post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2>مقدمة: </h2>
المؤمن الكيس هو الذي يسمع أو يقرأ كلام الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم أنه المقصود بالخطاب، فيتفاعل بقلب يقظ مع أوامره ونواهيه وبشارته ونذارته. يرجو أسمى ما هنالك من درجات العبودية، أن يكون من الذين يختصهم الله بعنايته ويصطفيهم ويحبهم. وقد كان هذا دأب الصالحين وهمهم، وكان العلم الذي يحرصون على تعلمه والعمل به هو ذاك الذي يفتح لهم طريق محبة الله عز وجل ومحبوبيته.
عن ابنِ الأَحْمَسِ أنَّه قال: بلَغَني أنَّ أبا ذَرٍّ رضِيَ اللهُ عنه يقولُ: ثلاثةٌ يُحبُّهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وثلاثةٌ يَشنَؤُهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ قال: فلقِيتُهُ، فقُلْتُ: يا أبا ذَرٍّ، ما حديثُ بلَغَني عنكَ تُحدِّثُ به عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أحببْتُ أنْ أَسمعَهُ منكَ؟ قال: ما هو؟ قُلْتُ: ثلاثةٌ يُحبُّهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وثلاثةٌ يَشنَؤُهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ قال أبو ذَرٍّ: قُلْتُهُ وسمِعْتُهُ. قال: قُلْتُ: مَنِ الذينَ يُحبُّهمُ اللهُ؟ قال: رجُلٌ لقِيَ فِئةً أو سَرِيَّةً فانكَشَفَ أصحابُهُ فلقِيَهم بنفْسِهِ ونَحرِهِ حتَّى قُتِلَ أو فتَحَ اللهُ عزَّ وجلَّ، ورجُلٌ كان مع قومٍ، فأطالوا السُّرى حتَّى أَعجَبهم أنْ يَمَسُّوا الأرضَ فنزَلوا، فتَنحَّى، فصلَّى حتَّى أيقَظَ أصحابَهُ للرحيلِ، ورجُلٌ كان له جارُ سُوءٍ، فصبَرَ على أذاهُ حتَّى يُفرِّقَ بيْنَهما موتٌ أو ظَعْنٌ. قال: قُلْتُ: هؤلاءِ الذينَ يُحبُّهمُ اللهُ، فمَنِ الذينَ يَشنَؤُهم؟ قال: التَّاجرُ الحلَّافُ أوِ البائعُ الحلَّافُ -شكَّ الجُرَيريُّ- والبخيلُ المنَّانُ، والفقيرُ المُختال&#8221;.[1]
في هذه السلسلة من المقالات نتتبع إن شاء الله عز وجل، آيات كتابه وحديث رسوله ﷺ، نقتفي أثر من يحبهم الله ونستقصي أوصافهم وأخلاقهم، عسى تسعف بركة ذكرهم، وتنسم أحوالهم لِلِّحاق بركبهم، فضلا من الله ونعمة.
<h2>الطهارة والمتطهرون:</h2>
جعل الحق سبحانه هداية الخلق في الوحي، وأنزل وحيه في شهر رمضان، شهر الطهارة والطهر، وعلى أطهر القلوب، قلب سيدنا محمد ﷺ، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 175].
ولا يحصل الاهتداء الذي هو مضمون رسالة الأنبياء والرسل، إلا بالطهارة والتطهر جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى التوحيد، قال تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ (4) وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ (5)﴾ [المدثر: 1-5]، وينصرف الأمر بتطهير الثياب صراحة إلى تطهير ما يلبسه الإنسان كما يدل على الأمر بتطهير ذات اللابس كنايةً، كما في قول عنترة:
&#8221; فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ &#8221; كناية عن طعنه بالرمح، وينصرف أيضا إلى حاله كما في قول السري الرفاء :
لم تَنْضُ أثوابَ الصِّيامِ مُودِّعاً **حتى كَساكَ الفِطْرَ ثَوبَ ثَوابِ
ويجتمع الرجز الذي أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمرنا معه بهجره مع الرجس في معنى القذارة، وليست الأوثان وكل ما يعبد من دون الله والتي يدل عليها الرجز إلا أقبح صور قذارة الروح وتلوثها. جمع سبحانه وتعالى جنبا إلى جنب في سياق واحد بين ملوثات الروح والجسم، اعتقادا وأقوالا وأفعالا، قال عز من قائل: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وقال تعالى: ﴿يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90].
  وكما أن الصحبة الصالحة مظنة للصلاح فكذلك تعتبر الصحبة الفاسدة مظنة للتهلكة، فمن أراد التطهر فعليه بمفارقة أهل القذارة والابتعاد عنهم، قال عز وجل: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: 95]، ومعنى كونهم رجساً: «أن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية، فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى، خوفاً من سريانها إلى الإنسان، وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال».[2]
فنظافة الظاهر والباطن ونقاؤهما هو مضمون الهداية وهدفها ومغزاها، قال تعالى يصف آل البيت المطهرين الذين هم قدوة العالمين: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]، أي يزيل عنكم الذنوب ويخلع عليكم خلع الكرامة. وفيه استقباح وتنفير عن كل ما من شأنه أن يلطخ باطن المؤمن ويدنسه بشتى أنواع المعاصي والآثام، والترغيب في تحليته بأسباب الطهارة الكامنة في أنواع الطاعات والقربات.
الله عز وجل هو الطاهر المُطَهِّر سبحانه، قضت مشيئته وإرادته أن يطهر عباده المؤمنين: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، أنزل أسباب الطهارة وشرع لنا وسائلها، أنزل عز وجل القرآن وهو مادة الطهارة المعنوية هدى ورحمة للناس وشفاء، وأنزل الماء وهو مادة الطهارة الحسية ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وأرسل رسله بالشرائع المطهرة ظاهرا وباطنا، ظاهرا بالماء والنية والكيفيات التي علمناها رسول الله ﷺ، وباطنا بالأعمال التي تُؤَثِّر في النفس وتطهرها بالتزكية، قال الإمام المجدد: «لكن النظافة لا تكتسب القيمة الروحية إلا بالنية وطاعة الشرع في الكيفيات والترتيب. بالنية والاتباع يصبح الغسل عملية تقديسية تطهيرية ذات مغزى روحي. ويصبح الوضوء نورا يتخلل الجسم من الأعضاء الخارجية إلى العضو النفسي القلبي»[3]. عن أبي هُرَيْرَةَ في الحديث الذي رفعه: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبت الْكَبَائِر»[4].
<h2>الطهارة والنظافة:</h2>
ما حث الشرع الحنيف على شيء كما حث على النظافة وورد الأثر على أن النظافة من الإيمان، حيث روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله طيِّب يحب الطَّيِّب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظِّفوا أفنيتكم، ولا تشبّهوا باليهود»[5]، وكذلك قول الرسول ﷺ: «الطهور شطر الإيمان»[6]، وقوله ﷺ: «طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا وبات معه ملك في شعاره.»[7] .
وقد شدد الإمام المجدد في كل مكتوباته ودروسه على أهمية النظافة واعتبارها ركنا في سلوك مدارج الإيمان، قال رحمه الله تعالى: «طهارة الظاهر تزكية للجسم ليقف أمام الله عز وجل وقفة المصلي المتلقي فيض الإيمان. فهي تطهير الوعاء من ظاهره، لذلك كانت نصف الإيمان. والنصف الآخر تطهير الوعاء من داخله، وهو القلب، بذكر الله، والصلاة، والصدقة، والصبر، وسائر القربات ولا طهارة ترجى للقلب دون الطهارة الشرعية من الخبث والحدث بشرائطها»[8]
وما يزال العبد يتطهر ويتحرى الطهارة حتى يكتب عند الله من المطهرين والمتطهرين الذين أخبرنا في كتابه العزيز أنه يحبهم: «طهارة هُو المسؤول عن تعهدها في أحواله، يحبه الله إن تطهر، ثم تطهر، ثم تطهر. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾. توَّاب صيغة مبالغة. وتطهر صيغة استقصاء وتتبع. في آية أخرى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين﴾. اطَّهَّر صيغة اجتهاد وتكرار»[9].
يغنم الكيس نفحات هذا الشهر الفضيل ويعمر نهاره وليله في صحبة الذكر الحكيم وهو مادة الطهر ومعينها، قال الإمام المجدد: «أطهر أهل القرآن قلبا أقربهم لله. لا يمسه إلا المطهرون، وهم الملائكة ومن دخل في حكمهم بتطهره الظاهر والباطن حتى أزالت ملائكيته دوابيته، ومحت نورانيته ظلمته، وأذهب الله عنه الرجس وقربه وأحبه وجعله من خاصته.»[10] .
علينا أن نتعلم ونعلم الناس فقه الطهارة وفقه الصلاة وسائر العبادات، فلا دين لمن لا يهتم بجزئيات الطهارة اهتمامه بكليات الدين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطُّهور. وتحريمها التكبير. وتحليلها التسليم»[11]. ونركز على علاقة الطهارة والوضوء بالمستقبل الإسلامي ومدى ارتباط عبودية الطهارة والوضوء والصلاة بأهداف إقامة العدل والاستخلاف:
 » المؤمن الفرد والمجتمع الإسلامي المتجدد ينبغي أن تشيع فيه معاني الطهر والنظافة ظاهرا وباطنا. فالنظافة في العاديات طهارة يثاب عليها إن كانت النية إماطة الأذى عن المسلمين»[12].
كما أن: «الغاية العُظمى الـمُثلى من فرض الفروض ومنع المحرمات هي تطهير الأمة لتكون في العالمين شاهدة بالحق، وأعلى من هذه الغاية وأبقى تطهير المؤمن والمؤمنة طهارة تصقل كيانه الروحي ليصلُح للسعادة الأبدية»[13].
&nbsp;
[1]  الطحاوي، كتاب شرح مشكل الآثار، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1994، ج7، ص213 [2]   الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، سورة التوبة، ص 124 [3]  عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، دار لبنان، ط2، 2018، ص 35. [4]  رواه مسلم الحديث رقم 233 والترمذي الحديث رقم 214 [5]  رواه الترمذي في سننه، ص 626 برقم 2799 [6]  رواه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم 223 [7]  رواه الطبراني، وقال الهيثمي: أرجو أنه حسن الإسناد. وقال الألباني: إسناده حسن، انظر السلسلة الصحيحة حديث رقم 2539، [8]  عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، دار لبنان، ط5، 2018، ص 275 [9]  عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، دار لبنان ط4، 2018، ج1، ص 286 [10]  عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان، ط3، 2018، ج 1ص 279 [11]  أخرجه أبو داود (رقم: 61)، والترمذي (رقم: 3)، وابن ماجه (رقم: 275)، وأحمد (رقم: 1006) عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [12]  عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الشركة العربية للنشر والتوزيع -القاهرة، ط2 1988، ص 275 [13]  عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، دار لبنان ط4، 2018، ج1، ص 286

التزكية والدعوة

الذين يحبهم الله -1- المتطهرون

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

حريص عليكم..

من أجل قراءة مستقيمة لموقع الخصال العشر في المنهاج النبوي

مركزية الجماعة في التجديد النبوي

الذين يحبهم الله -2- التوابون

الذين يحبهم الله -1- المتطهرون

حروب الغرب وراهنية الميثاق الإسلامي

مقالات ذات صلة