post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

إن الله تبارك وتعالى لَم يخلق الناس ليدعهم هائمين على وجهوههم في الأرض يضربون يمينا وشمالا فلا يهتدون إلى بَرٍّ ترسو به سفن نفوسهم، بل بعث فيهم أنبياء ورسلا يتلون عليهم آياته ويزكونهم ويعلمونهم الكتاب والحكمة. إن إلها هذا شأنه مع عباده، وهذه رحمته بهم وإحسانه إليهم، محال عليه عَزَّ قَدْرُهُ أن يتركهم نَهَبًا لِغَوَائِل نفوسهم بعد أن يقبض إليه أرواح أنبيائِه ورسلِه عليهم السلام، بل يجعل لأنبيائه علماء يَخْلُفونهم في ميراثهم هديا وتعليما وتزكية للنفوس، فلا يتركون الإنسانَ يمشي في ميدان هذه الحياة خطوة من مهده إلى لحده، إلا مَدُّوا إليه أيديهم وأناروا له مواقع أقدامه، وأرشدوه إلى سواء السبيل.
على هذا كان الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ [ref]عن أبي الدرداء قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: &#8220;&#8230; وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ&#8221; وبداية الحديث: &#8220;من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا&#8221;. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.[/ref] وحَفَظَتُهُم، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. وليس النبيُّ من الأنبياء إلا تاريخَ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومُراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة تصحيح وتغيير ما بالأنفس؛ فهذا كله هو الذي يُورَث عن الأنبياء، لا العلم وتعليمه فقط كما يفهم العلمَ الطغام. و&#8221;العلماء أُمَنَاءُ الرُّسُلِ&#8221;، وهذا أقوى في باب الاستشهاد به، لأن العالم لا يكون أمينا إلا على سِرٍّ عظيم الشأن، سرِّ النبوة المُنْجَمِع أَمْرُها. فما إِنْ يَخْرِمِ العالِمُ هذا السرَّ ويأخذ ببعض منه دون الآخر طَلَبَا للسلامة ورَغَبًا في الدنيا، تنْتَفي عنه صفة الوراثة والأمانة. يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} آل عمران 187.
ولقد كان الإمام المجدد عبد السلام ياسين وارثا كاملا لميراث النبوة بجهاده وثباته على الحق لا تأخذه فيه لومة لائم. كان تجسيدا حيا لمعاني النبوة؛ حتى لكأن القرآن والنبوة بُعِثَا في شخصه الكريم نَضِرَيْنِ فَتِيَّيْنِ، فكما أن القرآن يُبعَث بعثا معنويا عند كل تدبر له وتمثل لمعانيه ونزول عند أحكامه، فكذلك النبوة تُبعَث بعثا ويُنفخ من روحها في العلماء العاملين المقتفين أثر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. فلذلك كاد العلماء العاملون المجاهدون أن يكونوا أنبياء، إلا أنهم لا يوحى إليهم، وكما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن &#8220;أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد&#8221; [ref]وفي الباب أدلة كثيرة منها حديث: &#8220;من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة&#8221;. رواه الدارمي عن الحسن رفعه مرسلا. ولابن النجار عن أنس &#8220;من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء إلا درجة واحدة&#8221;، وللطبراني عن ابن عباس &#8220;من جاءه الموت وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين الأنبياء إلا درجة النبوة&#8221;. وللخطيب عن ابن عباس بلفظ &#8220;من جاءه أجله وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة.&#8221;[/ref] بما يَحيونه من معاني الصحبة المنتسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تجمع بين تزكية النفوس ورفع الضيم عن الأمة الموعودة بخلافةٍ على منهاج النبوة ثانيةٍ.
إن سنة الله هذه ماضية في الأمم؛ أن الله جلَّ في عُلاه يبعث بين الفينة والأخرى وفي مفاصل تاريخية هامة من حياتها رجالا يُمِدُّونها بنفَسٍ جديد ودَفْعٍ مُستميت. والإمام المجدد عبد السلام ياسين قدس الله سره رجل من طينة أولئك الرجال الذين يبعثهم رب العزة ليُحْيِيَ بهم أرض النفوس بعد موتها مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: &#8221; إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ إِلَى هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَة&shy;&shy;&shy;ٍ، مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.&#8221; [ref]رواه أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، المستدرك على الصحيحين.[/ref] رجال لا يرثون العلمَ شَتِيتًا، بل يسعون لإعلاء كلمة الله مهما كابدتهم المحن وليبينوا للناس دينَهم الذي ارتضاه لهم ربهم جلَّ وعلا. قال الإمام الشاطبي: &#8220;العالم وارث النبي فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هو عالم والدليل على ذلك أمران: أحدهما ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت. ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان. وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا&#8230;&#8221; [ref]الإمام الشاطبي رحمه الله، الموافقات، المسألة الثانية، الجزء الثالث، ص310.[/ref] 
لقد أوتي الإمام المجدد عبد السلام ياسين بيانًا بالقرآن ناطقًا، وإخلاصًا للهِ ولميراثِ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ناصعًا، وقلبًا بالله مشرقًا، ونورًا ينعكس عليه ضِياءُ النبوة صافيًا، مع التقوى والخوف من الله تعالى. وهاتان الكلمتانِ جَزْلتانِ في النطق والسمع، لكنهما كانتا في قلبِه أوسع من الدنيا وأيقظ من الحياة، وقد فرَّغَ قلبَه رضوان الله تعالى عليه من الدنيا فراغَ مَن أيقن أن ليس بينه وبين القبر إلا ساعة، فلذلك قام يذكِّرُ الناس بالله واليوم الآخر بأقواله وأفعاله، وينصح الملوك غير هيَّاب، ويبني للأمة صرح خلافتها، حتى إذا وافته المنية يكون بفضل الله قد وفَّى أمانته وخلَّفها رجالا ونساء صَنَعَهُم على أعين الله واصْطَنَعَهُم لله لا لسواه.
كان من جاء قبله من المجددين &ndash;أجزل الله مثوبتهم- يَبرزون في فن من الفنون العلمية، لكنه جاء جامعا لشتات الأمة، تجديدًا للدين وترقيا في معارجه إسلاما فإيمانا فإحسانا، وتجديدا لمعاني الصحبة الإحسانية -التي لا تنكفئ على ذاتها- ربطًا لقلوب المومنين بقلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لولا الصحبة الإحسانية لَسَاخَتِ الأقدام في مستنقع التدبير اليومي، وطلبا للعدل حتى تكون كلمة الله هي العليا، وتكون الوجهةُ اللهَ على هَدْيٍ من الله.
وإنك لتنظر إلى كتاباته رحمه الله فتجد أن الحقائق التي استخرجَها من كتاب رب العالمين، كثيرة ومتنوعة، تتصل بسائر المعارف والعلوم والثقافات والفلسفات على اختلافها، بيد أنها كانت تَفْتِل في حبل واحد؛ توحيد رب العالمين وإقرار العبودية له لا لسواه. ولقد أَجِدُنِي دائما من هذه الحقائق التي يستخرجها قدس الله سره ويُجَلِّيها أمام فيض كبير يبعث على الحيرة تارة وعلى الدهشة تارة أخرى فيما ينبغي أن أختاره منها، لأجعل منه متنًا أشرحه أو شرحا أهمش عليه.
كان رضي الله تعالى عنه على يقين تام أن العدل صِنْوُ الإحسان وأنه بدون الإحسان -بما هو طلب لوجه الديان- يظل العدلُ خِداج. فكلما تقدم الإنسان صُعُدا في مجال آليات تدبير الحياة اليومية والعلوم والمعارف، كلما امتدَّ به الزمن؛ ذلك لأن أداة العلم والمعرفة هي العقل والفكر، وحركةُ كلٍّ منهما في اجتياز معلوم إلى معلوم آخرَ أشبه ما تكون بالحركة الآلية التي تقوم على الاندفاع الذاتي؛ أما فيما يتعلق بمجال السلوك الإحساني الجهادي الأخلاقي، فالشأن فيه كلما امتد بالإنسان الزمن أن يتراجع في ذلك كله إلى الوراء إن لم تتداركه مَعية مصحوبٍ يجوز به مَفَاوِز نفسه. ذلك لأن التقدم المادي والازدهار المعاشي من شأنهما أن يَزُجَّا بالإنسان في حالة من الترف والاستكبار والتنكر لموازين الحق والاعتداد بالقوة الذاتية. وهذا مصداق قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} &ndash;العلق 6-7 .
وكما أن القرآن الكريم وسنة رسوله طه الأمين صلى الله عليه وآله وسلم لا يبليان ما دامت الأرض والسموات، فكذلك آثار المجددين عليهم رضوان الله تعالى المستمَدَّة من الكتاب والسنة لا تشيب ولا تهرم لأن مَنْ يُقَيِّضُهُ رَبُّ العالمين على رأس المئين ليحفظ به دينه ويجدده، يحفظ سبحانه آثارَه حتى تظل شاهدة أمام بصائر الناس أن الله لَيَتَدَارَكُ عباده كي لا ييأسوا من رحمته.
ومن هنا تظل دعوة العدل والإحسان بما بثه فيها الإمام المجدد&nbsp;&nbsp;من سِرِّ النبوة الذي لا يشيخ ولا يبلى تتسم بالجِدَّة والنَّظَارة مهما تَقدَّم أو تقادم الزمن. 
 ولذلك إن الأمة مَدْعُوَّة اليوم بل مضطرة أكثر من الأمس إلى أن تجدد نفسها كي لا تقع في آفة استبداد النفس وطغيان الهوى، والسبيل الوحيد إلى تجديد نفسها أن تَشُدَّ نفسها وقلبها إلى دعوة الإمام المجدد عبد السلام ياسين، دعوة العدل والإحسان، لِتَعُبَّ من فيض خير وارث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عندئذ تظل الأمة صاعدة في طريقين من التقدم: العدل طريق النَّصَفَةِ في أرزاق الأمة، والإحسان طريق التربية السلوكية الجهادية التي لا تعرف التفاتا إلى الوراء ولا انكفاء على نفسها انعزالا عن العالم.

الإمام المجدد عبد السلام ياسين وميراث النبوة

الإمام عبد السلام ياسين

الزيارة الأخيرة

مقالات في رثاء الإمام

الإمام المجدد عبد السلام ياسين وميراث النبوة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الإمام المجدد رحمه الله .. نجمة النور

التلازم بين القرآن والنبوة

الرحمة المهداة

لالة خديجة .. التقية الخفية

ياسين يا سيدي

الإمام المجدد عبد السلام ياسين وميراث النبوة

مقالات ذات صلة