ها هو الإنسان في دار مُتسعة الأرجاء بَرا وبحرا، كثير الأرزاق، وها هو مُنَعَّمٌ بحواسه وكمال جسمه وصحته، وها هو تُبْعَثُ إليه الرسل، وها هو تخبره الرسل أنه مدعُوٌّ لدار النعيم المقيم في الجنة، لكنه موحول في الدنيا، مُعلَّق بها بواسطة غرائزه، مفتون فيها بتربيته، بأسرته، بمجتمعه، بمكانته في هذا المجتمع، بأفكاره، بغرائزه، بطموحه الدنيوي، بما يقع عليه من ظلم، بما يظلم هو الناس. وحقُّ الإنسان في التحرر من كل هذا الذي يصرفه عن ربه، يلهيه عن مصيره إليه في دار البقاء، هو مَجْمَعُ حقوقه في الإسلام ومدارُها.
أمحايدون نحنُ في معركة حقوق الإنسان أم مُتَلَقُّونَ أم معنا رسالة؟ ومن أين لنا بمصداقية لنقول كلمتنا ونحن في قفص الاتهام؟ الإسلاميون إرهابيون قبل كل مناقشة! والشـريعة الإسلامية همجية صرفة! هذا حكم أعدائنا حين يصنعون لأنفسهم من أوهامهم ومن أخطاء بعضنا «دولة شر» يَنْصِبونها غرضا تاريخيا لسهام كراهيتهم المتأصلة. وما ينبغي أن نتصدى للموضوع بنفسية المتهم، همُّه […]
ننظر في آخر الديباجة، فنقرأ نداء «ليبذل كل الأفراد وكل المنظمات الاجتماعية المستوحية لهذا الإعلان جهودهم في التعليم والتربية، لينموا احترام هذه الحقوق والحريات، وليُؤَمنوا الاعتراف بها، وتطبيقها العالمي والفعلي بإجراءات تدريجية على الصعيد القومي والدولي، سواء وسط شعوب الدول العضوة نفسها أو وسط الشعوب التي تحت سيطرتها».
أحوج ما تتوق إليه أمةٌ أضناها التمزّق والاستبداد هو إقامة العدل بوصفه ركيزةً قرآنيةً ووعداً نبوياً يعيد إليها الحياة، ويمنح المستضعفين أملاً يتجاوز حدود الشعارات السياسية المؤقتة. بهذا الإيمان العميق يستهلّ الإمام عبد السلام ياسين كتابه «العدل: الإسلاميون والحكم «، موجّهاً رسائل صارخةً إلى كلّ من يريد فهم الطريق إلى النهضة الإسلامية الشاملة. يقرّر في مقدّمة الكتاب أنّ العدل ليس بنداً إضافياً أو مطلباً يمكن التفاوض حوله، بل هو قلب المشروع الإسلامي وغاية الأحكام الشرعية وحجر الزاوية في البناء المجتمعي.
من أنظمة الإسلام الخالدة نظام أسرى الحرب. العبد والأمة، الفتى والفتاة، تعابير قرآنية تُعرف الأسير والأسيرة تارة باسم العبودية المذلة وتارة باسم الفتوة التي ترفع من شأنهما. وفي الحديث النبوي سمي الفتى والفتاة من الأسرى في أيدينا إخوانا وخولا، وأمرنا الشرع بأن نطعمهم مما نطعم ونكسوهم مما نكتسي ونرفق بهم. عبدٌ وأمةٌ أذلهما كُفرهما وحربهما للمسلمين، ثم يدخلان تحت كنف أسرة ليكتشفا فيها رفق الإسلام وإحسان المسلمين، فتستيقظ فيهما الفتوة والشهامة، فيرجى عندئذ أن تكون معاملتنا الأخوية لهما مدعاة أن يدخلا في الأخوة الدينية،
جهِل أولئك الوحي ومصدرَه ومعناه فقلبوا الحقائق. وعَلِم كلَّ ذلك، معاناة تاريخية، وتشربا قلبيا، واقتناعا عقليا، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمسوا ما وقع في حياتهم من تغيير ونسبوا الأثر إلى مصدره. عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أن العرب ما عزوا إلا بالإسلام فقال قولته المشهورة : “إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام. فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله” قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. عاش هو جاهلية العرب، قاسا منها،
كلمة «الاحتقلال» التي عَنْوَنَّا بها هذه الفقرة هي من صياغة البطلِ الريفي المجاهدِ محمد بن عبد الكريم الخطابي. كلمةٌ مركبة تركيباً مزْجيّاً من «الاحتلال» و«الاستقلال». فهي بتركيبتِها وغرابَتها تدل على شك الخطابي في حقيقة ما حصَّل عليه المغاربة المفاوضون في إكس لبان، وتَدلُّ على إنكار الخطابي لاستحواذ الحزب الوحيد -الفارضِ وحدانيتَه بالعنف الذي قرأناهُ-، وعنفه.
الآخرة تنظم الدنيا. ومن يكدر آخرته لعاجل دنياه فنصيبه الخسران، وإن كان يظن أن ما يخوض فيه من متاع الدنيا قسمة له مقسومة.
والاستقامة في الدنيا تنظم الآخرة. فإن من لا يأوي إلى ركن أمين، ولا يجد من بدنه عافية تمكنه من الكسب، ولا يترك له هم القوت اليومي فسحة لتدبير عاقبته بعد الموت لفي كبد، يذهله تدبير دنياه المضطربة عن تدبير آخرته.
أنت متخلف بالنسبة لمن تقدمك. فالتخلف صفة اعتبارية يتصف بها أحد طرفي المقارنة. وتطلق الكلمة في عصرنا على الشعوب والدول غير المصنعة إذا قورنت بالدول والشعوب التي سبقت إلى التصنيع. التخلف والتقدم مقياس وضعه الغربيون، فيعرفون أنفسهم بأنهم المتقدمون ومن سار على شاكلتهم، وكأنهم ركب الإنسانية الممثلون لها، لا حضارة إلا حضارتهم، ولا نجاة إلا في اقتباس نموذجهم وتقليده، والسير على آثارهم.
الغرب يعتبر نفسَه الجوهرَ ونحنُ الفضولَ. وحياة الغربي الذي لا يرجو لقاء الله أعز ما عنده. فهو حريص على الحياة، أي حياة. وذلك من مواطن ضعفه. علَّمته فتنام بعد حروب التحرير الوطني أن المستضعفـين يقاتلون بشجاعة. تنشر التلفزيون صور الجرحى والموتى من الشعوب الملونَة ومن أطفال الحجارة فيعتاد الجمهور الغربيُّ. لكن يصيبه الهلَع لمشهد جثة رجل أبيض. فتقوم المظاهرات في نيويورك وواشنطون أنْ احبسُوا المجزرة.
يتخلص لنا من كل هذا وجوب إقامة ميزان العدل والقسط بين الأغنياء والفقراء، والأقارب والأباعد، بلا حلف، ولا هوى نفس، ولا رغبة انتقام. وسواء في وجوب ذلك العدل القضائي المتمثل في أداء الشهادة أمام القاضي، والقسط في القسمة. وفي الآيتين الكريمتين إسناد القيام لله عز وجل في قوله: ﴿قَوَّامِينَ لِلهِ﴾ وإسناد الشهادة له سبحانه في قوله: ﴿شُهَدَاء لِله﴾.
فساد الفرد وفساد المجتمع ينشآن عن طغيان الأنانية الفردية وجشعها. ومن وراء الفلسفة اللبرالية والإديولوجية الاشتراكية -وهما يعالجان المشكل الاقتصادي في غياب تام عن عقدة العقد وهي الجشع الفردي– تستقر المباءة النفسية التي تنبثق عنها الأمراض الاجتماعية الاقتصادية السياسية، من ظلم، واحتكار، ولمّ، وتكاثر، وتفاخر، واستغلال، وتبذير، وطبقية، واستعباد للإنسان بجعله قنا للمالكين، وعبدا للآلة، وعجلة في ناعورة الإنتاج، وعنصرا مكملا لآلية الاستهلاك.
جاءت الرسالة لتُذكر الـمَلِك بمسؤوليته أمام ربِّه وأمام شَعبه، وتنصحه بإبعاد بِطانة السُّوء عن التسلط على رقاب الأمة، وإرجاع أمانة الحكم إلى موضعها الشرعي، وإصلاح الإدارة، فالنداءات الحماسية الموسمية، وادعاء القوة الحربية وزعم المجد من فراغ، شبيه في جعجعته بثرثرة أنصاف المثقفين وأحلام القيادة الجماعية عند بعضهم، فلا تكفي لإنجاز إقلاعٍ صادق يُخرج الأمة من وهدتها، ما لم تُشرك القيادة القادرة بحدسها وروحانيتها وحكمتها المجتمعَ بقُواه الحية في عملية تحوُّلٍ حقيقية تلامس جوهر الحياة السياسية والاقتصادية،
ربما سألت عن حسن نية يأيها النظير الخلقي. فإليك في المكان الثاني قصدُنا بعد اهتمامنا بتنوير الطريق أمام أنفسنا. لكن تمام الاستماع إلينا يقتضي أن تنصِت كيف نطرح نحن الأسئلة. فربما فاتك إن لم تبذل الجُهدَ الأول في تحويل الموجة الفهمُ عنا والحوار الضـروري معنا، ضرورةً نحُسها ونسارع إليها كما تحس أنت وإن بقيت تتلكأ في ريبتك وانشطارك وحيرتك بين صلاة تخشع فيها لربك وبين نضالية تنسى فيها دين الله لتنخرط بدمك وعصبك وعقلك وعضلك في مَهْيَع السياسية الحزبية اللاييكية في أحسن أحوالها.
لا نستطيع طي المسافات، ولا مقاومة الضغط السيطري للقيم الحضارية الغربية العاوية الهاوية، إلا بتربية إيمانية تستهدف أجيالا راجعة إلى فطرتها. تربية تخلصنا من عقدة الدونية أمام العقل المعاشي المخترع الذي يزعم بمنطق «علمي» أن الإنسان استثناء في هذا الكون. إن كان كل ما في الكون له معنى ومنفعة فالإنسان وحدهُ على رأس الخليقة آلة للذة ومُرَكب للمتعة، لا معنى له ولا منفعة وراء ذلك.
ميثاق الله والميثاق القانوني الدولي نقيضان في انطلاقتهما وأهدافهما. نقيضان في مقوماتهما وبواعثهما ووسائلهما. فشريعة الله وميثاقه وفاء بالعبودية له سبحانه، من استقام عليها وعدل وأحسن كانت له ضمانا لمصلحة الدنيا والآخرة. وقوانين المعاش البشرية ودساتير الدول الديمقراطية والمواثيق والعهود الدولية شرائع عمادها القوة لا التقوى. فهي شرائع وقوانين تضمن المصالح الدنيوية للأقوى. والآلة والحرية مقومان للقوة الاقتصادية الاجتماعية السياسية. للآلة جماع الصناعة والعلوم ولوازم ذلك من تمويل وتنظيم. والحرية ديمقراطية في الحكم ومبادرة حرة. لهم غُنْم ذلك وعلينا الغُرْم.