعتباره، بخلاف ما إذا كان بعيد العهد برؤية القبور وأشرف عليها فإنه يجد في نفسه الاعتبار والاتعاظ ويتذكر أحوال الموتى وما ندموا عليه.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: “إياكم أن تتخذوا لكم في القبور مساكن ومراحيض فإن ذلك يؤدي إلى مكث الناس هناك فيذهب اعتبارهم بالأموات!” فقلت له: “ربما يقرؤون ختوما فيها”. فقال: “الأفضل للفقهاء أن يتوضؤوا خارج المقابر، فإن المراحيض ربما سرت إلى الأموات فأضرت بحالهم”. ﴿والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾[3].
الاستعداد لأهوال القيامة
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ) أن نكثر من الاستعداد لأهوال يوم القيامة بالأعمال الصالحة، وذلك بأن نفعل جميع ما أمرنا به على التمام ونجتنب جميع ما نهينا عنه على التمام من غير اعتماد عليه دون الله تعالى، وكذلك نستعد لها بالتوبة من كل خلل وقعنا فيه. فإن كل من أخل بشيء من التكاليف فمن لازمه مقاساة الأهوال والشدائد، ومن بذل وسعه في مرضاة الله فهو من الذين: ﴿لايحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة﴾[4] وتقول لهم: ﴿هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾[5].
ولا يحصل لك يا أخي كمال الاستعداد إلا بالسلوك على يد شيخ مع شدة صبرك على مناقشته، إلى أن لا يخلي عليك تبعة ظاهرة وينشر لك صحيفتك كلها، فيطلعك على جميع زلاتك فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصيها عليك، ويعلمك بطريق الخلاص منها بالتوبة منها ورد المظالم إلى أهلها، وما لم يمكن رده يشفع لك فيه عند الله تعالى، ويدعو لك حتى تموت إن شاء الله تعالى على حالة الاستقامة، فإن شدة الأهوال يوم القيامة إنما تكون على من أخل بالأوامر الشرعية.
ولنبين لك يا أخي بعض أمور لتقيس عليها الباقي، وذلك أن كل من بذل وسعه في طاعة الله تعالى حتى خرج منه العرق من شدة التعب خف عرقه يوم القيامة، فإن كل إنسان لا يخوض يوم القيامة إلا في العرق الذي بخل بإخراجه في طاعة الله كمجالس الذكر وحفر الآبار وحمل الأثقال ونحو ذلك. ومن آثر الدعة والراحة فلم يتعب في مرضاة الله تعالى خرج عليه العرق الذي حبس ولم يخرج في طاعة الله تعالى فيصل إلى خلخال رجله فما فوقها إلى أن يغطي صاحبه. وهكذا القول فيمن أطعم الفقراء والمساكين وأسقاهم لله تعالى فإنه لا يحس بجوع ولا عطش إلا بقدر ما فرط.
وكذلك القول في المشي على الصراط المنصوب على ظهر جهنم يكون المشي عليه على حكم استقامة الإنسان على الشريعة المطهرة؛ فمن زل عنها هنا في أعماله ولم يقبل الله تعالى توبته زلق على الصراط، فإما يتعلق بالكلاليب حتى تدركه الشفاعة، وإما يصل إلى النار فيمكث فيها ما شاء الله حتى تدركه الشفاعة، لا سيما من زنا أو شرب الخمر أو ترك الصلاة أو لم يطعم المسكين، أو خاض مع الخائضين فيما حرم الله تعالى من أعراض المؤمنين.
وكذلك النهوض على الصراط سرعة وبطئا يكون على قدر ما كان عليه من النهوض للطاعة وسرعته فيها أو بطئه. وكذلك القول في الشرب من الحوض يكون على قدر التضلع من العلوم الشرعية، بشرط الإخلاص الكامل فيها.
فقس يا أخي على ذلك، فما من هول من أهوال يوم القيامة إلا وقد جعل الشارع ﷺ له عملا مبرورا، إذا عمله العبد نجا من ذلك الهول، وقد حبب لي أن أذكر لك حديث مواقف القيامة من رواية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه، فإنه ينبه على أمهات الأهوال.
قال رسول الله ﷺ: “إن في القيامة لخمسين موقفا: فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم، يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة حفاة عراة جياعا عطاشا؛ فمن خرج من قبره مؤمنا بربه، مؤمنا بنبيه، مؤمنا بجنته وناره، مؤمنا بالبعث والقيامة، مؤمنا بالقضاء خيره وشره، مصدقا بما جاء به محمد ﷺ من عند ربه نجا وفاز وسعد وغنم. ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرادقات النيران وفي حر الشمس، والنار عن أيمانهم وعن شمائلهم، والنار من بين أيديهم ومن خلفهم، والشمس من فوق رؤوسهم، ولا ظل إلا ظل العرش، فمن لقي الله تعالى شاهدا له بالإخلاص، مقرا بنبيه محمد ﷺ، بريئا من الشرك ومن السحر ومن إهراق دماء المسلمين، ناصحا لله ولرسوله، محبا لمن أطاع الله ورسوله، مبغضا لمن عصى الله ورسوله، استظل تحت ظل عرش الرحمن، ونجا من غمه، ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من هذه الذنوب ولو بكلمة واحدة أو تغير قلبه وشك في شيء من دينه بقي في الحشر والعذاب والهم ألف سنة حتى يقضي الله تعالى فيه بما يشاء.
ثم تساق الخلق إلى النور والظلم فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام؛ فمن لقي الله تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا، ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق، ولم يشك في شيء من أمر دينه، وأعطى الحق من نفسه، وقال الحق وأنصف الناس من نفسه، وأطاع الله تعالى في السر والعلانية، ورضي بقضاء الله وقنع بما أعطاه الله، خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة عين مبيضا وجهه، وقد نجا من الهموم كلها. ومن خالف في شيء منها بقي في الهم والغم ألف سنة، ثم خرج منها مسودا وجهه وهو في مشيئة الله يفعل فيه ما يشاء.
ثم يساق الخلق إلى سرادقات الحساب وهي عشر سرادقات، فيقفون في كل سرادق منها ألف سنة؛ فيسأل العبد في أول سرادق منها عن المحارم، فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثاني، فيسأل عن الأهواء، فإن كان لم يقع في شيء منها جاز إلى السرادق الثالث، فيسأل عن عقوق الوالدين، فإن لم يكن عاقا جاز إلى السرادق الرابع، فيسأل عن حقوق من فوض الله عز وجل إليه حقوقهم وأمورهم وعن تعليمهم القرآن وأمور دينهم وتأديبهم، فإن كان قد فعل جاز إلى السرادق الخامس، فيسأل عما ملكت يمينه، فإن كان محسنا لهم جاز إلى السرادق السادس، فيسأل عن حقوق قرابته، فإن كان قد أدى حقوقهم جاز إلى السرادق السابع، فيسأل عن صلة الرحم، فإن كان وصولا لرحمه جاز إلى السرادق الثامن فيسأل عن الحسد، فإن لم يكن حاسدا جاز إلى السرادق التاسع، فيسأل عن المكر، فإن لم يكن مكر بأحد من المسلمين جاز إلى السرادق العاشر، فيسأل عن الخديعة، فإن لم يكن خدع أحدا نجا ونزل في ظل عرش الله عز وجل قارة عينه فرحا قلبه ضاحكا فوه. وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال ولم يتب بقي في كل موقف منها ألف عام جائعا عطشان حزينا مغموما مهموما لا تنفعه شفاعة شافع.
ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم فيحبسون عند ذلك في خمسة عشر موقفا كل موقف منها ألف سنة؛ فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض الله عليهم في أموالهم، فمن كان أداها كاملة جاز إلى الموقف الثاني، فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس، فمن عفا عفا الله عنه وجاز إلى الموقف الثالث، فيسأل عن الأمر بالمعروف، فإن كان قد أمر بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع، فيسأل عن النهي عن المنكر، فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس، فيسأل عن حسن الخلق، فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس، فيسأل عن الحب في الله والبغض في الله، فإن كان محبا لله مبغضا في الله جاز إلى الموقف السابع، فيسأل عن المال الحرام، فإن لم يكن أخذ شيئا منه جاز إلى الموقف الثامن، فيسأل عن شرب شيء من الخمر، فإن لم يكن شرب من الخمر شيئا جاز إلى الموقف التاسع، فيسأل عن الفروج الحرام، فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر، فيسأل عن قول الزور، فإن لم يكن قاله جاز إلى الموقف الحادي عشر، فيسأل عن الأيمان الكاذبة، فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر، فيسأل عن أكل الربا، فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر، فيسأل عن قذف المحصنات، فإن لم يكن قذف المحصنات ولا افترى على أحد جاز إلى الموقف الرابع عشر، فيسأل عن شهادة الزور، فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر، فيسأل عن البهتان، فإن لم يكن بهت مسلما مر فنزل تحت لواء الحمد وأعطى كتابه بيمينه ونجا من الغم وهوله وحوسب حسابا يسيرا. وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب مكث في كل موقف من هذه الخمسة عشر ألف سنة في الغم والهم والحزن والجوع والعطش حتى يقضي الله عز وجل فيه بما شاء.
ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام؛ فإن كان سخيا قد قدم ماله ليوم فقره وفاقته قرأ كتابه وهون عليه قراءته وكسي من ثياب الجنة، وتوج من تيجان الجنة، وأقعد تحت ظل العرش آمنا مطمئنا. وإن كان بخيلا لم يقدم ماله ليوم معاده وفقره وفاقته، أعطى كتابه بشماله ويقطع له من مقطعات النيران، ويقام على رؤوس الخلائق ألف عام في الجوع والعطش والعري والهم والغم والحزن والفضيحة حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم يحشر الناس إلى الميزان، فيقومون عند الميزان ألف عام؛ فمن رجح ميزانه بحسناته فاز في طرفة عين. ومن خف ميزانه بحسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الهم والغم والحزن والعذاب والعطش والجوع حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
ثم تدعى الخلائق إلى الموقف بين يدي الله عز وجل في اثني عشر موقفا، كل موقف منها مقدار ألف عام؛ فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب التي وجبت عليه، فإن كان قد أعتق رقبة أعتق الله رقبته من النار، وجاز إلى الموقف الثاني، فيسأل عن القرآن وحقه وقراءته، فإن جاء بذلك تاما جاز إلى الموقف الثالث، فيسأل عن الجهاد، فإن كان جاهد في سبيل الله محتسبا جاز إلى الموقف الرابع، فيسأل عن الغيبة، فإن لم يكن اغتاب أحدا جاز إلى الموقف الخامس، فيسأل عن النميمة، فإن لم يكن نماما جاز إلى الموقف السادس، فيسأل عن الكذب، فإن لم يكن كذابا جاز إلى الموقف السابع، فيسأل عن الإخلاص في طلب العلم فإن كان طلب العلم خالصا وأخلص فيه وعمل به جاز إلى الموقف الثامن، فيسأل عن العجب، فإن لم يكن معجبا بنفسه في دينه ودنياه ولا في شيء من عمله، جاز إلى الموقف التاسع، فيسأل عن التكبر، فإن لم يكن تكبر على أحد جاز إلى الموقف العاشر، فيسأل عن القنوط من رحمة الله، فإن لم يكن قنط من رحمة الله جاز إلى الموقف الحادي عشر، فيسأل عن الأمن من مكر الله، فإن لم يكن أمن مكر الله جاز إلى الموقف الثاني عشر، فيسأل عن حق جاره، فإن كان أدى حق جاره أقيم بين يدي الله تعالى قريرة عينه، فرحا قلبه، مبيضا وجهه، كاسيا ضاحكا مستبشرا، فيرحب به ربه ويبشره برضاه عنه، فيفرح عند ذلك فرحا لا يعلمه أحد إلا الله. وإن كان لم يأت واحدة منهن تامة ومات غير تائب، حبس عند كل موقف ألف عام حتى يقضي الله فيه بما يشاء.
شرح الحكم العطائية للشرنوبي (1348هـ)
كيف تعرف نعمة الله عليك
“ربما وردت الظُّلَم عليك، ليعرفك قدر ما مَنَّ به عليك.”
أي: ربما وردت عليك الشهوات والغفلات الشبيهة بالظلم -بفتح اللام جمع ظلمة- ليعرفك سبحانه قدر ما من به عليك من أنوار التجلي في حضرة القرب، فيزداد شكرك عند الرجوع لتلك الحالة التي أبعدتها الشهوات، وتحرص على القيام بحق النعمة في جميع الأوقات.
وقد علل ذلك بقوله:
من لم يعرف قدر النعم بوجدانها، عرفها بوجود فقدانها.
يعني: أن من لم يعرف قدر النعم التي أنعم اللَّه بها عليه بوجدانها عنده لغلبة الغفلة عليه، عرفها بوجود فقدانها، فإنه لا يعرف قدر نعمة البصر إلا من وصل العمى إليه، وبضدها تتبين الأشياء.
لاتدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك، فإن ذلك مما يحط من وجود قدرك.
أي: لا تدهشك النعم المترادفة عليك عن القيام بحقوق شكرك لمولاك، أن ترى عجز نفسك عن توفية ذلك فتترك الشكر، فإن ذلك يحط من وجود قدرك، وقد رفع اللَّه قدرك حيث جعل القليل منك كثيراً، وادخر لك عليه جزاءً كبيراً.
قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾[6]. فلا تبخس نفسك حقها ولا تحطها عن قدرها، فإن ترك الشكر بسبب كثرة النعم جهل بحق المنعم المفضال، كما أن ترك الشكر على النعمة لاستقلالها موجب لغضب الكبير المتعال.
الإخلاص فراغ القلب من غير الله عز وجل
تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال
يعني أن تمكن حلاوة ما تهواه النفس من الشهوات الدنيوية من القلب هو الداء العضال الذي يتعذر برؤه، فإن القلب محل الإيمان والمعرفة واليقين، وهذه هي الأدوية لأمراضه، ما لم يكن الداء معضلاً كتمكن الهوى فلا يفيد فيه إلا وارد إلهي، كما أشار إلى ذلك بقوله:
لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق.
أي لا يكون سبباً في إخراج الشهوة المتمكنة من القلب إلا خوف من اللَّه مزعج يرد على القلب من شهود صفات الجلال، ومنشؤه النظر في الآيات المحتوية على ما أعد للعصاة من العذاب الأليم. أو شوق إلى اللَّه مقلق يرد على القلب من شهود صفات الجمال، ومنشؤه النظر في الآيات المحتوية على ما أعد للطائعين من النعيم المقيم.
كما لا يحب العمل المشترك، كذلك لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يقبل عليه.
يعني: أنه سبحانه كما لا يحب العمل المشوب بالرياء وملاحظة الخلق، كذلك لا يحب القلب الذي فيه محبة غيره. ولما كانت المحبة بمعنى ميل القلب مستحيلة على اللَّه تعالى بين المراد منها بقوله: العمل المشترك لا يقبله -أي لا يثيب عليه- لفقد الإخلاص منه، والقلب المشترك لا يقبل عليه -أي لا يرضى عن صاحب- لعدم صدقه في محبته.
أنوار أذن لها في الوصول، وأنوار أذن لها في الدخول.
يعني: أن الأنوار الواردة على القلوب من خزائن الغيوب، وهي الأسرار الإلهية والمعارف الربانية، تنقسم إلى قسمين: أنوار أذن لها في الوصول إلى ظاهر القلب فقط، فيشاهد معها نفسه وربه ودنياه وآخرته. وأنوار أذن لها في الدخول إلى صميم القلب وسويدائه، فلا يحب العبد عند ذلك سوى مولاه، ولا يفعل إلا ما يحبه سيده ويرضاه.
ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشواً بصور الآثار، فارتحلت من حيث نزلت.
أي: ربما وردت عليك -أيها المريد- الأنوار الإلهية فوجدت قلبك محشواً بصور الآثار الكونية من أموال وأولاد وغيرهما، فارتحلت من حيث نزلت، لأنها مقدسة عن حلولها في القلب المدنس بالأغيار. وقد ذكر المصنف ما هو في معنى التفريغ فقال:
فرغ قلبك من الأغيار، يملأه بالمعارف والأسرار.
أي: إذا أردت -أيها المريد- حلول الأنوار في قلبك، وتجلي الأسرار والمعارف عليه من ربك، ففرغه من صور الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار.
لا تستبطئ منه النوال، ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال.
أي لا تستبطئ -أيها المريد- من ربك العطاء فتقول: أردت الفتح فلم يفتح لي، ولكن استبطئ من نفسك وجود الإقبال عليه بترك ما عداه وتسليم الأمر إليه، فإن من تعلق بالأغيار لا يصلح أن يكون من الأخيار. فاصدق في الإرادة تنل منه الحسنى وزيادة.
[1] سورة الجمعة، 4.
[2] سورة النور، 46.
[3] سورة النور، 46.
[4] سورة الأنبياء، 135.
[5] سورة الأنبياء، 103.
[6] سورة الأنعام، 160.
أضف تعليقك (0 )