
إلى المسجد كان يفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حدث حادث، وفيه كان يجمع المسلمين، وفيه كان يبرم أمر الجماعة ومنه كان يخرج المجاهدون في وجههم للجهاد، وفيه كان يلقي الوفود، وفيه كان يعلم أصحابه، وفيه كان يجلس لحاجة المسلمين، وفيه كان يتم أمر الأمة الأعظم وهو المبايعة للإمام.
الثبات على إديولوجيةٍ عِناداً وادعاءً أنها حية لم تمت، والانتقال من إديولوجية ودّعها العقلاء إلى مثواها الأخير إلى إديولوجية منقذة، والتحول السريع من خطاب متشدد إلى خطاب متصالح، إنما هو تَجْوال في عالم الهياكل، والهيكلات، والتنظيم الحزبي، ومشاكل التنظيم، وصراعات المناصب والمصالح، وحواراتٍ حول الأولويات والإستراتيجيات، ونزاع الزعامات على القيادة.
أما أعمال المؤمنين، فإن كانت شبيهة في إعطاء النتائج السببية في الدنيا مع أعمال الكفار، فإن لها بقاء أبديا على صورة ثواب وجزاء ونعيم. أعمال المؤمنين سعي مَرْضِيٌّ في الدنيا إن حسَّنَه الإتقان، مرضِيٌّ في الآخرة إن زكّاه الإيمان وزكتهُ النية.
رسول الله : لنتدبر هاتين الكلمتين المألوفتين تغطي عنا العادة عظمة مدلولهما. إنه رسول، إنه من عند الله جاء، إنه حمل رسالة، حملها من ربه إلينا. ومن كان هذا شأنه حق له أن يعطي الجنة وعدا لمن وفى ما بايع عليه. ويشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذا معنى المبايعة أعطيك وتعطيني. وقد مسخت هذه العقدة المطهرة في زمن الفتنة حتى صارت بيعة من جانب واحد، بيعة من المسلمين تحت قهر السيف، وخيلت معناها السامي.
نزلت علينا دلالة الله في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وتنزلت فينا دلالة رسول الله ﷺ حية بيننا، نموذجا شاهدا حاضرا، معلِّما هاديا رؤوفا رحِيماً صاحبا أسوة: «ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟». لم تَكن دلالة الرسول ﷺ ودلالة إخوانه من قبله من النبيئين مجردَ تبليغ، وإن كان التبليغ ركنا من أركان الدلالة، وإنما كانت مُعَايشةً وسياسة وتلَطُّفا وخفضَ جناحٍ وقيادةً آلت إلى اتباع وإيمان، ورفع الاتباع إلى محبة الشخص الرسول، ورفعت محبة الرسول إلى محبة الله، وأوجبت محبة الله عبده المتقرب بالفرض والنفل، ومن الفرض الآكد اتباع الرسول وحبه، مراتب الاصطفاء والفلاح.
من سمات الربانية الجمع بين العلم والعمل. أما العمل الضروري فهو الذكر والعبادة يستوي فيهما الصوفية والعلماء العاملون. وتفردت كل طائفة بعمل خاص، يربي الصوفية القلوب ويهذبونها بينما يوجه العلماء العاملون العقولَ وينفون عنها الجهل. وكلا العملين جليلٌ، ولكل طائفة مشاركة: لا يخلو الصوفية من مجالس علمية، وللعلماء العاملين تأثير ضمني على النفوس والقلوب والأخلاق.
أخبرنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن له في آخر الزمان إخوانا. فهي كلمة يهتز لها كل ذي لب وشأن. ويُرشح نفسه لها بالصدق الدائم والجهاد المستمر من رفع الله تعالى همته ليكون من الذين ﴿اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. سورة المائدة، 95. هذا تحد لمستقبلك أخي.
يستحقون هذه الوراثة ويمكن الله لهم في الأرض إن هم طابقوا، وطابقت أعمالهم، وطابق إيمانهم، الوصفَ الذي وصف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ الإلهي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}.2
يمر المريد من حيث نوعيةُ معاملتِه مع الله سبحانه بثلاث مراحل، قد يقف عند واحدة منها لا يتجاوزها، وقد تُطوَى له طيّاً كما يحدث للمراد الذي تحمله القدرة الإلهية على رَفْرَف العناية واللطف فلا يعرف مجاهدة ولا مراحل ولا غيرها إلا بعد الوصول، فيرجع وبصيرته نيرة ليستوفي آداب الطريق ويطَّلِعَ على معالم التوفيق.
رأينا أن الإيمان يتجدد بالإكثار من قول لا إله إلا الله، فعندما تكون الصحبة صالحة، رجلا صالحا وجماعة صالحة، ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية حتى يخرجوا عن الغفلة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض. فتلك هي الطاقة الإيمانية، الجذوة الأولى التي تحرك القلوب والعقول لتلقي القرآن بنية التنفيذ كما كان يقول سيد قطب رحمه الله.
دعوة الإسلام تربية وتعليم، وبلاغ وتبليغ، تبشير وإنذار. فالتربية فعل فاعل بسلطان نموذجيته وسلطان بلاغه وصَوْلة دعوته. التربية تأثير يفرض نفسه على الناس يعلم عاطفتهم ويعلم عقلهم ثم يتناولهما من مجرى العادة إلى مساق الوعي الإرادي والسلوك الإرادي طاعة منتزعة لسلطان الرمز والنموذج. والتربية بهذا لا تنفك عن المربي بل هي إشعاع منه يتشربه المتعرضون له طواعية أو رغما. الفاعل المربي في فتنتنا الغالب على عواطفنا وعقولنا هو النموذج الجاهلي، إنه هذا القائد المنفتح على المذهبية الجاهلية وهذا الأب وهذا الأستاذ وهذه الأم الغارقون في تيار النفايات
رسول خاتم ورسالة خاتمة. لا تحتاج لتكميل ولا تطوير. نُزُلاً من حكيم حميد. لا يعني هذا أن العقل المؤمن، وهو أيضا خَلْقُ حكيم حميد، قد عطل، وأن تحديات العصور للمسلمين بمشاكلها المستجدة يمكن أن تواجه ببلادة حامل الأوقار الذي لا يعرف ما يحمل، ولا روح ما يحمل، ولا أهمية ما يحمل، ولا سرّ ما يحمل. نحن حاملو رسالة، لكن هل نقدر معنى أن معنا آخر كلمة خاطب بها الخالق خلقه، وأكمل رسالة أنزلها رب السماوات والأرض لعباده؟
دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ فُرِضَ عليه القتالُ وعلى أصحابه عقِب خروجهم من مكة يُجَيِّشُ الجيوش، وأصبحت المدينة معقِلا وحِصْنا. منها تنبعث البُعوثُ والمغازي، وفيها يتحصَّن جند الله إذا هوجموا. بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم السَّرايا من المدينة إلى كلِ بقاع الجزيرة، وغزا منها بنفسه. فكان عددُ مغازيه التي قادها سبعا وعشرين كما جزم بذلك ابن الجوزي والحافظ العراقي رحمهما الله.
قال مالك: «ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لَمِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفَك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه».
يتحدث المتحدث عن معرفة الله تعالى، ومقامات القرب منه عز وجل، ويقتبس من كلام أهل الله وينتخل، ويبحث ويجمع الدرر والجواهر من كلامهم، وإذا أوتي فصاحة اللسان وذلاقته، وجمال المظهر ووسامة الوجه، أبهر وأدهش، وقد يتعلق الناس به تعلقا يفضي بهم إلى الولع بكلامه دون أن يخطو بهم خطوة إلى ربهم. فهل انتهت الدلالة على الله تعالى في هذا المستوى من الكلام والانتشاء أم إنها شيء آخر؟ وما هي الدلالة على الله تعالى الجامعة لأمر الدين؟ وهل السلوك إلى الله تعالى يستقيم دون الاهتمام بأمر المسلمين؟ وهل يمكن أن يدل على الله تعالى من يعيش تحت إبط الطاغوت مقدما الولاء غير المشروط له؟
كانت تلك جاهلية في روحها، وهذه اليوم نفس الروح تهيمن على العالم باسم الحضارة والتقدم. وكانت قومة الرسول صلى الله عليه وسلم قومة واحدة لم يعالج جانبا من جوانب الفساد ولم يتوجه فيها لقبيلة دون قبيلة. كانت دعوته شاملة عامة. كانت قومة الحق ضد الباطل. وأتى الأمر من أساسه حين كانت لا إله إلا الله رمز دعوته ومعناها وبرنامجها.