خاطب القرآن الكريم الأميين المستجيبين للداعي خطابا قويا في هذا الأمر. خاطب الإنسان من حيث إنسانيته، خاطبه من حيث فطرته ومخلوقيته. ولا يزال يخاطبه. الفرق بين الأميين الأولين وبين الناس أجمعين إلى يوم القيامة يتمثل في كون أولئك كانوا عارين أو شبه عارين عن العوائق الخارجية الحضارية التي تشوش على السمع، بينما الإنسان في عصر كعصرنا مكتظ الآفاق الحسية والعقلية بطفيليات صنعه وفلسفته وشغله وثروته وغناه وبؤسه وفاقته التي يلهبها منظر المترفين وآلات ترفهم.
الإسلام دين تآخٍ، يعيش المسلِمُ والمسلمة في جنبات الوُدِّ ورحابِ الوَلايَة وكنَفِ النصرة. والمؤمن والمؤمنة هما العامل الإيجابي، هما منبع المودة، وحمَلَةُ تكاليف النصرة، ومُعتصَم الوَلاية.
الوَلايةُ بين المؤمنين والمؤمنات كما بين القرآن سياقها من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصلةٌ بين الله والناس: في آخر السياق قال الله تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله﴾
أخبرنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن له في آخر الزمان إخوانا. فهي كلمة يهتز لها كل ذي لب وشأن. ويُرشح نفسه لها بالصدق الدائم والجهاد المستمر من رفع الله تعالى همته ليكون من الذين ﴿اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. سورة المائدة، 95. هذا تحد لمستقبلك أخي.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رسول الله ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»
التقلل إمساك على زمام النفس لكيلا تجتلبها المغريات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد هذه المنزلة، أوصى بالتقلل حتى يكتفي المؤمن في خاصة نفسه بمثل زاد الراكب، فكان صحابته مثالا للزهد والتعفف والبَذَاذَةِ التي هي من الإيمان كما جاء في الحديث. البذاذة عكس الترفه في الزينة.
من أعمال شعب الإيمان ما يلزم المؤمن مرة في العمر كالحج. ومنها ما يلزم مرة في السنة كصوم رمضان، ومنها ما هو موقوت مضبوط كالصلاة والزكاة، ومنها ما يسنح في أوانه وبمناسبته كعيادة المريض وتشييع الجنازة، ومنها ما هو فرصة دائمة كإماطة الأذى عن الطريق، ومنها ما هو صفة نفسية مصاحبة كالحياء، ومنها ما ينبغي أن يصبح عادة راسخة كقول لا إله إلا الله.
رابع أركان الإسلام، والضابط المتمم لضوابط الشهادتين والصلاة والزكاة. فتوحيد الله عز وجل، والإقرار له بالعبودية، خروج عن سلطان الهوى المتأله، الصلاة تحقيق لهذه العبودية بالخضوع لكيفياتها وأوقاتها، والزكاة تحرر من غريزة التملك، والصيام امتلاك للشهوة. فمن كملت له السيطرة على نفسه بحبسها في إطار الإسلام، وصبرها على تكاليف الإيمان، فقد تأهل للجهاد. والحج خامس أركان الإسلام وهو أحد وجوه الجهاد.
أول خطى التربية التوبة ثم اليقظة. كانت التوبة في عصور الفتنة بعد الخلافة الراشدة الأولى عبارة عن التوبة من الذنب والمعصية، والتائب في مأمن وعافية، لا هم له إلا صراعهُ الداخلي ووخز ضميره ومعاملته مع الله، يُؤَرِّقُه هم الآخرة. في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت التوبة من الشرك والمعاصي هَمّاً مزدوجا، لأن الجهاد وواجبه وضروراته وحضور الموت واحتماله في كل خروج في سبيل الله تُكَوِّن ظروفا يلتحم فيها مصير الفرد بمصير الجماعة، ويتميز فيها المنافقون من الصادقين.
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ».
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ الْعَامَّةِ».
إن الاقتصاد في السلوك معناه السير الحثيثُ المتواصل بين طرفي الإفراط في الحماس الكاذب الذي يظهر على المبتدئين في السير ثم يخبو ويضمحِلُّ، وبين التراخي المالِّ الـمُمِلِّ الآئل إلى التوقف والفشل. هذان الطرفان المذمومان يُعَبِّرُ عنهما النطق النبوي بـ”الشِّرّة” و”الفَترة”.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لكل شيء شِرَّةً، ولكل شيء فَتْرَةً. فإنْ صاحِبُها سدد وقارب فارجوه. وإن أشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه”. أخرجه الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطائف وما لاقى من عنت وشدة على يد المشركين، ولا ولي إلا الله ولا ناصر بعد موت أبي طالب ووفاة أمنا خديجة رضي الله عنها، أحوج الناس إلى رحمة من الله تجدد اليقين وتثبت الأقدام وتدفع لجهاد مستأنف. فكانت المعجزة السماوية والرحلة الخارقة بلسم الرحمة وباعث اليقين.
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة بعد البعثة يعاني اضطهاد قومه. ما كان له ولأصحابه شوكة يحتمون بها، ولا نزل الإذنُ بقتال المشركين. إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد من أصحابه يتمتع بالوضع الاجتماعي القائم الذي كان يقضي أن تدافعَ العشيرة عن بنيها. أحيانا كانت حماية العشيرة لا تكفي كما حدث بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هجرة الطائف حين التمس جِوار المطعم بن عديّ، فلم يدخل مكة إلا في جواره. ونقرأ على أي مدى تتحرك عصبية العشيرة في صالح الإسلام بالتضامن القوي الذي أظهره بنو هاشم حين قاطعتهم قريش في الشِّعْبِ.
أما أعمال المؤمنين، فإن كانت شبيهة في إعطاء النتائج السببية في الدنيا مع أعمال الكفار، فإن لها بقاء أبديا على صورة ثواب وجزاء ونعيم. أعمال المؤمنين سعي مَرْضِيٌّ في الدنيا إن حسَّنَه الإتقان، مرضِيٌّ في الآخرة إن زكّاه الإيمان وزكتهُ النية.
تبصر رحمنا الله وإياك كيف ذكرت منَّتا الإطعام من جوع والإيمان من خوف بعد ذكر رحلة الشتاء والصيف، وما في ثنايا الرحلة من كسب، وتجارة، وتعب، واتخاذ أسباب، لتعرف مواقع الكلم، ومضارب الحكمة والأمثال، في كلام رب العالمين. ذلك أنه لا رخاء يرجى لإطعام، ولا أمن، ولا عافية بدن، لقوم كسالى نائمين. إنما بالسعي والحركة والعمران وغشيان الأسواق يأتي الرخاء. اقتصاد نشيط، زراعة تطعم، صناعة توفر السلاح، رجال تطب، وتعلم، وتربى.
لا حاجة بنا أن نقف طويلا عند هذه الفرق البائد كثير منها. لكن نذكر أصول الخلاف الفكري الذي فصله الشهرستاني لأن المواضيع التي دار حولها الخلاف من طبيعة العقل المشترك الأصم الأبكم أن يضل فيها في كل عصر مثلما ضل عقل الأولين. ثم نرجع إلى أصل البلاء كله وهو ختم الله جلت عظمته القلوب، ومرضها. ومن مرضها أن تجد قوما في زماننا يتهمون كل مسلم لا يتطابق رأيه مع رأيهم أنه جهمي، وهو لم يسمع قط بما هي الجهمية ولا له نية ولا رأي ولا دراية بالخلاف في الصفات.
هذا النموذج هو سيدنا سعد بن أبي وقاص، الذي أوصى إليه، مع خمسة من الرجال، أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون أمرُهم شورى بينهم، بعد أن طعنه العِلْجُ أبو لؤلؤة. وكان لعمر مِعيارٌ لمعرفة الرجال، كان يقول: «المرء وغَناؤُه في الإسلام، المرء وسابقته في الإسلام، المرء وحظه من الله». وانظروا كيف ينطبق المعيار العُمَري على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه! فقد أسلم سعد في ريعان الشباب وهو في السابعة عشرة من عمره، فهو مثال الشباب المحمدي.