post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

أحوج ما تتوق إليه أمةٌ أضناها التمزّق والاستبداد هو إقامة العدل بوصفه ركيزةً قرآنيةً ووعداً نبوياً يعيد إليها الحياة، ويمنح المستضعفين أملاً يتجاوز حدود الشعارات السياسية المؤقتة. بهذا الإيمان العميق يستهلّ الإمام عبد السلام ياسين كتابه «العدل: الإسلاميون والحكم&nbsp;«، موجّهاً رسائل صارخةً إلى كلّ من يريد فهم الطريق إلى النهضة الإسلامية الشاملة. يقرّر في مقدّمة الكتاب أنّ العدل ليس بنداً إضافياً أو مطلباً يمكن التفاوض حوله، بل هو قلب المشروع الإسلامي وغاية الأحكام الشرعية وحجر الزاوية في البناء المجتمعي. يقول الإمام: «يتصدر مطلب العدل كل المطالب في البرامج السياسية الجادّة. والعدل الذي أمر الله به -إقامته والتهيئة لقيامه- أهمّ ما تتطلع إليه الأمة»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn1">[1]</a>.



يمتاز هذا الكتاب، منذ صفحاته الأولى، بوضوحٍ منهجيٍّ وقصدٍ تربويٍّ، فيرى المؤلف أنّ المسلمين اليوم قد باتوا يقفون على أعتاب تحوّلٍ تاريخيٍّ يقتضي منهم الجمع الحازم بين البناء النفسيّ والأخلاقيّ وبين توحيد الصفوف لمواجهة التحديات المعاصرة. وليس غريباً أن يشير إلى الواقع الراهن للأمّة بعباراتٍ تكشف حجم الضعف المستشري، إذ يقول: «جسم الأمة مريض، ونفوس المسلمين وعقولهم مريضة، لَمّا بُثّتْ في كياناتهم الحسيّة والمعنوية جراثيم التغَرُّب»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn2">[2]</a>. من هنا يدرك القارئ أنّ إقامة العدل عند الإمام عبد السلام ياسين ليست سوى ثمرةٍ من ثمار مشروعٍ تربويٍّ حضاريٍّ شاملٍ، يجمع ما بين إصلاح المجتمع ورسم المعالم الكبرى للحكم الرشيد.



<h1 class="wp-block-heading">العدل شرط الحياة&nbsp;</h1>



ينطلق الكتاب من نظرةٍ قرآنيةٍ للعدل، حيث يأبى الإسلام أن يُحصر في محافل السياسة الضيقة أو يُجتزأ في مبادئ قانونيةٍ برّاقةٍ. فالعدل في الإسلام -بحسب المؤلف- إنما هو ثمرةٌ مباشرةٌ للإيمان بالله تعالى وللعلم القطعيّ بأنّ «الظُّلم ظُلمَاتٌ يَومَ القِيامَة». وعلى هذا الأساس يُعرّف الإمام عبد السلام ياسين العدل بأنّه «الشرط الذي لا غنى عنه لقيام حياةٍ طاهرةٍ فاعلة»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn3">[3]</a>. ويتجلّى هذا المفهوم الفاعل حين يُنزَّل على مختلف ميادين الحياة: من العدل السياسيّ الذي يمنع الاستبداد، إلى العدل الاجتماعيّ الذي يحمي حقوق المستضعفين، وصولاً إلى العدل الأخلاقيّ الذي يزكّي النفوس ويعصمها من الانحراف.



يتوسّع الإمام عبد السلام ياسين في بيان ارتباط إقامة العدل بالتوكّل على الله عز وجل، والتزام التقوى في الحكم والمعاملات، معتبراً أنّه لا ينهض بالعدل إلا من أخذ من معين الوحي الصافي ما يكفيه ليصمد أمام الفتن والشهوات. وفي الآن ذاته يدعو القارئ إلى عدم الاكتفاء برفع الشعارات، بل يطالبه بالسعي الجادّ لتفعيل مبادئ الشورى والحرية المسؤولة.



<h1 class="wp-block-heading">ربقة التخلف وأغلال التبعية</h1>



يشير الكتاب بوضوحٍ إلى خطورة الوضع الذي آلت إليه ديار المسلمين تحت وطأة الاستعمار والتغريب، وما تبعهما من هيمنة قوى خارجية على ثروات الأمّة ومفاصل قرارها. يشخّص المؤلف مواطن الوهن، معتبراً أنّ الأمة إنما وقعت تحت سياط العجز من جرّاء افتقادها لأسس الثقة في دينها، وانقطاع جسور الارتباط بوحي الله عز وجل، وزيادةٍ في تحكّم أنظمةٍ جبريةٍ يرعاها الطغيان الدوليّ. يقول في وصف هذه الحالة: «&nbsp;وها نحن أمةَ الإسلام نعيش كابوسَ العولمة وهي هيمنة جاهلية في ميادين&nbsp;الاقتصاد والمال والأعمال والثقافة والسياسة والمصير التاريخي السائرة به«جاهلية ما بعد القرن العشرين» مسارا خطيرا يقتضي من المسلمين التبصر&nbsp;بحاضرهم ومستقبلهم على ضوء ما أوحى الله عز وجل رب الناس ملك الناس&nbsp;إله الناس من الهدَى ودين الحق إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.&nbsp;غزتنا الحدَاثة الجاهلية ولفّتنا بأرديتها، فنحن في حياة رثة هامشية حول مائدة&nbsp;الحداثة الجاهلية الصائلة»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn4">[4]</a>.



وإذا كانت قضايا العولمة والإعلام الطاغي والتبعية الاقتصادية تمثّل تحدّياتٍ هائلةً، فإنّ الإمام عبد السلام ياسين يشدّد أيضاً على أنّ الاستبداد الداخليّ وتفرّق الكلمة قد أتاحا للقوى المهيمنة أن ترسّخ مفاهيمها المادية وتبسط سطوتها بلا مقاومةٍ جادّة. لذا، لا يرى الكاتب سبيلاً إلى الخلاص إلا بمشروعٍ تحرّريٍّ تربويٍّ يتوجّه في الأساس إلى إيقاظ الإنسان المسلم من غفلته، ويحمله على بذل روحه ووقته في خوض معركة البناء المتكامل للأمة.



<h1 class="wp-block-heading">الوعد الرباني</h1>



على مدار الكتاب، يتعرّض الإمام عبد السلام ياسين لمعادلة «الدعوة والدولة»: كيف تتأسّس الدولة الإسلامية على قواعد قويمةٍ من التربية الإيمانية والأخلاقية، ومن التخطيط الاقتصاديّ والاجتماعيّ المحكم. يستشهد بالحديث النبويّ الشريف الذي أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بسندهالصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: «تَكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ.»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn5">[5]</a>، ليؤكّد أنّ العودة إلى الحكم الراشد ليست مجرّد أمنيةٍ شخصيةٍ أو حُلُماً رومانسياً، بل وعدٌ ربانيٌّ يشترط قيام جيلٍ مؤمنٍ مجاهدٍ يجمع بين عمق التربية وصرامة التنظيم.



في هذا السياق، لا يتوانى المؤلف عن تذكير قرّائه بأنّ «المنهاج النبوي» أوسع من أن يُختزل في برامج انتخابيةٍ أو تنظيراتٍ أكاديميةٍ جافّة. إنّه منهاجٌ ينطلق من التوحيد الخالص، يعلّم أبناء الأمّة الصبر والعمل، ويغرس فيهم كره الظلم والفساد، ويذكّرهم بالآخرة. ويشدّد في غير موضعٍ على ضرورة الرفق في معاملة المخالفين داخلياً وخارجياً، إن التزموا الحدّ الأدنى من العدل ولم يجاهروا بعداء الدين، داعياً إلى «توبةٍ جماعيةٍ» تنقل المجتمعات من واقع العداوة والأثرة إلى فضاء التعاون على البر والتقوى.



<h1 class="wp-block-heading">فهل إلى خروج من سبيل؟</h1>



في ضوء تحليلٍ معمّقٍ للمتغيرات الدولية، يرى الإمام عبد السلام ياسين أنّ رياح العولمة قد أطبقت على الأمة من كلّ جانب، فتتحكّم في مصائر الشعوب عبر الاقتصاد والإعلام والتقنيات الحديثة، وتنشر ثقافة الاستهلاك والربح الماديّ الصرف. يشير إلى أنّ المقاومة لا تكون بانغلاقٍ على الذات أو بعنفٍ منفلتٍ، بل بالتمسّك بمنظومةٍ قيميةٍ صلبةٍ ترفض الظلم وتستثمر ما في العصر من علومٍ وتقنياتٍ لإعادة بناء قوّة الأمة. يقول: «يبحث هذا الكتاب عن الوسيلة لاكتساب جُند الله القائمين بالقسط في&nbsp;هذا العصر وما بعده القدرةَ والفهمَ لإقامة حكم إسلامي قاعدته العدل وجمالهالإحسان. حكم يؤسس نظاما اقتصاديا سياسيا أخلاقيا إيمانيا متجددا بتجدد&nbsp;إيمان المسلمين، فاعلا ناجعا في إقامة صرح الإسلام من ركام الخراب الديني&nbsp;والمادي والنفسي الذي يُعانيه المسلمون من جراء هزيمتهم التاريخية أمام الغزو&nbsp;الجاهلي الشامل الذي تتمثل صيغته الحالية في حقائق العولمة»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn6">[6]</a>.



إنّ الإمام عبد السلام ياسين لا يقترح قطع الجسور مع العالم أو نبذ التفاعل مع منجزاته، بل يدعو إلى الانخراط الواعي في الاقتصاد المعاصر والبحث العلمي المتطوّر، شريطة ألا يكون ذلك على حساب الأصالة الإسلامية والعدالة الاجتماعية. فمشروع «العدل» الذي يدافع عنه المؤلف يحمل في طيّاته قضية الإنسان عامةً، ويرنو إلى تحريره من كابوس الاستضعاف والتفرّق والأنانية الكبرى.



<h1 class="wp-block-heading">الشورى أساس الحكم</h1>



يتناول الكتاب بالتفصيل شروط الحكم الإسلامي وسماته، وفي مقدّمتها الشورى والبيعة الشرعية ورعاية حقوق الإنسان. وفي مواجهة دعاوى شائعةٍ تخلط بين الاستبداد والإسلام، يؤكّد الإمام عبد السلام ياسين أنّ «الطاعة واجبةٌ لأولي الأمر منا بناءً على بيعةٍ تُلزم الحاكم والمحكوم بأمر الله ورسوله، شرطاها الشورى في الاختيار والحكم بما أنزل الله»<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_edn7">[7]</a>. لا مكان في التصوّر الإسلاميّ لحاكمٍ مستبدٍّ يورّث السلطة أو يتسلّط بالقوة، فتلك بقايا أزمنةٍ عطّلت المبادئ القرآنية.



ويختم هذا المحور بتذكيرٍ بأنّ السعي للحكم من دون إعدادٍ جماعيٍّ وتزكيةٍ روحانيةٍ إنما هو «قصرٌ على كثيبٍ رخوٍ»، سرعان ما ينهار إذا طرأت الأهواء وتجاذبت المصالح. ولذا يغرس المؤلف في نفس القارئ قناعةً بأنّ السياسة الإسلامية ليست مجرّد برامج إدارية، بل هي سلوكيةٌ، أخلاقيةٌ، تربويةٌ، يَظهر أثرُها في وجدان الفرد قبل أن تتبلور في المؤسسات والقوانين.



<h1 class="wp-block-heading">ميلاد جديد</h1>



يخلص الإمام عبد السلام ياسين في كتابه «العدل: الإسلاميون والحكم» إلى أنّ مصير الأمة معقودٌ على استجابتها لنداءٍ ثنائيّ الأضلاع: العودة الصادقة إلى الله والعمل الجادّ لاستعادة قوّتها وتمتين وحدتها. ففي هذه الاستجابة وحدها تُبعث الأمة حيّةً، ويخرج المستضعفون من دوائر الهمّ واليأس إلى أفقٍ رحبٍ من الكرامة والسيادة الأخلاقية.



إنّ الوعود الربانية التي تنبض في آيات القرآن وأحاديث النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تخيب إذا قامت جماعةٌ من المؤمنين بما عليهم من جهادٍ وإعدادٍ وعزيمة. لذلك يُذكّرنا المؤلف، بلهجة العالم المسؤول، بأنّ «العدل» متى قام ازدهر المجتمع كلّه، وعاد للأمة وهجها الروحيّ والعمليّ، وانفسح أمام الإنسانية طريق العافية من مختلف ضروب الظلم والفرقة.



وبهذا يعود الكتاب قاطبةً إلى إشعارنا بأنّ المرجوّ ليس مذهباً سياسياً ضيقاً، بل مشروعٌ يربط الأرض بالسماء، ويستمدّ من الوحي مقاصد يُفعّلها المسلمون في واقعهم، حتى يغدو الدين قوّة تغييرٍ شاملة. إنّه نداءٌ شاسعُ المدى يجمع وعدَ الله مع همّة الإنسان، ويسلك بالمؤمنين إلى «خلافةٍ على منهاج النبوة» يكون فيها العدل قبلة السياسة، والإحسان نبض الوجدان.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref1">[1]</a>. عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط: 3، 2018، ص: 5.



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref2">[2]</a>. المصدر نفسه، ص: 7.



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref3">[3]</a>. المصدر نفسه، ص: 5 وما بعدها (بتصرف)



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref4">[4]</a>. المصدر نفسه، ص: 7.



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref5">[5]</a>. أخرجه الإمام أحمد، رقم: 18406



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref6">[6]</a>&nbsp;.&nbsp;المصدر نفسه، ص: 7.



<a href="applewebdata://45372A38-A387-4F45-B8A4-E393F2D5BA56#_ednref7">[7]</a>. المصدر نفسه، ص: 110.

العدل أساس البناء

رسالة الإسلام أو الطوفان

السياسة والحكم

العدل أساس البناء

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

العدل أساس البناء

مقالات ذات صلة