post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

الجمع والمجموع والانجماع |
مقدمة
من يطالع بعض ما كُتب في هداية الناس وترشيد العمل الإسلامي وتربية الشباب، ويتابع حيرة العلماء والدعاة والمثقفين في توجيه طاقات الأمة وتخليصها من مصائد الأنفس ومكائد الأغيار، ويقرأ تجارب الحركات الإصلاحية ومعاناتها في طريق الإصلاح، ينتبه إلى أن أخطاءً جسيمةً تقع في طريق الدعوة فتجعلها منحرفة أو مقطوعة أو ممنوعة، فقد تعاني اجتهادات الناس من خطأ الفصل بين أمر العدل وأمر الإحسان، وقد تتقلص في التحقق بمجموع أعمال شعب الإيمان، وقد تؤتى من جانب الصدق، فتقع في آفات الإقبال على الخلق والإعراض عن الحق.
  ومن يرجع إلى القرآن الكريم وإلى المنهاج الخالد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيتأكد من أنه لا خروج من هذه المعاناة ولا خلاص من ذاك الشتات ولا علاج لذلك الإعراض إلا بالجمع بين المتكاملات وتحقيق المجموع من شعب الإيمان وصدق الانجماع على الله. فهي ثلاث: جمع ومجموع وانجماع.
أولا: الجمع بين الضرورات
يعاني الفرد المسلم اليوم كما يعاني الفكر الإسلامي من صعوبة الجمع بين همَّين كبيرين؛ همُّ الذات وهمُّ الأمة، ما يعني الفرد وما يعني الجماعة المسلمة في دوائرها الثلاث (الدولة والأمة والإنسانية)، فيفشل غالبا في فهم التوازن المطلوب بين ما للفرد وعليه وما للأمة وعليها، في القيام بالواجب المركب.
من الناس من يميل به فهمه إلى الزهادة الفردية والابتعاد عن الشأن العام، متوجسا خيفة مما يأتي منه من مكاره، مفضلا إيلاء العناية لخويصة نفسه يزكيها، ومنهم من ينصرف به اجتهاده إلى الشأن السياسي يتوثب إلى تغيير الواقع السياسي وإصلاح الشأن العام، فيخوض المعارك صعودا ونزولا مع الخائضين، يحمل راية تغيير المنكر وإحقاق الحق، غافلا عن منكر نفسه ناسيا همه الذاتي. وعن هذين الفهمين تولدت مدارس واتجاهات، لها مراجع ونماذج، منها ما انزوى إلى حجر العافية متملصا من مسؤولية البيان والبلاغ، وآثر التزهد ونبذ الدنيا والانزواء والدروشة والخمول. فقضى هذا الفهم القضاءَ المبرم على فاعلية الناس -ومنهم الصالحون- وتأثيرهم في المجتمع، ومنها ما تحول بوعي أو بغير وعي إلى كائن سياسي نفض يديه من أي همٍّ تربوي أو عمل تزكوي، مكتفيا بمهارشة السياسيين وحسدهم على أرقام حصلوها ومقاعد اختطفوها وكراسي أُنعم عليهم بها.
ولا يزال الأمر كذلك، خطوة خطوة، ودركة دركة، حتى انتهى المنزوي بحركته إلى &#8220;فلكلور&#8221; وفي أحسن الأحوال إلى بركة موسمية، وانتهى المتوثب رغم صدقه مُطبعا مع الفساد والاستفساد، وانتهت فلسفته في إصلاح دنيا الناس إلى تزيين الواقع وتسويغه، ولا نهوض في الغالب بعد ذلك، بل خمود وقعود، لاقدر الله.
على خلاف هاتين النظرتين والمدرستين، ونقدا للتمزق الذي أصاب الأمة جراء اختلافهما خطَّ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، خطا اجتهاديا ثالثا، يربط فيه بين ضرورتين متكاملتين؛ ضرورة التزكية الفردية والجماعية، وما يتطلبه ذلك من فقه وتخطيط وعمل، وضرورة الاهتمام بالشأن السياسي وما يستوجبه ذلك من فهم وتنظيم وعمل. وبالجمع بين الضرورتين تقوم قائمة الأمة ويستقيم نظر العقل المسلم، حيث &#8220;ترتبط ضرورة الجهاد بضرورة التربية&#8221;[1].
وقد جعل رحمه الله كلمته الأخيرة نصحا للعاملين للإسلام إن هم قصدوا الفاعلية في التاريخ لا التفرج على هامشه، إن هم تمسكوا بمنهاج الجمع بين مطلبي العدل والإحسان &#8220;دون أن يكون بينهما تنافر، ودون أن يكون أحدهما عائقا للآخر&#8221;، حيث قال: &#8220;أما خاصة جند الله فكلمتي الأخيرة إليهم أن يربطوا مصيرهم الفردي المرجو عند الله عز وجل بمصير الأمة في الأرض&#8221;[2]، وقد صور أحيانا عمل المؤمنين بطير الطائر بجناحين متوازيين لا يغلب أحدها على الآخر ولا يعيق حركته.
حتى وهو يتحدث عن ذكر الله وعن أهميته يؤكد على الجمع بين الذكر في الخلوات والذكر في الجلوات، أي في الميادين العامة، حيث قال: &#8220;ذكر الله باللسان والقلب والاستغراق والاستهتار والمحافظة على الأوراد آناء الليل وأطراف النهار بناء على غير أساس إن لم يَصن ذلك الذكرَ الكثيرَ ذكرُ الله عند الأمر والنهي، ذكرُهُ عند حق كل ذي حق، ذكره في الدرهم والدينار، ذكره في الأمة التي تنتظر مجاهدين لإقامة دين الله في الأرض.&#8221;[3]
والسعي لتحقيق هذا الجمع في قلوب الناس وأذهانهم وسعيهم هو ما يسميه بــ&#8221;الجهاد السياسي التربوي البنائي&#8221;[4]، أي الجهاد الكلي.
ثانيا: &#8220;المجموع&#8221; من الشُّعب
المجموع هنا يفيد تحصيل فضائل العلم والعمل من جميع شعب الإيمان، على خطى الصحابة الذين تشربوا من صحبة رسول الله ﷺ والذين معه رضي الله عنهم الإيمان في مجموعه؛ توحيدا وجهادا وأخلاقا ومعاملة، حيث لا ينفصل النظر عن العمل، ولا القول عن الفعل، ولا التربية عن الجهاد، ولا المسجد عن البيت، ولا التبتل عن التسوق، قال رسول الله ﷺ: &#8220;الإيمان بضع وسبعون شعبة -وفي رواية البخاري: بضع وستون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان&#8221;[5].
وهذه الشعب هي مجموع الأعمال التي تثمر الإيمان، وأم الشُّعب هي الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله)، ومن صميم المجموع خدمة الناس بإماطة الأذى عنهم، كما منها تنقية الباطن من آثام الكبر والأنانية والعجب وحب التسيد والتسلط، وذلك بالتحقق بخُلق الحياء في شموله، والآيات والأحاديث كثيرة في الثناء على المؤمنين والمؤمنات على الذين آمنوا ولم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والمستضعفين في الأرض[6].
يقول رحمه الله: &#8220;شعب الإيمان كما فصلها رسول الله ﷺ وأكمنها إكمانا تربويا في عدد محصور أعمال تكيف منشأ الإيمان وتصريفه إلى حكمة. وتتضمن التزكية القلبية والفرض والنفل اللذين يقربان العبد إلى ربه فيحقق فردانيته داخل الجماعة. ولو لم يكن أمامنا نموذج بشري لحياة الإيمان لكان اجتهادنا في البحث عن شعب الإيمان عويصا بل محالا. وإن سنة رسول الله ﷺ وسيرته الطاهرة بين صحابته نقرأها فلا نجد وساطة فكرية ولا تعقيدا ولا اصطلاحات، بل نجد بساطة الدعوة وبساطة التصديق ويسر العمل. ومن هذه البساطة يتألف نموذج يبهرنا بمنجزاته وأخلاقيته وسمو مبادئه ومقاصده. نموذج مشخص في رجال ونساء بشر مثلنا&#8221;[7].
ولذلك يُتخذ المثال حيث المثال في اكتساب المجموع ببساطة الصادقين وصفاء فِطرهم وإقبالهم على العمل.
ثالثا: الانجماع على الله
من المؤمنين الصادقين من حصلوا حظا وافرا من شعب الإيمان، وهو عطاء من الله كثير. لكنهم لا يملكون زمام أنفسهم في حالات الانفعال فرحا أو غضبا، ولا يتحكمون في طباعهم الشخصية، من حيث لا يتنازلون عن رأي مثلا أو لا يقبلون مشورة أو يحقدون على المسلمين ويستقذرونهم، أو يريدون الظهور على الناس ويأنسون بالتصدر للمجالس&#8230;وغيرها من الآفات التي تلتصق بالنفوس وإن كانت مؤمنة ولا تكاد تفارقها، نعوذ بالله منها. ولذلك فقد يخذل &#8220;التدين&#8221; صاحبه إذا لم يتحكم في نفسه، و&#8221;كانت الصلة بالله عز وجل فاترة، والمطالب إليه حائرة!&#8221;[8]  ولهذا قال رحمه الله: &#8220;وكل مؤمن لا يملك نفسه ولا يضبطها لا يستحق عضوية الجماعة مهما كان مجموعه من الخصال العشر وشعب الإيمان جيدا&#8221;[9]. فما العمل؟
العمل هو انجماع القلب على الله، أو &#8220;جمعية القلب على الله&#8221;[10] بتعبير ابن القيم رحمه الله.
قال الإمام رحمه الله: &#8220;الانجماع على الله هو أن تكون لك قِبلةٌ واحدة، أن يكون لك مقصودٌ واحد هو وجه الله عز وجل، وأن تتلخصَ مقاصدُك وتنجمعَ في مقصد واحد وهو إرادة وجه الله. في القرآن الكريم وصيةٌ لرسول الله ﷺ، جاءتنا منزَّلةً من جناب النبوة، أوصاه الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(الكهف:28)، وصيةٌ إلهية أكَّدتها وشرحتها الوصية النبوية &#8220;المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل&#8221;[11]، وطبَّقها الصحابة رضي الله عنهم في قول بعضهم لبعض &#8220;تعال نؤمن ساعة&#8221;[12]. فإن استغْنَيتَ وأعرضتَ، وقنعتَ باطِّلاعك على الكتب وفهْمِك، وانفتحتْ لك أبواب العلوم والفهوم، وأصبحت دكتورا! فأنت وما اخترت لنفسك!&#8221;[13]
الانجماع هو الحرص الدائم المقيم على تجديد التوبة واليقظة القلبية والصدق مع الله، ليتحقق الانتساب إلى الله، وتحصل الحاجة مع الله، و&#8221;الانتساب إلى الله يبدأ بالتربية أولا وقبل كل شيء. والتربية أن يكون ليلُك ليلَ المؤمنين، وأن يكون نهارُك نهارَ المؤمنين، {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا}(المزمل:7) تسبح في عوالم السياسة وعوالم الجدل والحوار، وعوالم التعامل مع القريب والبعيد ومع العدوِّ والصديق، فإن لم تكن لك ساعات مع الله عز وجل لقيام الليل والبكاء عليه، وساعة لتلاوة القرآن للتدبر والاعتبار، فقد انْهَمكَ ليلُك في نهارك، وتشتَّت شمْلك، وتعذَّر عليك الانجماع على الله&#8230;في الحديث القدسي: &#8220;ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها ورِجلَه التي يمشي بها[14]. وكان يكفينا، لو صدقنا رسول الله ﷺ &#8220;فلينظر أحدكم من يخالل&#8221;. فلينظر! لام الأمر!&#8221;[15]، &#8220;متى انجمع همي وتوحد، ومتى أصبحت قضيتي مع ربي أم القضايا، عندئذ تأتي القضايا الأخرى في مرتبتها حيث تخدم الوسائلُ الغاية، وحيث يلتحق الفرع بالأصل، وحيث لا تغطي الشروط على المشروط.&#8221;[16].
خاتمة: جمع الجوامع وجمع الجماعة
جمع هذه الجوامع، جمعا وانجماعا ومجموعا، يقتضي مما يقتضيه &#8220;جمع الجماعة والحفاظ على وحدتها&#8221;[17] باللب الإحساني والعمل الميداني، بصدق التوابين وعمل المتقين مع الصادقين تربية وتوعية وتدافعا ومصابرة وبناء.
ولاستيعاب مقتضيات هذا الجمع والمجموع والانجماع تفيدك  مطالعة نص من النصوص المؤسسة للفهم الجامع في زماننا، وأقصد كتاب الإحسان، الذي يُعد مصدرا مُهما وملهما، إذ يشكل نصًّا مؤسسا للقول الاجتهادي في موضوع السلوك الجماعي الجامع، حيث يمكن نعته بـــ&#8221;النص الإمام&#8221;[18]. ورحم الله الأستاذ الإمام. وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
تطوان، 06 جمادى الثانية 1444ه، 30 دجنبر 2022م
[1] &#8211; عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 2018م، 2/490 [2] &#8211; المرجع نفسه، 2/522 [3] &#8211; المرجع نفسه، 1/257 [4] &#8211; المرجع نفسه، 2/488 [5] &#8211; أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، رقم: 9. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: 35 [6] &#8211; انظر: عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 2017م، 1/13 [7] &#8211; عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ص 15 [8] &#8211; عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، 2/214 [9] &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر، إستانبول، ط 5، 2022م، ص 108 [10] &#8211; ابن القيم، محمد بن أبي بكر. مدارج السالكين، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1973، 3/163 [11] &#8211; مسند الإمام أحمد، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، رقم 8417. [12] &#8211;  روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه، يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي ﷺ: &#8220;يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة&#8221;. [13] &#8211; رشيد حليم، أحاديث في العدل والإحسان، دار إقدام للطباعة والنشر، إستانبول، ط 1، 2021، ص 125 [14] &#8211; صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم 6502. [15] &#8211; أحاديث في العدل والإحسان، مرجع سابق، ص 127 [16] &#8211; تنوير المومنات، 1/7 [17] &#8211; المنهاج النبوي، ص 132 [18] &#8211; نبهان، كمال عرفان. عبقرية التأليف العربي: علاقات النصوص والاتصال العلمي، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط1، 1436هـ/2015م، ص 24

الجمع والمجموع والانجماع

ما العلاقة بين التزكية والنصر؟

شعراء في حضرة الحبيب ﷺ

الصلاة عماد الدين

الفرح برسول الله ﷺ

حريص عليكم..

الحبيب صلى الله عليه وسلم

التزكية والدعوة

الجمع والمجموع والانجماع

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

في الذكرى 50 لرسالة الإسلام أو الطوفان

الهجرة النبوية: الصُّحبة شرطها

عيد الأضحى: آداب ومقاصد

خطبة الــوداع

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

مقالات ذات صلة