مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

السياسة والحكم

التغيير في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام عبد السلام ياسين 2/2

التغيير في نظرية المنهاج النبوي عند الإمام عبد السلام ياسين  2/2

الوسيلة الثالثة من وسائل التغيير: التنظيم

عندما كتب الإمام رحمه الله تعالى الرسالة للملك الراحل آنذاك، لم يكن معه أي تنظيم يستعين به، وأدرك أن تأسيس التنظيم لا مفر منه، بل إنه في حكم الواجب الذي لا يقوم الواجب إلا به ف: “استراتيجية التغيير الإسلامي، كما نقرأها في السيرة النبوية وفي القرآن الكريم، تتأسس على إرادة جماعة مجاهدة مبنية بناء خاصا، ثم إذا تغيرت النفوس الفردية في الجماعة وتقوت في الإيمان والإحسان إلى أن تكون، عن استحقاق، معنيَّةً بقول الله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أصبح القرآن برنامَجَها ونظامها المقترَح وأسلوبَها، وأصبح موقعُ النظُم الجاهلية والأساليب والخُطَطِ منها موقعَ الكفر من الإيمان، وموقعَ عصيان الله من الطاعة له ولرسوله، وموقع العنف من الرفق”.) [ref]الإحسان ج 1ص367[/ref]

وتحت عنوان: “لا جهاد إلا بجماعة منظمة”) [ref]المنهاج النبوي ص128[/ref] يجلي الإمام النظر عن ضرورة وجود جسم حاضن لمشروع التغيير جسم له قابلية الخضوع للتربية، مواصفات خاصة لحمل المشروع والنهوض في شتى مراحل البناء.
ولقد خصص الفصل الرابع من المنهاج لبسط هذه القضية، فالولاية بين المومنين ليست مجرد عواطف إيمانية هائمة في الحياة بل هي: “قرب بين المؤمنين وتناصر وأخوة ووحدة الأمر الجامع بينهم…”.) [ref]المنهاج النبوي ص60[/ref]

هذه القوة الفاعلة في التغيير ذات المكونات العديدة، وقد تتطور مذ كتب الإمام المنهاج، تحتاج إلى نواظم هي الروابط المعنوية التي تيسر للجسم اشتغاله، التنظيم كائن عضوي ونسيج حيوي وسط المجتمع، به يحى وبصموده تتركز النموذجية الإسلامية في النفوس مهما شوه الأعداء والخصوم. العمدة رجال منظمون أقوياء أمناء عازمون، ثم وسائل مادية تجسد الإرادة والقوة المعنوية، في مشروع يتحرك، روح وجسد.
التنظيم وسيلة أساس بعد الإنسان، ثم المنهاج، وتتبعهما الدولة والأمة.

الوسيلة الرابعة والخامسة من وسائل التغيير: الدولة والأمة أو الحكم الإسلامي

استوى اقتناع الإمام رحمه الله تعالى على أنه لا يمكن للفرد وحده ولا للتنظيم بمفرده، وإن كان موجودا محكما،أن يحدث تغييرا ذا أهمية إن لم تكن له دولة تحتضنه، فألف في ذلك كتابا تحت عنوان:” العدل” لب مضامينه الحديث عن قضايا الحكم وكيف ينجح فيه الإسلاميون، إذ هو الواجهة الظاهرة للتغيير على مرآى من الناس ومسمعهم، مؤمنهم وكافرهم، كما ألف رحمه الله تعالى سلسلة من الكتب عن:” دولة القرآن الكريم”
النجاح في تدبير شؤون الدولة الإسلامية وجعلها قلعة للنجاح الإسلاميين في الحكم وحضنا مخلصا للتغيير المنشود، رهين بمناقشة قضايا كثيرة متعلقة بالحكم الإسلامي ومقتضياته،هذا ما حدا بالإمام أن يفصل فيه في كثير من مؤلفاته.

في كتابه “العدل” تفصيل لكل ذلك، لكن ليس المجال مناسبا لتتبعه، إنما نحن بصدد اعتبار الإمام الدولة أو الحكم الإسلاميين وسيلة هامة من وسائل التغيير المطلوب.، مع ضرورة العناية بما يلي:
الاعتناء بالشرط الذاتي: تربية جماعة المومنين وتنظيمهم لأنهم قلب الأمة.: ” نعم ! إن إقامة دولة القرآن في الأرض لا سبيل إليها إن لم تقم في قلب أئمة الدعوة والدولة سوقُ المعرفة بالله، والخوف من الله، والحنين إلى الله، والطمأنينة بذكر الله، والسكينة إلى الله، والشوق إلى لقاء الله، والعض بالنواجذ على سنة رسول الله”) [ref]رجال القومة والإصلاح ص105[/ref]

وظيفة الدعوة والهداية أولا: والحذر من الانشغال بدروب الحكم والسياسة عن الهداية والإرشاد، ولذلك ينبغي للدولة والحكم الإسلامي أن يكون خادما للدعوة، وأن تكون هذه الأخير مستقلة عن مؤسسات الدولة بما يضمن لها وظيفة المراقبة من عل للسفينة أن تتنكب طريق الجادة.

الاعتناء بالمستضعفين في الأرض: بأن تهتم الدولة الإسلامية بقضايا الإنسان وكرامته، ومسائل التنمية والتصنيع، ومن أهم ما يركز عليه الإمام رحمه الله تعالى المرأة، بأن تترس بالعلم والحكمة الكافيين لتكون فاعلة في مسيرة التغيير لا مجرد كم مهمل ناقص أو دمية مشاعة بين الأيادي تفعل بها ما تشاء: ” بل تهدف دولة القرآن إلى كل ذلك التغيير، وتعتبره واجبا من آكد واجباتها. لكن الدعوة إلى الله، وإنقاذ الإنسان من ظلام الكفر، وقتامة النفاق، وقذارة معصية الله، وغبش الغفلة عنه، المؤدية إلى بؤس الدنيا وعذاب الآخرة، هي الهدفُ الأسمَى، ومحورُ الحركة، ومحطُّ الطموح”.) [ref]إمامة الامة ص87[/ref]

أسلوب التغيير عند الإمام رحمه الله تعالى

يتجلى ذلك في العامل الذاتي، وفي الممارسة الميدانية، ونظرا لسريان الأساليب في المجالات التي ذكرناها سريان الماء في النبات الأخضر اليانع، وتفاديا للتكرار الذي قد يحدثه إفراد كل مجال بأسلوبه، فإننا سنتحدث عن أهم خصائص هذا الأساليب بشكل إجمالي كما ما يلي:
الحرص على دوام التربية الإيمانية وتوازنها.
التدرج
الوضوح
السلمية والرفق
التغلغل في المجتمع
الاجتهاد الجماعي المتجدد
الحوار والاعتراف بالآخر

الحرص على دوام التربية واستمرارها وتوازنها:
والمقصود بدوام التربية عدم التنكب عن الوجهة المرسومة أصالة رضى الله تعالى والقرب منه، يلخص الإمام ذلك في آخر فقرة من فقرات المنهاج النبوي: “التنظيم والحركة بلا تربية إيمانية تحزب سياسي ما هو من الإسلام في شيء…قيادة تنطق بالإسلام والقلب فارغ من حب الله والتوكل عليه تقود القافلة للتيه…التحليل السياسي والفقه الفكري دون ذكر الله، والخشوع الدائم بين يديه، هذيان على مستوى هذيان العالم. الحركة دون معرفة النفس وأمراضها وعلاجها هوس.)استيقظ واعلم أن المنهاج النبوي هو ذاك الصراط الذي تضع فيه قدميك على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو الصراط المستقيم الذي يلحقك بالذين أنعم الله عليهم، وقص عليك في كتابه نعمته عليهم، وتفضيله إياهم، ونصره دعوتهم. ثم حسن لك رفقتهم.)لا تحسب أن المنهاج النبوي الذي تحدث لك عنه كل هذه الصفحات الطوال يكون منهاجا نبويا إن لم يجمعك على الله تعالى، ولم يستحثك للإقبال عليه عز وجل، ولم يوقظ همتك إليه.”) [ref]المنهاج النبوي ص. 457[/ref]

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن أي مشروع تغييري لا يحقق توازنا في تربية أعضائه مشروع فاشل.
والتوازن عدل، به تقوم الأشياء على ميزان سوي: ” إن الخلل الذي يحدث في التربية ينتج عنه خلل في التنظيم، ومن ثم فشل الجهاد كله. فعلى قوة الرجال، عمق إيمان ومتانة خلق ودراية وقدرة على الإنجاز، يتوقف نجاح العمل. ..يجب ألا تكون السمة الغالبة على جند الله زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر، ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة.”) [ref]المنهاج النبوي ص51.[/ref]

التدرج: خاصية شرعية وأسلوب ضروري في التغيير على المستوى التربوي والتعليمي وعلى مستوى التصور النظري والفعل الحركي، ولا يفتأ الإمام رحمه الله تعالى يوصي به في الأمر كله.
تربية المومنين تحتاجون إلى معرفة النفوس والارتقاء بها بأسلوب تدريجي حتى يعوا المسؤولية المنوطة بهم، ويدركوا المهمات الموكول إليهم تنفيذها بإتقان: “على أن التدرج ضروري في التربية، فلا يتحمل كل الناس أن يسمعوا ولا أن يستجيبوا لنداء المسيرة الجهادية من أول لقاء وعاشر لقاء”) [ref]المنهاج النبوي ص18[/ref]

وإذا كان من ميزات الشريعة التدرج في الأحكام فذلك درس بليغ في تعامل الدعاة والحركات ومريدي التغيير أثناء تقويمهم للواقع وتنزيلهم للمبادئ العليا إلى الأرض:” من سنة الدعوة التدرج في البناء، وعامل الوقت … أساسي في القضية. وما وَسِعَ أمةَ الإسلام في مرحلة بنائها الأول يسعُها، بل لا يسعُها غيره، في مرحلة إعادة بنائها. تدرجت النبوة والخلافة الأولى بالناس من جاهلية سائبة لإسلام متمكن، وكذلك تتدرج إن شاء الله الخلافة الثانية بالمسلمين من غثاء شتيت إلى وحدة قائمة، ومن إيمان بال خَلَقٍ إلى إيمان متجدد، ومن كَمِّ قاعد إلى جند مجاهد”.

أسلوب التدرج هذا وحكمته لن يكون في فراغ من العمل التغييري المستمر بل وسط دوران الأحداث وتعاقبها على الجماعة حاملة المشروع: “لا يمكن إيقاف العجلة ريثما يعاد ترتيب الآلة الاجتماعية الاقتصادية الإدارية والنظام القانوني في دولة ما جزء لا يتجزأ من نظامها الكلي. فلا بد إذا من وضع سلم أسبقيات، وتفريع القوانين الشرعية من أصول شرعية هي اليوم في ضمائرنا مطلب ملح، ويجب أن يمكن لها في أرض الواقع لتحتل المراكز غدا، بعد معركة الزحف، وخلال صراع الحق الهاجم مع فلول الباطل الذي لن يجلو عن مواقعه. تدرج من الأصول للفروع، ومن الأهم للمهم. تدرج في الزمان، وتوقيت، وأسبقيات، وضرورات تطرأ. وتشبه عملية التحول والتغيير القانونية كل عمليات التحويل الإسلامي في أنها لا تتم في الفراغ والهدوء، بل تشق طريقها، وتفرض نفسها، وسط غمار عام من العواطف المتأججة الناصرة والمعارضة، ومن الآراء المختلفة أو المتآلفة، ومن المصالح المرجوة والمهددة:”) [ref]المنهاج النبوي ص307

[/ref]

الوضوح:

ففي الوقت الذي كانت الحركة الإسلامية في المغرب وخارج المغرب تنهج نهج السرية وأسلوب السراديب المظلمة، كان الإمام رحمه الله تعالى ينادي بالوضوح الذي لا يناقض التكتم، ولكن يقول للناس بلسان الحال قبل المقال: من نحن وماذا نريد؟، يقول في أول صفحا كتابه ” المنهاج”:”ما ينبغي لنا أن نسكت ويغتنم الأعداء سكوتنا ليتهمونا بالغموض والتخلف الفكري وينسبوا لنا ما شاءوا من تهم الإرهاب والتآمر. وما ينبغي لنا أن نخاف من تبعات الكلمة الصريحة المسؤولة فإنما ذل المسلمون من غياب هذه الكلمة”. [ref]المنهاج النبوي ص3[/ref]

الوضوح طريق أصيل إلى تحمل المسؤولية في كل خطوات التغيير. نعم يحتاج الأمر إلى وقت وتدرج كما أسلفنا، لكن أسلوب التدرج بدون وضوح قد يسقطنا في الارتخاء والبحث عن الحلول التلفيقية كما يفعل كثير من الإسلاميين بدعوى الموازنة بين المصالح والمفاسد، أو ترتيب الأولويات.

ما هي المطالب التي تريد؟ ما هي قمة قصدك؟ هل هي بحث عن مساحة للاشتغال بنمط إسلامي يسمح به الوضع بحاكم وواقعه المحلي والدولي؟ أم ترسم خطا لنهوض الأمة تعلمها مبتدأه وخبره؟ الاختيار الأول يسهل عليك الدوران في حلقة المسموح به وسميه ما شئت عملا إسلاميا، حكما إسلاميا؟ لكن الأحق والأجدى أن تعلم أن الأمة الإسلامية موعودة بالتمكين والاستخلاف لكن الطري ينبغي أن يكون واضحا نسير فيه بخطى ثابتة، لا قفزا ولا نكوصا: ” وعن الوضوح والرؤية العميقة البعيدة نبحثُ حين نقول : إن البديلَ الإسلامي إن لم يكن على بيّنَةٍ من طبيعةِ المبدَل منه يوشِك أن يتزيّا بزَيه ملاطفة، ويتكلم بلغته مجاملة، ويصْطنِع أسلوبه مُداراةً، فلا يشعُر يوما إلا وقد تجنّس بجنسية الـمُبدل منه”). [ref]حوار الماضي والمستقبل ص103.[/ref]

الوضوح ـ إذن ـ أسلوب أساس للتغيير بدونه يكون الغموض والتردي في مهاوى الاتهامات من الفئات المتوجسة من الإسلاميين، بل وسنح لها الفرصة لتصف الحركات الإسلامية الراشدة بكل وصف دنئ، وتروج له فيما تملكه من آلة إعلامية خطيرة لتقول للناس ما تشاء. الوضوح صيف قاطع لكل لبس وأداة بناء فاعلة” فاصدع بما تومر وأعرض عن الجاهلين”

السلمية والرفق:

لا أخطر على المشروع التغييري الراشد من السقوط في دوامة العنف والعنف المضاد، وهو مطب يود الحكام الظالمون، وسدنتهم ممن يمسكون الخيوط في الظلام لو تسقط فيه الحركة الإسلامية ليفعل بها عنف أقسى وهم يملكون آلته ويحكمون تطبيقاته، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، ولا كان العنفُ في شيء إلا شانه». وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف”. وكانَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: “والله إني لأريدُ أن أُخْرِجَ لهم الـمُرَّة من الحق، فأخافُ أن ينفروا عنها، فأصبرُ حتى تجيءَ الحلوةُ من الدنيا فأخْرِجُها معها. فإذا نفروا لهذه سَكَنوا لهذه”.

ولعل خصلة التؤدة في المنهاج النبوي خصلة جامعة لكل معاني الرفق ونبذ العنف في التغيير، فقد خصص الشعبة السابعة والستين: الرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق وأورد فيها قول الرسول فيما روى الشيخان عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله”. سواء أمرنا الخاص والأمر العام للمسلمين. وفي رواية لمسلم: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه. ولا ينزع من شيء إلا شانه” وفي رواية أخرى له: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”. وفي الحديث الأخير تقابل بين الرفق والعنف.

التغلغل في المجتمع:

من الناس من يرى أن التغيير يأتي بالانقلابية والتحكم في الشعوب من أعلى، وهو قد ينجح إذا صحبه العنف الفتاك والغموض الماكر والقسوة الظالمة، والأساليب السابقة تقتضي حتما التغلغل في المجتمع لتتأسس مسيرته التغيرية من أعمق أعماقه، فلا تنهزم عند أول ريح من رياح المواجهة: ” ينبغي لجند الله أن يتعبأوا للتغلغل في الشعب قصد إيقاظه وتربيته والتماس الخير عند أهل الخير، وما من جلسة ولا وقفة مع شخص من خلق الله، تدعوه إلى الله، وتحاجه في الله، وتتحيب إليه في الله، وتذكره بالله، إلا وهي حركة مباركة.)كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا الحركة دائبها في الدعوة. روى ابن القيم في «زاد المعاد» عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ يقول : « من يؤمنني؟ ومن يؤويني” ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة ؟ ». اتباع الناس والإلحاح عليهم في كل مكان ومناسبة وبكل أسلوب حكيم، هذه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.”) [ref]المنهاج النبوي ص 136[/ref]

التغيير الواضح المتدرج بالناس عبر مراحل اقتحام العقبة لا محل له إلا في عموم الشعب، كل حسب درجته ووظيفته في الشعب، وعلى قدرة الحركة الإسلامية على التغلغل في الشعب يكون نجاحها في إعطاء النموذج الصحيح للتغيير، فمكان عضو الجماعة حاملة مشروع التغيير مجالس الناس ونواديهم وتجمعاتهم:” باب الدعوة الصحبة، فكن كلمة الحق التي لا تخجل، ووجه الخير الذي لا يعكس إن جاءه الناس، بل يسعى هو إلى الناس.
ساعي الخير كن، وكن حيث يحب الله أن تكون، بالوصف الذي يجب. [ref]المنهاج النبوي ص136 ـ 137[/ref] ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين؟ [ref]سورة فصلت الآية 33

[/ref]

الاجتهاد الجماعي المتجدد:

التغيير تجديد والتجديد يفرز قضايا لم تكن من ذي قبل، كل ذلك يتطلب اجتهادا متجددا لتلك القضايا، ولم يعد هناك مجال للمجتهد الفرد المطلق، لذلك يقترح الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى شكلا جديدا من الاجتهاد الذي سبق التغيير الشامل ويواكبه ويستمر معه، إنه الاجتهاد الجماعي المتجدد. الاجتهاد: “لتغيير بنى المجتمع كله ونقله من سلطان القانون الوضعي إلى سلطان الشريعة الغراء. اجتهاد مخطط، مبرمج، جماعي، يغطي حاجات التقنين، أي صياغة أحكام الشرع صياغة قابلة للتطبيق العيني، ويغطي حاجات التنظيم، أي تحكيم الشريعة المقننة في جزئيات الواقع وفروعه.

ولا يكفي ولا يفيد أن يجتهد الفقيه المطلع على الأحكام، العارف بأصول الشريعة، بل لا بد أن يشرك في اجتهاده رجل الاقتصاد الذي يحدد الأهداف،ويعرف بضرورات العصر، وصرامة المنافسة الاقتصادية في العالم، والأحجام،والآليات الأساسية المطلوبة للإنتاج، وحاجة الأمة للمال، ومصادر التمويل المتاحة، واضطرار الأمة للاقتراض من الخارج، وشروط توفير الأموال واستثمارها. ولا بد أن يشرك معه رجل الدعوة، إن لم تجتمع في الدعاة أنفسهم كفاءات الفقه وشروط الاجتهاد، ليذكره بأهداف العدل، وقسمة المال، ومحاربة الطبقية.”
ولا بد أن يشرك معه رجل الإدارة والحكم ليطلعه على الواقع، وعلى إمكانيات التطبيق، وفراغات التشريع التي يدخل منها التزوير، والخيانة، والسرقة، وعلى دروس التجربة، وتقنيات الصياغة، والتخصيص والضبط.
اجتهاد جماعي هادف، يأخذ بعين الاعتبار مقاصد الشريعة، وعلة التشريع الإلهي النبوي، وضرورات العصر وإمكانياته. والعجلة أثناء ذلك تدور بسرعة، والضرورات تلح من كل جانب. فهذا باب عظيم من جهاد التغيير.” [ref]المنهاج النبوي ص303[/ref]

ينظر المتخصصون في شكل الاجتهاد الجماعي ومجلسه أو مجالسه، وكيفيات مدارسته للقضايا المعروضة عليه، ومن يستحق العضوية فيه، ولكن لا تغيير حقيقي بدونه.

الحوار والاعتراف بالآخر:

لن يكون للتغيير المنتظر قرار ولا استقرار ما لم يمتلك منهجا لتدبير الاختلاف، وقواعد للحوار البناء المفضي إلى نتائج توافقية بانية، مواثيق مرضية لكل الأطراف في البلاد الإسلامية، وتعايش سلمي مع غير المسلمين في عالم صائر إلى حتمية الحوار من أجل التعايش. لقد جعل الإمام نظره لهذه المسألة أحد الأجوبة الأساسية لسؤال الممارسة العملية في التغيير: ما العمل؟ “وفي هذا الباب أتعرض إن شاء الله للخطوات العملية التطبيقية على مدرجة الإسلاميين لأتساءل مع المتسائلين: ما هو الحل الإسلامي، ولأنظر مع الناظرين فيما يجمع الإسلاميين مع سائر المسلمين والخلق أجمعين، وما يفرق ويَحْجُب عن الحوار؟ وما يجعله ضروريا، وما يلزَمُ من جهود لإقامة دولة القرآن دولة الشورى والعدل”.) [ref]العدل ص503[/ref]

يشمل الحوار وتدبير الاختلاف في اتجاه مصلحة الأمة والإنسانية مجالين حوار داخلي بين مكونات المجتمع المسلم الواحد أو بين مكونات الأمة الإسلامية من جهة، وبين المسلمين وغيرهم من جهة ثانية.

ولابد أيضا من الحوار بين الفصائل الإسلامية نفسها ولا نتصور الأمر ووحدة وتوحيدا ملزمين:“وفيما بين الفصائل الإسلامية، والتعدد في الاتجاهات والاجتهادات أمر واقع، قد يَستصعِب البعض أن يكون اختلاف وتعارض. ويسود لدى الإسلاميين في الجملة التصور الإجماعي التواق إلى وحدة لاَ يُسمَعُ فيها همسٌ مخالِف. وهو تصوُّرٌ تخلفي مما تركته قرون السكوت تحت طائلة السيف من بصمات في نفوسنا. فتحت السيف لا يكون إلا إجماع الموافقة إمّا «لعجز الطالب» كما يعبر ابن تيمية رحمه الله وإمّا لحفظ وحدة وهمية، وتحت الرماد الجمر المتقد.)ينبغي أن نقبل الواقع الطبيعيَّ بصدر رحب، واقعِ وجود الخلاف عند الإسلاميين، وأن نعالجه المعالجة البناءة، وأن نَفْسَح المجال للرأي والرأي المخالف. ويتوقف نجاحنا في الدعوة والدولة على قدرتنا وحكمتنا في تصريف الخلاف من خلال قنوات معارضة صادقة غير منافقة، صادعة بما عندها لا منطوية على الكمد.)في ظل دولة القرآن ينبغي أن ترتفع هامات الصدق وقول كلمة الحق لكل من أخلّ بمسؤوليته من راع في إمارته، وراعية في بيتها، وخادم ومخدوم، ومدبِّر عام، وعامل خاص. في عموم وجوب قول الحق ومعارضة الباطل نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم! فقد تُوُدِّعَ منها». رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.”) [ref]العدل ص 137[/ref]

تراث الإمام المجدد رحمه الله ثروة غنية بالقواعد والوسائل والأساليب التي تسهم في التغيير الإيجابي الشامل الفاعل في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ البشرية جميعا.
يتطلب هذا فرق بحث ومذاكرات حول مفراداته ومفاهيمه ومقترحاته لسبر أغوارها ودراسة أعماقها لعلها تنير الطريق وسط المدلهمات التي تمر منها الأمة الإسلامية اليوم وغدا.

ولا نملك في هذه البحث المتواضع إلا نورد بعض التوصيات الأساسية:
1- دراسة مفردات التغيير في تراث الإمام ودلالتها في نظرية المنهاج النبوي.
2- تتبع تطور مراحل اكتشاف المنهاج النبوي في التغيير من خلال تراثه وعلام استقر.
3- تعميق الدرس في التجربة الميدانية التي سلكها الإمام في بنائه للجماعة حاملة التغيير وثمار ذلك.
4- النظر في كيفية جعل الموضوع مجالا للدراسات التخصصية والمؤتمرات المعنية لتعميم الفائدة منه.
5- السعي إلى تحليل تاريخ الأمة الإسلامية من خلال نظرة الإمام وما استنبطه منها من دروس وقواعد.

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد