أما أعمال المؤمنين، فإن كانت شبيهة في إعطاء النتائج السببية في الدنيا مع أعمال الكفار، فإن لها بقاء أبديا على صورة ثواب وجزاء ونعيم. أعمال المؤمنين سعي مَرْضِيٌّ في الدنيا إن حسَّنَه الإتقان، مرضِيٌّ في الآخرة إن زكّاه الإيمان وزكتهُ النية.
تبصر رحمنا الله وإياك كيف ذكرت منَّتا الإطعام من جوع والإيمان من خوف بعد ذكر رحلة الشتاء والصيف، وما في ثنايا الرحلة من كسب، وتجارة، وتعب، واتخاذ أسباب، لتعرف مواقع الكلم، ومضارب الحكمة والأمثال، في كلام رب العالمين. ذلك أنه لا رخاء يرجى لإطعام، ولا أمن، ولا عافية بدن، لقوم كسالى نائمين. إنما بالسعي والحركة والعمران وغشيان الأسواق يأتي الرخاء. اقتصاد نشيط، زراعة تطعم، صناعة توفر السلاح، رجال تطب، وتعلم، وتربى.
لا حاجة بنا أن نقف طويلا عند هذه الفرق البائد كثير منها. لكن نذكر أصول الخلاف الفكري الذي فصله الشهرستاني لأن المواضيع التي دار حولها الخلاف من طبيعة العقل المشترك الأصم الأبكم أن يضل فيها في كل عصر مثلما ضل عقل الأولين. ثم نرجع إلى أصل البلاء كله وهو ختم الله جلت عظمته القلوب، ومرضها. ومن مرضها أن تجد قوما في زماننا يتهمون كل مسلم لا يتطابق رأيه مع رأيهم أنه جهمي، وهو لم يسمع قط بما هي الجهمية ولا له نية ولا رأي ولا دراية بالخلاف في الصفات.
هذا النموذج هو سيدنا سعد بن أبي وقاص، الذي أوصى إليه، مع خمسة من الرجال، أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون أمرُهم شورى بينهم، بعد أن طعنه العِلْجُ أبو لؤلؤة. وكان لعمر مِعيارٌ لمعرفة الرجال، كان يقول: «المرء وغَناؤُه في الإسلام، المرء وسابقته في الإسلام، المرء وحظه من الله». وانظروا كيف ينطبق المعيار العُمَري على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه! فقد أسلم سعد في ريعان الشباب وهو في السابعة عشرة من عمره، فهو مثال الشباب المحمدي.
بدأتْ هذه الصحوة الإسلامية، كما يعبِّرُ العالم كله، بانتشار الفكر الإسلاميِّ، وتوبة الشباب، وتربية محاضن الإيمان. هذه بركة عظيمة باركَنا الله عز وجل بها، تُؤْذِنُ بعودة المسلمين إلى عزة الخلافة في الأرض. وقد انتشر الحِسُّ الجهادي، والوعيُ الحركي، والخبرة السياسية بين هذا الشباب الصالح، وأقبلت هذه الأجيالُ من أشبال الإسلام تحفظ القرآن، وتلتهم بشوق كل حديث عن الإسلام ومجده، والنبوءة وخبرها، والشريعة وضوابطها. لكن إن تحدثت عن معرفة الله، والسلوك إلى الله،
مسؤوليتنا أن ندخل روحا جديدة في هذه الأجيال التي تكون تحت الفساد الجبري عبئا لا يطاق، لأنها تمثل في نفسيتها، وذهنيتها، وموقفها أمام الحياة، الفشل والانهزام ومسخ الشخصية. ما أصاب النفسية الإنسانية من خراب معنوي شامل بتخريب الجاهلية يتجسد في أجيالنا الضحية. أجيال تولد كالأرانب في حظائر البؤس الاجتماعي، وتعطاها أسماء وأرقام في مدارس التجهيل وشوارع الفتنة، وتعرض للقنبلة الإعلامية، والإغراء الانحلالي، ثم تدفع إلى الشارع. لا تخطيط يهيئ الإنسان لمهمات الخبرة، ولا تربية تنشئه على معاني الإيمان، ولا تنظيما اقتصاديا يضعه على عتبة المسؤولية الإنتاجية والكرامة الاجتماعية.
كيف نربي أنفسنا تربية متماسكة؟
يرد هذا السؤال قبل السؤال عن منهاج العمل العام. ويتركز الاهتمام على التزكية وتصفية الباطن والتقرب إلى الله ومعرفته.
نعم زارني شاب لا يخطر هذا السؤال بباله، فلما حدثته عن محبة الله والشوق إليه رفع يده متأففا وقال ما معناه: هل لديك غير هذا؟
نعوذ بالله أن تتشتَّتَ نظرتنا عن وجه الله الكريم، أو تنحط همتنا عن طلبه، أو تحول مكايد النفس الخبيثة والشيطان الرجيم عن اقتحام العقبة إليه اتباعا لنبيه صلى الله عليه وسلم.
تتعدد الرؤى والنظريات بشأن شرف الإنسان، وكيانه، ووجوده، ومصيره. نجد هذا التعدد في مجال الآداب والفلسفات والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي الفنون مساحات واسعة لعرض صورة الإنسان وكيانه المعنوي، وفق منظورات متباينة، عميقة وسطحية، مخبرة بيقين أو بشك عن مصير الإنسان بعد الموت. فماذا يقول الإسلام – بحسب نصوصه التأسيسية – عن الإنسان وشرفه؟
قال مالك: «ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه».
رسول خاتم ورسالة خاتمة. لا تحتاج لتكميل ولا تطوير. نُزُلاً من حكيم حميد. لا يعني هذا أن العقل المؤمن، وهو أيضا خَلْقُ حكيم حميد، قد عطل، وأن تحديات العصور للمسلمين بمشاكلها المستجدة يمكن أن تواجه ببلادة حامل الأوقار الذي لا يعرف ما يحمل، ولا روح ما يحمل، ولا أهمية ما يحمل، ولا سرّ ما يحمل. نحن حاملو رسالة، لكن هل نقدر معنى أن معنا آخر كلمة خاطب بها الخالق خلقه، وأكمل رسالة أنزلها رب السماوات والأرض لعباده؟
كان الأنصار رضي الله عنهم إذن على بيِّنَةٍ من واجبهم بمقتضى البيعة، وعلموا أنها عداوةُ العرب، وأنها الحرب، وأنه الموتُ. واختاروا عن رِضىً الطاعةَ لله ورسوله مهما كانت النتائج، والتزموا بالتحرك في المنشط والمكره، والتزموا بالنفقة في العسر واليسر، والتزموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي بالقيام في بلدهم بفرض التحول الجذري، وإقامة المجتمع الإسلامي على قواعدَ مُنافية للمألوف.
إذا اتخذنا من الحبيب الذي اصطفاه الله قدوة، واستلهمنا سيرته الشريفة اكتسبنا المناعة من “داء الأمم” ومن التوجس الخائف الانهزامي، واكتسبنا القدرة على اقتحام هذه السدود المادية والمعنوية التي تجعل منا أمة محصورة مقهورة في الجهل والفقر والعجز.
إنها مسألة حياة أو موت. ما دام المسلمون يفضلون حياة الخنوع والمذلة، هذه الحياة الدنيا بكل معاني الدون، فهم كم ميؤوس من خيره. ولن يغير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وأهم ما بأنفسنا من ويل الحرص على الحياة الدنيا وكراهية الموت…
ثم تتراصُّ الأعمال الأحب إلى الله في صرح السلوك الإحساني.
أولها الحب في الله والبغض في الله. «أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله». حديث نبوي رواه الإمام أحمد وحسنه السيوطي رحمهما الله. وهذه خصلة الصحبة والجماعة، جماعة الأشداء على الكفار الرحماء بينهم، أحبة الله الأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين.
رأينا كيف ولِمَ وعلى ماذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة. كانت مبايعة جامعة مانعة: الطاعة لله ورسوله التي تتفرع فتغطي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحربية والسياسية. كل لا يتجزأ، رمز ُ كليته أن تقاتل فتموتَ وتذهبَ كلُّك فداء لدينك. إنها بيعة صفق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي الأنصار، ويد الله فوق أيديهم. صفقة بمقتضاها اشترى الله تعالى وباع العبد وشهد النبي. صفقة بضاعتها الجنة ضمنها النبي…
النظرة الثورية الواردة المستوردة تركز على التكتيل والتعبئة وصراع الطبقات وما يواكب ذلك في قطار الإديولوجية محررة الإنسان في زعمها. وشباب المسلمين يحسون الظلم الواقع على الشعوب الإسلامية ويتفاعلون مع الناقم على الظلم ويلتفون حول الصارخ على الظلم، وتجيش عواطفهم فيتجندون تحت لواء الاشتراكية الثورية يلعب بهم المثقفون المغربون وطلاب الزعامات.