من المواضيع الأكثر راهنية، والمتداولة بشكل كبير على ألسنة الراغبين في التغيير السلمي، موضوع الحوار الوطني والحوار المجتمعي. وهذا المقال لا يعدو تقريب الموضوع، وجمع وتلخيص أطرافه، وعرض لفيف من زبد الأفكار، وفصوص من الأقوال.
في مشروعية الحوار
ليس الحوار ابتداعا غربيا، اضطر الغرب إلى سلوكه بعد حروب دموية طاحنة، بل هو قديم قدم تواصل الإنسان، ومن المنظور الإسلامي، فهو مفهوم أصيل، قرآني ونبوي، يستمد شرعيته من:
– وروده في القرآن بصيغ متعددة، في أفعال حوارية (قال، قلنا، قالوا، قيل…)، وباللفظ نفسه “وهو يحاوره”.
– حوارات الأنبياء والرسل لأقوامهم، ومحاججتهم لهم بآداب وضوابط.
– سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم المسلك الحواري تبليغا وتعليما وتصحيحا وتشاورا مع المؤالف وتفاوضا مع المخالف.
– ورود ألفاظ في اللغة العربية مقاربة للفظة المحاورة مثل: المناظرة، المخاطبة، المجادلة، المحاججة، المناقشة، المطارحة، المساجلة، المعارضة، المناقضة، المداولة، المداخلة…
في أهمية الحوار
يكتسي الحوار أهمية بالغة، تتجلى في كونه:
– مسلك كل عاقل، ومفزع كل فاضل، ومنهج كل فرد يسيد قيم التواصل، وكل مؤسسة ترنو إلى النجاح والتألق.
– واجبا شرعيا، وضرورة سياسية، وعنوان نضج الفاعل السياسي والاجتماعي والمدني.
– انتقالا من التصامم إلى التسامع، ومن التصادم إلى التصادق.
– وسيلة التقرب والتقارب، وآلية التفهم والتفاهم.
– أداة بناء المجتمع، وسبيل تطويره والنهوض به.
دواعي الحوار المجتمعي
بانت في السنين الأخيرة بشكل ضاح أهمية الحوار المجتمعي، وحاجة الأمة المسلمة لركوب مركبه وخوض لجج بحره، وارتسمت في مخيال الشعوب وواقعها دواعيه والبواعث على نهجه بديلا عن العنف، لذلك يمكن اختزالها في سياقات ثلاث:
السياق الدولي: أهم عناوينه المعلنة هو دعم الغرب للاستبداد ومناهضته لحرية الشعوب، وتغذيته للصراعات وإذكاؤه للنعرات العرقية والطائفية، إلى جانب تنامي ظاهرة التطرف والغلو الديني، والإرهاب بكل ألوانه وتمظهراته.
السياق الإقليمي: يتلخص في التحولات الإقليمية في الوطن العربي، وما يعرفه من اقتتال داخلي، واصطفاف إيديولوجي وسياسي، وانقلاب على الشرعية الديمقراطية بمصر، وقمع شرس للمناهضين للاستبداد المناصرين للحرية…
السياق الوطني: أبرز مؤشراته الوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية بالمغرب (تراشق سياسي، تراجع حقوقي، احتجاج فئوي وقطاعي، احتقان اجتماعي، ارتفاع الميديونة الخارجية، ضعف القدرة الشرائية…)
هذه السياقات الثلاث متداخلة فيما بينها ومتشابكة، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، والفرقاء السياسيون والاجتماعيون والمدنيون شركاء في الوطن يعنيهم حاضره ومستقبله، ويجمعهم مصير مشترك يحتم عليهم التداعي للحوار المجتمعي والتنادي إليه، فأية أهداف ترجى منه؟
أهداف الحوار المجتمعي
يعد الحوار المجتمعي إنجازا تاريخيا كبيرا، خاصة إذا انخرط فيه الجميع، وشمل كل القضايا المجتمعية مرتبة وفق سلم الأولويات، فمن شأن إنجازه تأسيسا ومأسسة، وترسيخا وتعميما، تحقيق أهداف كبرى ذات أثر إيجابي على الفرد والمجتمع والدولة:
– إزالة الجفوة بين الفرقاء، وردم الفجوة بينهم.
– النقد المشترك للماضي، وتشخيص الحاضر، والإعداد المشترك للمستقبل.
– إحباط سياسة التفرقة التي يتقوى بها الاستبداد، إضعافا للفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين.
– تجنيب البلد معضلة المواجهة الداخلية، وحقن دماء أبنائه، فمن نقاط القوة نبذ العنف وتبني نهج السلمية في التغيير.
يمكن تسجيل ملاحظة وجيهة تتمثل في كون أغلب هذه الأهداف محل اتفاق ونقطة التقاء بين فضلاء الوطن وعقلائه، لكن تحققها – على نبلها وتأكد ثمارها- تحول دونه عقبات، وتقف دونه معيقات، فما أهم معيقات الحوار المجتمعي؟
معيقات الحوار المجتمعي وعقباته
ثمة عقبات نفسية وفكرية وموضوعية، تشكل مجتمعة – على ما بينها من تداخل- معيقات أمام نجاح الحوار المجتمعي.
– العقبات النفسية: قد تختلف من طرف لآخر، وقد يجتمع بعضها عند البعض، من ذلك مثلا: الأنانية، والتعصب للرأي، وكراهية المخالف، والاعتداد بالرصيد النضالي السابق، إلى جانب المصالح الشخصية والفئوية، والنعرات العرقية واللغوية…
– العقبات الفكرية: يدخل ضمنها اختلاف المرجعيات، والانتماءات الإيديولوجية، وسيادة منطق الإقصاء الفكري، والتنميط بسحب المواقف والأحكام المسبقة، وكيل التهم الجاهزة، يضاف إلى ذلك وبشكل أشد حضورا وأكثر تأثيرا اختلاف آفاق التغيير وأسقفه وأولوياته، وبالتبع قد يفضل البعض الانشغال بالمعارك الهامشية والخلافات الفرعية التي تنحط به عن إبصار آفاق التغيير المشترك.
– العقبات الموضوعية: يقصد بها العقبات التي تكتنف البيئة المجتمعية والسياسية، من انقسامات وانشقاقات، وتعددية سياسية ومدنية شكلية، واحتواء النخب وشراء الذمم، وإقصاء المعارضين، وإفشال الاستبداد فرص التواصل ومحاولات التقارب والتقريب بين الفرقاء (منع ندوات، جمعيات حقوقية، شخصيات فاعلة…)
إن حضور هذه العقبات في المجتمعات العربية، بما فيها المجتمع المغربي، ينبغي ألا يمنع الفرقاء من اللقاء على أرضية أو أرضيات مشتركة لمصلحة المجتمع. فعلى أية أرضية يتأسس الحوار المجتمعي؟ ما المنطلقات التي ينطلق منها الفرقاء السياسيون والاجتماعيون والثقافيون والمدنيون في حوارهم المجتمعي؟
أرضية الحوار المجتمعي
من الوجيه تقرير بدهية مفادها أن المنطلقات محددة لطبيعة النتائج، ومبوصلة للآفاق، لهذا يجمل بالفرقاء الالتقاء على أرضيات جامعة.
يرى الأستاذ عبد السلام ياسين أن أم الأرضيات الجامعة هي أرضية الإسلام الجامع لأطياف المجتمع، ليكون حوارا بعيد النظر واسع الأفق، يقول: “دعونا من الحوار السياسي الضيق الآفاق القصير النظر.دعونا منه لحظة، جلسة، مرة، حتى نعلم الأرضية التي نجلس عليها نحن وأنتم”[ref]حوار الماضي والمستقبل، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1997، ص 24.[/ref]، ويفصح عن أرضية الحوار قائلا: “الإسلام وشريعته وأرضيته وسماويته هو ما ندعوكم للجلوس إلى مائدته، لنتكلم، وليسمع بعضنا من بعض، لكيلا يستمر بعضنا لبعض قوة منع وقمع، وليكون بعضنا لبعض عضدا وساعدا في فعل الصالح النافع من شؤون البر والتقوى الذين أمرنا وإياكم في كتاب الله العزيز بالتعاون عليهما”[ref]الشورى والديمقراطية، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996، ص 340.[/ref]
إن الالتقاء على أرضية الإسلام الجامعة لا يلغي أرضيات كثيرة يلتقي عليها الفرقاء، منها تمثيلا لا حصرا:
– أرضية وحدة الوطن: فالشراكة في الوطن والمواطنة والغيرة على الوطن جامع يدعو الجميع إلى خدمته وبناء مؤسساته، وحمايته من أي مؤامرة اجتزاء أو اعتداء، لا مزايدة في ذلك لأحد على أحد ولا مفاخرة، يقول الأستاذ راشد الغنوشي: “ينبغي علينا إذن أن نقبل مبدأ المواطنة، وأن البلاد ليست ملكا لزيد أو لعمر أو لهذا الحزب أو ذاك، ولكنها ملك لكل مواطنيها”[ref]دولة المواطنة، راشد الغنوشي، “الدين والدولة في الأصول الإسلامية والاجتهاد المعاصر”، مجلة المستقبل العربي، عدد 406، دجنبر 2012، ص 22.[/ref]
– أرضية المروءة: فلا يعدم المجتمع أن يلتقي أبناؤه بُنَاتُه على أرضية المروءة بما هي خلق رفيع وفضيلة نبيلة ينتفع بخراجها المواطنون، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين – رحمه الله-: “على صعيد المروءات، لو كان مع المروءة نصيب من التدين، يكون لنا لقاء مع العقلاء الفضلاء، ويكون لنا تعاون على منع التظالم وحماية الضعيف“[ref]حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص 107.[/ref]
– أرضية حفظ كرامة المواطن من أي امتهان وإذلال، فهي مطلب جامع مشترك.
– أرضية نبذ الظلم والاستغلال ومناهضة الفساد والاستبداد لضمان الحرية وإقامة العدل، يُرجَحُ الأستاذ ياسين قائلا: “نتفق معكم على أن ديمقراطية نظيفة خير من استبداد وسخ”[ref]المرجع نفسه، ص 69.[/ref]
تلكم أهم الأرضيات التي يمكن الالتقاء عليها بين الفرقاء، والمنطلقات التي ينبغي الاتكاء عليها في التأسيس للحوار المجتمعي، وفي مباشرة الفعل الميداني المشترك، لكن الالتقاء على بساطها يتطلب شروطا للإنجاح. فما أهمها؟
شروط إنجاح الحوار المجتمعي
تعلو أصوات العقلاء في الوطن العربي منادية بفتح حوار وطني مجتمعي يسع الجميع دون إقصاء، ويشمل كل القضايا بدون استثناء؛ حوار سياسي، وفكري وثقافي وتعليمي، واجتماعي واقتصادي، وشبابي، ونسائي، ومدني…، يتداعى له الخبراء كل في مجال تخصصه.
إن المطمح الأساس للحوار والركن الركين الضامن للاستقرار هو سعي الجميع بتفان وإخلاص نحو بناء الائتلاف في المشترك، وتدبير الاختلاف في المختلف، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحقق شروط أبرز عناوينها:
– تثمين المبادرات الجادة لتعزيز فرص التواصل والتلاقي وطنيا ومحليا بين الهيئات والجمعيات والشبيبات والنقابات…
– الاقتناع بكون تعدد الرؤى والمناهج والمشاريع عامل بناء وإغناء، لا داعي إقصاء وازدراء، ما دام يؤسس لتنوع الاختلاف والتعاضد لا تنوع التنافر والتضاد، يقول محمد عابد الجابري – رحمه الله-: “يجب فسح المجال لحرية التفكير، لحرية المغايرة والاختلاف”[ref]العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته، محمد عابد الجابري، المركز الثقافي العربي، ط 2، 1991، ص 374.[/ref]
– البحث عن المشترك لتحديد القواسم المشتركة، والجوامع الجامعة.
– تحديد مجالات الاختلاف، وضبط حدوده وآليات تدبيره، تسلحا بالعلم بقضايا الخلاف، وبمراتبها ومدارجها من حيث إكراه الزمن وأولوية الحاجة المجتمعية، قصد “البناء العلمي للمجتمع التعددي لتجاوز الأزمات بدل التركيز على العامل الخارجي”[ref]ربيع الشعوب العربية وأصول تدبير المرحلة، محماد بن محمد رفيع، مجلة منار الهدى، الكتاب الأول: الربيع العربي وأسئلة المرحلة، مطبعة جودة، ط 1، 2012، ص 43.[/ref] والتحول من منطق التعارض إلى منطق البناء المشترك غير الملغي للاختلافات، والمرسخ لقيم التنافس الشريف خدمة للصالح العام.
– التعاون في مساحة المشترك لتحقيق الروح الجماعية، يقول طه عبد الرحمن بلغته الأخاذة: “الذي يغلق باب الحوار أو يخل بأدبه يميت في نفسه روح العقلانية النافعة…ومن يميت هذه الروح يقطع الأوردة التي تحمل إليه هذه المعرفة الممتحنة، فيحرم نفسه من إمكان تصحيح وتوسيع مداركه، فيضيق نطاق عقله ويتسع نطاق هواه (…) وليس هذا فحسب، بل إنه يميت في نفسه وفي غيره روح الجماعة الصالحة (…) ومن يميت هذه الروح يسد المسالك التي تنقل إليه العمل المشترك، فيحرم نفسه، من تقويم أفعاله وتهذيب أخلاقه، فتقوى دواعي الاستئثار في نفسه وتضعف دواعي التعاون فيها”[ref]حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن، منشورات الزمن، عدد 13، أبريل 2000، ص 6-7.[/ref]
– التحلي بآداب الحوار من صدق وإخلاص ومحبة لتكسير الحواجز النفسية، واعتراف متبادل واحترام وإنصاف، وبُعد عن التجريح وثلب الأعراض والتشكيك في النيات لبناء علاقات سليمة.
– إشراك حقيقي للشعب في النقاش والحوار المجتمعي بكل أنواعه، وفي كل أطواره ومراحله، وفي اتخاذ القرارات، وصياغة الميثاق.
خاتمة
يشكل ما سبق عرضه مهادا لعرض ثلاثة آفاق كبرى متشابكة للحوار المجتمعي:
– إيجاد اصطفاف مجتمعي بما هو عامل استقرار هام في بناء عملية سياسية واضحة، تحقق الإصلاح السياسي والإقلاع التنموي.
– تحقيق معادلة الحرية في إطار الاستقرار.
– درء مفسدة الاقتتال الداخلي، وجلب مصلحة السلم الاجتماعي.
أضف تعليقك (0 )