post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خُلُقه
(وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا، وَتَعْظِيمِ المُتَّصِفِ بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا &#8211; فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ -، وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَمَرَ بِهَا، وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلَّقِ بِهَا، وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ الاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا، وَالاعْتِدَالَ إِلَى غَايَتِهَا، حَتَّى أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ ﴾[1])[2].
بهذه المقدمة الدقيقة استهلَّ العلامةُ القاضي عياض رحمه الله أحدَ فصول الباب الثاني : (فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا، وَقِرَانِهِ جَمِيعَ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا)، مِن أبواب أول قسم من كتابه الماتع &#8220;الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم&#8221;.
وعدَّد في سبعة وعشرين فصلا ما شاء الله من خصال الكمال، حتى قال في الختام: (فَمَجَالُ هَذَا الْبَابِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مُمتَدٌّ، ينقطع دون نفاده الأَدِلَّاء، وبحرُ علمِ خصائصه زاخرٌ لا تُكَدِّره الدِّلاء، ولكنا أتينا فيه بالمعروف مما أكثره فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَشْهُورِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَاقْتَصَرْنَا فِي ذَلِكَ بِقُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَغَيْضٍ مِنْ فَيْضٍ)[3].
وجمعت السيدة عائشة رضي الله عنها &#8211; وهي الفصيحةُ[4] &#8211; ذلكَ كُلَّه في كلمة. فقد سألها سَعْدُ بْنُ هِشامٍ: (يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ)[5].
ونقل الإمام الآلوسي في تفسيره تعليقا للعارِفُ بِاللَّهِ تَعالى المَرْصَفِيُّ قال: (أرادَتْ بِقَوْلِها: كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ، تَخَلُّقَهُ بِأخْلاقِ اللَّهِ تَعالى، لَكِنَّها لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ تَأدُّبًا مِنها )[6]. لذلك قَالَ الْجُنَيْدُ: (سُمِّيَ خُلُقُهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى)[7]. وكيف لا يكون كذلك وقد قال ﷺ عن نفسه: (أَدَّبَني رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبي )[8].
حُسنُ تأديب لم يَجِدْ له حسَّان تعبيرا أفضلَ من قوله:
  وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيني   
                   وَأَجمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
 خُلِقْتَ مُبَرَّءًا مِن كُلِّ عَيْبٍ     
                  كَأنَّكَ قَد خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ[9]
ولِلَّه دَرُّ سادتنا من أهل الحديث والسِّيَر والأدب، فقد وصفوا في كتب الشمائل جمالَ صورته البهية، وبسطوا بين ثناياها كمالَ أخلاقه السَّنِية. فسارت بتلك الأسفار رُكبانُ المحبين، وهامت بِتلكُمُ المحاسنِ قلوبُ الوالهين، ولسانُ حالهم يقول:
إنْ فاتَكُم أنْ تَرَوه بالعيون فما
                يَفوتُكم وصفُه هَذِي شمائلُهُ
مُكَمَّلُ الذاتِ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
             في صفاتٍ فلا تُحْصَى فضائلُهُ
وفَطِنَ المُوَفَّقون إلى أن الاقتداءَ بِنَبِيِّهم هو برهانُ دعواهم محبةَ ربِّهم، ووِثاقُ عُرى تَحَابِّهم، وثمرةُ انحياشهم لأهل الفضل من أكابرهم، فاغتنموا هذه الوَصلةَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوها شعبة لنهر إيمانهم، وعمادا لبناء سلوكهم. قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾[10]، (تقول الآية الكريمة: إن كنتم تؤمنون بالله، فإنكم تحبونه، فما دمتم تحبونه فستعملون وفق ما يحبه، وما ذاك إلا تشُبُّهكم بمن يُحبه. وتشبهكم بمحبوبه ليس إلا في اتباعه، فمـتى ما اتبعتموه يحبكم الله)[11].
وهذا التقديم لشعبة &#8220;التأسي بالنبي <a href="https://wordpress-1153707-4083331.cloudwaysapps.com/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a-%d8%a8%d8%a3%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b7%d9%81%d9%89-%d8%b5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%87-%d9%88%d8%b3%d9%84/">صلى الله عليه وسلم</a> في خُلُقه&#8221; مِنْ بين باقي شعب الخصلة، باعثُه التأسيس المتين لعلاقة المؤمن بأهل بيته، ووالديه، وذوي رحمه، وصديقه، وجاره، وضيفه، ثم سائر الناس. رحمةً بهم، وإحسانا إليهم، ورعاية لحقوقهم. ذلكَ أو تسري في المجتمع ريحُ الفظاظة وسوء الخلق، يزيد من نتانتها قشورُ التديّن الأجوف.
يستمدُّ المؤمن من بركة الاقتداء، ونور الاتباع ما يعُمُّ جميع جوارحه، فيفيض لسانُه نُصحا، وقلبُه رحمة، وحالُه رفقا.
شرط ذلك في قوله تعالى : ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا﴾[12]. الشرط رجاء الله واليوم الآخر، وذكر الله الكثير. (من لا يذكر الله كثيرا لا أُسوَةَ له برسول الله ﷺ، لا يقدر على التأسي، وهو الاستناد والاتباع، لم يؤهل له)[13].
ومتى انجمع هَمُّ المؤمن والمؤمنة على الله والدار الآخرة، ومتى تحققت لهما تلك النقلة من زمن الغفلة إلى زمن العبادة، فأقبلا على مولاهما ذكرا وقياما ومناجاة، ومتى تعلقت همتهما بالشخص الكريم على الله محبة وتعظيما واتباعا، تأهلا لحمل دعوة الله، لأنها (مهمة جليلة يلزمها من الحِلم مثل ما يلزمها من العلم)[14].
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَامَ مَعَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ)[15]. هذا هَدْيُ الداعي إلى الله، أما &#8220;المتدينة المتبتلة الصالحة في نفسها&#8221; لكن &#8220;الضيِّقة بالناس&#8221;، (هذه لا تنتظري منها أن تتجند معك لتطبيب أمراض المجتمع، ونشر بشارة الإسلام، والصبر على مخالطة الناس وأذاهم)[16].
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله:
               جَوْهرٌ أنتَ مُخْلَصٌ أمْ خَليطٌ          طيِّبُ العِرْقِ أنتَ أمْ شَرُّ نَبْتَه؟
               إن تضَلَّعْتَ من علوم كتاب           وعلى إسْوَةِ الرسول اتّبَعْتَه
               ثُمَّ حقَّقْتَ ما هناك بِخُلْق              وتَميزْت في الجهاد، دَخَلْتَه[17]
ويقول منكرا على قوم انتقصوا من حرمة الجناب النبوي:
      حُزْتَ المعالِيَ إن بالمصطَفَى عَلِقَتْمنكَ المعاني وَإِنْ للنُّصْحِ تَسْتَمِعِ
      إن التَّعَلُّقَ بالشخْصِ الكَريمِ هُدىً   وَرَحْمَةٌ مَا ثَوَتْ فِي قَلْبِ مُبْتَدِعِ
      جَفا فَرِيقٌ وجفّتْ في شِفاهِهِمُ       مقالَةُ السوء قالوها بِمُصْطَرِعِ
      قالوا: الرسولُ مضى والشرعُ بَلغَهُ   في حَرْفِ سُنَّتِهِ مَغْنىً لِمُتَّبِعِ
      قلنا: اتِّبَاعُ رسولِ الله في سُننٍ     شرط لأمْنِكَ يَوْمَ الرَّوْعِ والفَزَعِ
      لَكِنَّ حبَّ رسولِ الله سُلَّمُنا         لِلْقُرْبِ مِنْ رَبِّنَا في مَقْعَدِ الْخِلَعِ[18]
      يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى المُختَارِ مِن مُضَرٍمَنْ نَهجُهُ خيْرُ مِنْهاجٍ ومشْتَرَعِ[19]
&nbsp;
[1]  سورة القلم :4 [2]  أبي الفضل، عياض اليحصبي، الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، دار صادر، بيروت، ط 1، 1427هـ/2006م، ص 68. [3]  المرجع نفسه، ص 100. [4]   روى الإمام الترمذي رحمه الله عن موسى بن طلحة رضي الله عنه قال: (ما رأَيْتُ أحَدًا أفصَحَ مِن عائشة). [5]   أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، رقم: 746. [6]  أبو الفضل، شهاب الدين الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط 1، 1415هـ/1994م، المجلد 15، ص 29. [7]  أبو عبد الله، محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، ط 1، 1427هـ/2006م، الجزء 21، ص 143. [8]  رواه ابن السمعاني رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد صححه السيوطي رحمه الله. [9]  عرفات، وليد، ديوان حسان بن ثابت -طبعة صاادر، ج 1، ص 144، القصيدة رقم 265. [10]  سورة آل عمران: 31 [11]  بديع الزمان، سعيد النورسي، اللمعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة &#8211; مصر، ط 6، 2011، ص 82 . [12]  سورة الأحزاب: 21 [13]  ياسين، عبد السلام. الإحسان،  مطبوعات الأفق، المغرب، ط 1، 1998، ج 1، ص 258 . [14]  ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، مطابع أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب،2018، ج 2، ص 49. [15]  أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى، ذكر صفته في مشيه ﷺ، 1/286، وهو حديث حسن. [16]  تنوير المؤمنات، مرجع سابق، ج 2، ص 49. [17]  ياسين، عبد السلام، المنظومة الوعظية، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1996، ص 57. [18]  الخلَع: الألبسة الفخرية بمنزلة الأوسمة في عصرنا، عبـارة عن المقامات التي يخص الله عز وجل بها أولياءه. [19]  ياسين، عبد السلام. ديوان <a href="https://siraj.net/ar/read?id=1052&amp;page=19">قطوف</a>، ج 4، 2000، القطف 306، ص 316.

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خُلُقه

أًسْلالْ نتَمَّنْتْ أَرَسُّولُ الله

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ محبةً واتباعاً.

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ محبة واتباعا

الربيع النبوي رسالة تذكير

رسول الله صلى الله عليه وسلم

مكانة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين

النبي أولى بالمومنين من أنفسهم

التزكية والدعوة

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خُلُقه

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

البر وحسن الخلق

رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس

إكرام الجار والضيف

القوامة والحافظية

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

مقالات ذات صلة