مقدمة
يعرّف الحديث الموضوع بالخبر الذي يختلقه الكذابون وينسبونه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتراء عليه. وأكثر ما يكون هذا الاختلاق من تلقاء نفس الوضّاع، بألفاظ من صياغته وإسناد من نسج خياله.
ولقد عني أئمة الحديث بتنقية سنة رسول الله من الأخبار المكذوبة عنه صلى الله عليه وسلم، ومن دَرس سير أعلام السنة النبوية علم أن عنايتهم بحفظ الحديث الشريف وحراسته ونفي الباطل عنه، والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها، قال إسحاق بن إبراهيم: “أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً؟» وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)»[1].
في القواعد الكاشفة عن الحديث الموضوع:
عاش للموضوعات الجهابذة صيارفة الحديث النبوي حَقًّا، فوضعوا منهجًا علميًا دقيقًا، يعرفون من خلاله الرواية المكذوبة على المعصوم صلى الله عليه وسلم بتمييزهم الصحيح من السقيم والغث من السمين.
وقواعد هذا المنهج عديدة، أشهرها الخمس الآتية:
القاعدة الأولى: اعتراف الواضع نفسه، بوضعه الأحاديث، كما فعل أبو عصمة نوح بن أبي مريم، الملقب بنوح الجامع، فإنه أقر بوضعه على ابن عباس أحاديث في فضائل القرآن، وقد حكم أهل الحديث بكذبه أبي عصمة، قال فيه الإمام الحاكم: “لقدْ كانَ جامعاً كاسمهِ رُزِقَ كلَّ شيءٍ إلاَّ الصدقَ، نعوذُ باللهِ منَ الخذلانِ”[2].
القاعدة الثانية: أن يكون في المروي لحن في العبارة أو ركة في المعنى، فذلك مما يستحيل صدوره عن أفصح من نطق باللسان العربي صلى الله عليه وسلم، وهذه القاعدة يسهل إدراكها على المتمرسين بهذا الفن، فإن للحديث كَمَا قَالَ الربيع بن خُثَيْم ضوءاً كضوء النهار تعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره[3]. وقال ابن الجوزي: “الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب”[4].
ونقاد الحديث يولون عنايتهم ركة المعنى قبل ركة اللفظ، لأن فساد المعنى أوضح دليل على الوضع، قال الحافظ ابن حجر: “المدار في الركة على ركة المعنى، فحيثما وجدت دل على الوضع، وإن لم ينضم إليه ركة اللفظ؛ لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة.. أما ركاكة اللفظ فقط فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى، فغير ألفاظه بغير فصيح، ثم إن صرح بأنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكاذب”.[5]
القاعدة الثالثة: أن يكون المروي مخالفًا للعقل أو الحس والمشاهدة، غير قابل للتأويل، ومثال الخبر الموضوع المخالف للعقل “ما رواه ابن الجوزي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده مرفوعا: “إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا، وصلت عند المقام ركعتين”. قال ابن الجوزي إذا رأيت الحديث ينافي المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع”[6].
القاعدة الرابعة: أن يتضمن المروي وعيدا شديدا على أمر صغير، أو وعدا عظيما على أمر حقير، كالخلود في جنات تجري من تحتها الأنهار..، لإتيان مندوب أو ترك مكروه، أو الخلود في جهنم مع مقت الله وغضبه لاجتناب مندوب أو فعل مكروه. وكان القُصَّاصُ مولعين بوضع أخبار من هذا النوع يستميلون بها قلوب العوام إليهم.
القاعدة الخامسة: أن يستفاد الوضع من حال الراوي وبواعثه النفسية، ومن أمثلة ذلك، أنه قيل لمَأْمُون بن أَحْمد السّلمِيّ الهروي ـ من أهل هراة ـ وكان من المتعصبين لمذهب أبي حنيفة، ألا ترى إلى الإمام الشافعي ومن تابعه بخراسان؟ فقال فورا: حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا عبد الله بن معدان الأزدي عن أنس مرفوعا: “يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ورجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي”[7].
وفي تاريخ ابن عساكر قال زكريا الساجي: “بلغني أن أبا البختري دخل على الرشيد وهو يطير الحمام، فقال: هل تحفظ في هذا شيئا، قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطير الحمام، فقل هارون أخرج عني ثم قال لو أنه من قريش لعزلته”[8].
وأغرب من ذلك، ما أخرجه الحاكم عن سيف بن عمر التميمي، قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب فقال: ” مالك؟ ” قال: ” ضربني المعلم ” فقال: ” لأخزينهم اليوم، حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: «معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المسكين» ومثل حديث «الهريسة تشد الظهر» فإن واضعه محمد بن الحجاج النخعي، كان يبيع الهريسة[9].
حكم رواية الخبر الموضوع:
اتَّفق عُلماء الحديث على حرمة رواية الحديث الموضوع لمن علم بحاله، إلَّا من كان يُريدُ أن يُبيِّن ضعفه، عن سمرة بن جندب وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين”[10].
إن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعظم وأشنع الرذائل، فهو موجب للدخول إلى النار، لقوله عليه الصلاة والسلام: “.. فمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”[11]، وبناء عليه يحرم العمل بالخبر الموضوع؛ لما فيه من ابتداعٍ في الدِّين.
[1] ـ عبد الرحمن العتمي اليماني، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من أباطيل، دار النشر المكتب الإسلامي، الطبعة 2 السنة 1986م، 1/234
[2] ـ البقاعي، النكت الوفية بما في شرح الألفية، تحقيق ماهر ياسين الفحل، مكتبة الرشد ناشرون، الطبعة 1 السنة 2007م، 1/560
[3] ـ السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق أبو قتيبة الفاريابي، دار طيبة، دون طبعة وسنة، 1/325
[4] ـ نفس المصدر، 1/325
[5] ـ نفس المصدر، 1/325
[6] ـ الصنعاني، إسبال المطر على قصب السكر (نظم نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر)، تحقيق وتعليق عبد الحميد بن صالح بن قاسم آل أعوج سبر، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة 1 السنة 2006م، ص: 271
[7] ـ المناوي، اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر، تحقيق المرتضي الزين أحمد، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة 1 السنة 1999م، 2/41
[8] ـ الصنعاني، إسبال المطر على قصب السكر، ص: 273
[9] ـ السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، السنة 1982م،1/98
[10] ـ المنذري، مختصر صحيح مسلم، كتاب العلم، باب في كتبة القرآن والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 1863
[11] ـ المنذري، مختصر صحيح مسلم، كتاب العلم، باب في كتبة القرآن والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 1862
أضف تعليقك (0 )