post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

التوبة والإصلاح 
تشتد الضغوط والأزمات على الأمة الإسلامية، شرقا وغربا، في عالم متحول تهيمن عليه قوى غربية مستكبرة، مستحوذة على الثروات، مستنزفة للطاقات والإمكانيات، جالبة بخيلها ورجلها على شعوب العالم المستضعف، بأنواع شتى من النهب والتخريب والقتل المادي والمعنوي. 
وفي العراق وسوريا وليبيا وكشمير وأفغانستان مثلات وعبر !
أمتنا الإسلامية تحتاج إلى من يشد أزرها، ويحرر طاقاتها، ويجمع قواها على أهداف وغايات موحدة، بدءا من تحرير الإنسان من قبضة الحضارة الاستهلاكية: أن يعرف الإنسان ربه، ويتوب إليه.  وهو أسمى حق من حقوق الإنسان !
ثم إقامة العدل بين الناس، وإنصاف المستضعفين، وصولا إلى تأسيس دولة قوية عازمة تحت راية القرآن.
فهل يكون إصلاح حقيقي لأحوال شعوبنا المسلمة، اليوم وغدا، دون ترسيخ معاني التوبة والإنابة والذكر والشكر؟ وهل ثمة صلة وثيقة بين التوبة والتغيير الشامل بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية؟
<h2>التوبة رجوع إلى الله:</h2>
قال الله تعالى: &#8220;فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ&#8221; (المائدة &#8211; الآية 39) وقال عز وجل: &#8220;إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا&#8221; (النساء &#8211; الآية 17) 
في القاموس المحيط: &#8221; تابَ إلى اللَّه تَوْباً وتَوْبَةً ومَتاباً وتابَةً وتَتْوِبَةً: رَجَعَ عن المَعْصيَة، وهو تائِبٌ وتَوَّابٌ. وتابَ الله عليه: وفَّقَه للتَّوبةِ، أو رجَعَ به من التَّشْدِيد إلى التَّخْفيفِ، أو رَجَعَ عليه بِفَضْلِهِ وقبوله، وهو تَوَّابٌ على عبادِه.&#8221; [ref]- الفيروز آبادي، القاموس المحيط.[/ref]
التوبة حركة باطنية وعمل قلبي موجه إلى كبح جماح النفس، وتقييد أهوائها، طلبا لرضى الله عز وجل وطمعا في مغفرته ورحمته وفضله. و&#8221;التوبة عندنا رحمة.  التوبة رجوع صادق إلى الحق. التوبة طهارة. التوبة وضوء وصلاة وقرآن وطاعات وأعمال صالحات.&#8221; [ref]- عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، 104.  [/ref]
إن للتوبة معنى متدرجا في درجات متفاوتة، و&#8221;إن رجوع الإنسان على نفسه يشد خناقها ويحاسبها ويردها عن غيها وماضي غفلتها وعصيانها لهو معركة قَلّ مَن يقودها إلى نهاياتها منفردا.&#8221; [ref]- عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، 322. [/ref]ولئن كان الإنسان في حاجة ماسة إلى مراجعة نفسه ومحاسبتها ومقاومة طغيانها، يوما بعد يوم، فإن ذلك الرجوع وهذه المراجعة المستمرة لهما مما يوطد عزم التائب على السير إلى الله تعالى، والتقرب إليه بالفرض والنفل.
في التوبة صلاح الإنسان، وهي سبب موجب لإصلاح أهله وأحوال أمته. التوبة تطهير للنفس، وترقية للمعاني الفطرية، وتصعيد للأشواق. و&#8221;تتفاوت مراتب التوبة في عمق الندم وحسرة الفؤاد وجدية العودة إلى الله، فتكون أعلاها مرتبة تلك التوبة التحولية الجذرية التي يسميها الشيخ عبد القادر «قلب دولة»، وتكون تحولات أخرى أقل جذرية وأضيق نطاقا. كذلك التوبة من الذنوب والمعاصي يتحتم الرجوع عنها والتطهر منها حسب فظاعتها وشناعتها وما تلحقه من أذى في الدنيا وخزي في الآخرة. فمن التائبين من لا يعلم مراتب الحلال والحرام وأن بعض الحرام أشد من بعض، ومنهم من يمسكه ورَعه عن المحرمات والمكروهات وخلاف الأوْلى، حتى إنه يَتوب إلى الله من غفلة ساعة أو نهار عن ذكر الله.&#8221; [ref]- تنوير المؤمنات، ج 1، 328.[/ref]  
<h2>التوبة والاتباع:</h2>
&#8220;إن التوبة أفضل من التمادي في الخطيئة، وكل ابن آدم خطاء، وأحب الخلق إلى الله التوابون، فلندع أنفسنا جميعا إلى التوبة النصوح من مؤامرة الصمت والمعايشة على الباطل، ولنزح عن كاهلنا مسؤولية وضع العراقيل في طريق من ينشد التوبة إلى الله، ومن يبحث عمن يساعده في إطار الجماعة. ألا إن يد الله مع الجماعة!&#8221;[ref]- مجلة الجماعة، ع 2، 100. [/ref]
يحب الله تعالى التوابين، ويحب المتطهرين. وفي هذه البيئة النقية يقوى المسلمون على الاستقامة والسير القاصد على محجة التطهير والتزكية والتقرب من رب العباد سبحانه. و&#8221;وصية الله تعالى للإنسان إن لم يجد الأب الحكيم، ولم ينشأ في المحضن الفطري السليم، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله. والإنابة درجة من درجات التوبة. &#8221; [ref]- عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، 118.   [/ref]
تحت رعاية الأبوين المسلمين المؤمنين، يحافظ الإنسان على فطرته وتوجهه إلى خالقه بالعبادة والشكر، لكن &#8220;إن غابت السلسلة الفطرية، سلسلة الأبوين، فاتبع خُطى &#8220;من&#8221; أناب. ابحث عن هذا &#8220;المن&#8221; لعل أنامِلَ روحانيته تمتد إلى قلبك بلمسات المحبة ونسمات الشوق إلى ربك والحنين إليه. ولعل التوبة واليقظة الروحية، وهي أعمال قلبية، تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد &#8220;الالتزام&#8221; الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت.&#8221;[ref]- عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، 119. [/ref]
<h2>التوابون هم المصلحون:</h2>
يكون العمل الجماعي في الأمة المسلمة إصلاحا قرآنيا نبويا إن جرى على نهج الأنبياء والمرسلين وأئمة الهدى، الذين نصحوا أقوامهم ودعوهم إلى التوبة والإقبال على الله تعالى. فهذا سيدنا موسى عليه السلام يخاطب بني إسرائيل ناصحا وموجها: &#8220;وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ&#8221; (البقرة &#8211; الآية 54)
وهذا سيدنا شعيب عليه السلام مثال آخر للنصح والدعوة إلى الهدى والخير: &#8220;وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ&#8221; (الأعراف &#8211; الآية 85)
فحقيقة الإصلاح هي ما يدعو إليه المنيبون والتوابون المتطهرون الذين يحبهم الله تعالى، وينصرهم، ويعينهم، ويسدد رميهم. فوجود هؤلاء ضروري في حركة الإصلاح والتغيير ضرورة الهواء والماء في حياة كل إنسان، وبدونهم يكون العمل بدون أساس متين، و&#8221;إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى&#8221;. كما أن &#8220;إعلان التوبة اعتزاز وقوة، لا يطيق السائرون مع القطيع الذليل الخاضع للأوضاع المنحطة أن يتحملوا مشهده وخبره. إعلان التوبة استقلال، وتحد للضغوط الاجتماعية، وانسلاخ من الوَلاء لغير الله ورسوله وقرآنه وشريعته.&#8221;[ref] &#8211; عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، 322-323. [/ref]
بالتوبة تتجدد روابط الولاية الجامعة، التي دعا إليها القرآن الكريم، وحثت عليها السنة الشريفة. وبها نرتفع إلى مرتبة المسئولية عن أنفسنا وعن العالم. فــــ&#8221;نحن الآن ننتمي لعالمية مقلدة، مثلنا الأعلى جاهلي، ودواعي التقليد في نفوسنا هي دواعي الإعجاب بالسيد المتفوق، ومظهر تقليدنا تبعية خانعة. والإسلام يرفعنا إلى عالمية المسؤولية عن أنفسنا ليربطنا نحن الأمة الممزقة بين القوميات رباط الولاية والمحبة، ثم يرفعنا إلى عالمية المسؤولية عن الأرض ومن عليها. فحركة التوبة إلى الله حركة تغيير تربوي رائدها التطلع لقيادة العالم عبر الجهاد للاستقلال عن الجاهلية استقلالا يوحدنا بعد ما فرقتنا فتنة التاريخ وقصرتنا في القوميات.&#8221; [ref]- عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، 609 – 610.  [/ref]

بناء الفرد والجماعة في نظرية المنهاج النبوي: السياق والخطوات

التزكية والدعوة

التوبة والإصلاح

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

شرف الإنسان

البذل: معناه وآثاره

عشرة أسباب لمنع ولوج كتب عبد السلام ياسين إلى المعرض الدولي للكتاب بالرباط

في حاجة الأمة الإسلامية إلى التربية والتزكية

الرسائل العشر في كلمة فضيلة الأمين العام الأستاذ محمد عبادي بمناسبة الاحتفاء بالذكرى الأربعين لتأسيس جماعة العدل والإحسان

بناء الفرد والجماعة في نظرية المنهاج النبوي: السياق والخطوات

مقالات ذات صلة