مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

التربية على منهاج النبوة (8) البحث عن المنهاج الإحساني اعتبارا بالتاريخ

التربية على منهاج النبوة (8) البحث عن المنهاج الإحساني اعتبارا بالتاريخ

التربية على منهاج النبوة (8) البحث عن المنهاج الإحساني اعتبارا بالتاريخ

إننا في بحثنا عن المنهاج الإحساني لا نستطيع أن نتخطى تاريخنا. العبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار. وفهم تاريخنا ذكرى، وما يذكر إلا أولو الألباب. لو كان مشروعنا أن ننعزل عن الدنيا وفتنها لنتفرغ للآخرة ونسلك إليها الطريق السهلة لكان تقليد السادة الصوفية الذين تعطرت بأنفاسهم الأيام لنا سندا كافيا. لكن مشروعنا جهادي ونظرنا إلى الصحابة رضوان الله عليهم المنغمسين -كانوا- في جو الوحي والقتال، كان الإحسان العبادي والإحسان الجهادي لا ينفكان في حياتهم، وفي حياة الصوفية انفك الجهاد عن العبادة، وترك السلطان زائغا عن القرآن.

فقه أئمة التربية الصوفية ثروة لا غنى عنها لأنه فقه قلوب تغذت بذكر الله وتفتحت لنور الله. وفقه الفقهاء المذهبيين ثروة. وأثل لنا المحدثون علما شامخا. وأسس الأصوليون صرحا عليه كان مدار فهم الشريعة. ولا غنى لنا عن كل هذا في مستقبل الإسلام. لكن هذه الكنوز تبقى غامضة المغزى ضبابية الدلالة إن لم نتابعها كيف نشأت، وفي أية تربة نبتت، وبأي مياه سقيت، وأية أيد تناولتها، وأية جهة رعتها، وفي أية حدود استطاعت أن تزدهر، وإلى أي مَدى وتحت أية ضغوط اضطرت أن تنكتم.

إنْ قَفَزْنا فوق تاريخنا فاتتنا العبرة وفاتنا الاستبصار واختلط علينا اللب والجوهر بالقشر والأعراض. وبفوات ذلك نرتطم بالواقع الذي نريد أن نغيره، بَدْءاً بواقع أنفسنا التي نريد أن تكون محسنة.

ما هو المنهاج لفهم فتنة القرن الخامس عشر وما بعده استنادا إلى العبرة بالجاهلية الأولى؟ ما هو منهاج النبوة في تعاملها مع الجاهلية؟ هل نكفر المجتمع ونعتبره جاهليا لنبدأ من نقطة الصفر؟ ما هي التربية النبوية التي جعلت من الصحابة أولياء لله مجاهدين في سبيل الله؟ ما هي الضمانات الإسلامية للإنسان وكرامته وحقوقه التي جاء بها الإسلام، كيف طبقت وكيف ضاعت وكيف تسترد؟ ما هي مواصفات الخلافة الراشدة الأولى حتى نخطط على علم للخلافة الثانية؟ ما خصائص جماعة المسلمين كما ألفها الله على يد رسوله الكريم فحملت أعباء الجهاد لنحذو ذلك الحذو؟ كيف تمزقت الجماعة الأولى وكيف نشأت الفرق في الإسلام، وكيف دب الخلاف، وكيف استفحل، ولم غلا من غلا، وجمد من جمد، واستبد من استبد، وظلم من ظلم؟

كيف نبع أهل البدع والأهواء، وكيف انبرى لهم علماء الكلام، وكيف انكب أئمة الفقه على التفريع، وكيف أصّلوا، وكيف اجتهدوا، وكيف جمع المحدثون وصفوا وغربلوا، وكيف ولم انعزل الصوفية، وكيف زاغ الفلاسفة، وكيف دامت الخصامات، ومن أوْرَى زند الصراعات، وما هي الكوارث التي حلت بالأمة، والانشقاق الداخلي، والغزو الخارجي حتى جاء تهديد أوربا واستعمارها وحلول عساكرها وفكرها ونمط معيشتها وكفرها وماديتها بين ظهرانينا؟

يبدو للملاحظ ذي النظرة البسيطة أن لا علاقة لكل هذه الأسئلة المتعرضة للدنيا وصخبها وناسها بالإحسان وفقه التصوف. لكن من وقف معنا وقفات متروية يعرف عن أي إحسان نبحث. درجة الانقطاع عن العالم لطلب وجه الله درجة مشكورة مذكورة، إحسان فردي فار إلى الله يفوقه ذكرا عند الله إحسان جهادي جماعي يقاتل في سبيل الله. لا إله إلا الله والحمد لله.

تسمى قاعدة الرحا التي عليها تدور ثِفالا، وفي الثفال يغرز المحور. لنتمثل ثفال رحا الإسلام هو جماعة المسلمين وقاعدتهم الاجتماعية السياسية المتماسكة بالأخوة الإيمانية الإحسانية. ولنتمثل محور جماعة المسلمين ما غُرز في القلوب من توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبودية، والطاعة لأمره ونهيه الوارد بهما كتابه، والالتفاف حول الرسول الكريم وحول الخليفة المختار بالإرادة الحرة للأمة. ولنتمثل الشقَّ الأعلى للرحا ما في حياة المجتمعات من متغيرات مثل نظام الإدارة وإدارة الاقتصاد والاجتهاد التشريعي فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة وترتيب الشورى في توزيع المسؤوليات وتخصيص المؤسسات. كل ذلك يدور حول قاعدة ثابتة، وحول محور مكين فيها، قائم عليها. لنتمثل الدعوة وما تمثله من ركائز الدين وقوة الجماعة قاعدة تدور الدولة حولها لخدمتها. هذا هو الوضع الإسلامي الذي كان سائدا ما بين الهجرة النبوية وانقضاء عهد الخلافة الراشدة ثلاثين سنة بعد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

فلما أصبحت ملكا انقلب الوضعُ، وتوسط الملوك والسلاطينُ الرقعة، ومكنوا في البلاد صنائعهم ورجالهم وذوي عصبياتهم، وراود السلطانُ القرآن على تنازلات ورخص وسكوت، وشالت الدولة رجال الدعوة إلى الهامش ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية.

الوضع الآن أشد قلبا للحقائق، والدعوة لا يسمح لها بالوجود إلا إذا أعطت الوَلاء غير المشروط للحاكم.

والمطلوب إرجاع الوضع إلى نصابه الإسلامي، وإخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن. الإسلام على الهامش والمطلوب إدخاله مرة أخرى إلى مكان الصَّدارة وإثباته في منصة السيادة. عامة المسلمين جاهلون بدينهم أو شاردون عنه، وطائفة كافرون به محاربون له، والمطلوب أن يرجع الناس إلى الإسلام وأن يقبلوا شرائعه وأن يندرجوا في درجه.

في معرض استخلاص العبرة من سنة الله في الكون، ومعرض مراقبة رحا الإسلام كيف انقلبت ودارت دون أن تتفكك أوصالها ويندثر وجودها، ينبغي أن لا تنسينا صعوبة المشروع -الذي نأمل نجاحه وننتظر- أنَّ حصون السلطان المتمنع من القرآن مهما كانت قوية لا تستطيع مقاومة الجهاد الإحساني إن درنا مع القرآن حقا، وقلدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم صدقا.

ينبغي مع توقع المدد الإلهي الخاص أن نتزود بالصبر، ونعول على المطاولة، ونتوغل في الواقع بحزم في غير عنف ولا تسرع، ونوغل في الدين برفق. من يريد أن يغير الواقع في لحظة، ويرفع الموجود بضربة ليحضر مكانه “حلا إسلاميا” جاهزا مكتملا فإنما هو حالم أو مجنون.

سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة.

الوقت بساط على امتداده تتسلسل هذه العمليات وتتوالد وتتدرج. وفي احترام هذا التدرج العام قانونُه على الناس أجمعين تكمن حكمة الله الخاصة بهذه الأمة، تطوى لها المراحل وتمهد الصعاب وتعجل بالنصر. ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بمكة حول البيت الحرام تحيط به مآت الأصنام مظِنَّةَ أن يفتح مكة ويكسر الآلهة القرشية بعد بضع سنوات. كان المشركون ويهود المدينة من بعد يحسُبُون حساب ميزان القوى وهو في صالحهم. ولو شاء الله لأبطل تلك الميزان إبطالا ولأطبق الأخشبين على قريش وخسف الأرض بيهود كما فعل بأعداء الرسل من قبلُ. لكن حكمته جل وعلا اقتضت أن تدور رحا الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب، وأن تأتي الدفعة الملكوتية لتساعد الأيدي المجاهدة، داخل التاريخ وفي زحمته لا خرقا سافرا لناموسه. تابع في سنة الله، ص 19-22.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد