
لا أتحدث عن الحال التي آلت إليها المجتمعات الإسلامية وهي في أطوار التفكك الأسري، والعمران الصناعي المفتِّت للجوار، وانصباغ الأخلاق بصبغة النماذج الغازية. أتحدث عن مثال، وعن مطلب تحققه تربية مجدِّدة. أتحدث عن نظام مجتمعي مبني على دعائمَ أخلاقية إيمانية. دعائمَ لا تستقر على أرضية التظالم والبغي. وهنا يعود مطلبنا الشوري ليلتقي في شطر مهم مع المطلب الديمقراطي.
كانت مطالبُ السياسة التعليمية تُسْمَعُ من خصميْن. أحدهُما وِجْهتُه الفرنكوفونية المنفتحة وحْدَها على العالم وعلى المستقبل. وثانيهما له طموحٌ قومي وعلى كاهله ميراثٌ وطنيٌّ ومسؤوليةٌ وطنية، فهو يتمناها منذ الاستقلال عربيةً تُعَمِّمُ التعليم، وتمحو الأمية، وتسلِّحُ العقولَ بالمعارف الضرورية العصرية. وهو يريدها مِنحةً من الدولة خالصةً مَجانية.
لو كان ذلك الانكسار في فجر تاريخنا خبرا مضى وقبر لما كانت بنا حاجة لنبشه. اضطرمت نار الفتـنة وبقيت مشتعلة قرونا طويلة، لا تخبو إلا بمقدار ما تستعيد قابليتها للاشتعال. واليوم ينهض المسلمون في فجر تاريخ جديد، وفي كيانهم، ثقافة وذكرى ومذهبا، آثار ذلكم الضرام. فهل يُنسينا بأسُ الجاهلية علينا اليومَ ما كان بينـنا من بأس؟ وهل تعود الأمة فتلتحم على وَهَجِ الجهاد الحاضر والمستقبل كما تصدعت في نار الفتـنة؟ نرجو من الله عز وجل ذلك.
مما فتحه العزيز العليم عليهم من فنون الابتلاء في هذا الطور التاريخي تسارُع الأحداثِ وجريانها بما لم يكن في حُسبان الحاسبين. فبعد نهاية القرن الرابع عشر الذي عرف الغزو الاستعماري، وعرف حربين كونيين، وعرف استقرار العالم على ازدواج المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وعرف بزوغ الصحوة الإسلامية، وعرف حركات التحرر الوطني، ها هو القرن الخامس عشـر يدُق طبولَ النصـر على رأس الرأسمالية المنتصرة في موكب أحداث تحمل بشائر تغيُّرٍ حثيث واسع هي في آخر المطاف بشائر النصر للإسلام. إن شاء الله العلي العظيم.
من الحريات العامة التي تنبني عليها الديمقراطية حرية التعبير. من شِنْشِنَةِ الحكم الظالم المغتصب المستبد أن يكم الأفواه ويمنع كلمة الناس من الرواج. فالفكرة واحدة، والاجتهاد واحد. على فكرة القائد الملهم الوارث الخالد يجتمع الناس، من أراد من الناس، ولأُمِّ الممتنع الهَبَلُ!
على الفكرة الواحدة الوحيدة المحتكرة للذكاء والبصيرة تتوحد جهود الصنائع الطامعين في المزيد من النَّوالِ والمزيد من السلطة والنفوذ. يُضطر النبهاء من النخبة المتعلمة أن ينضوُوا تحت لواء الفكرة الوحيدة، وأن يتظاهروا بالانخداع للإعلام الوحيد، عسى يجدون لمؤهلاتهم مَصْرِفاً، ولحياتهم منفعة.
ها هو الإنسان في دار مُتسعة الأرجاء بَرا وبحرا، كثير الأرزاق، وها هو مُنَعَّمٌ بحواسه وكمال جسمه وصحته، وها هو تُبْعَثُ إليه الرسل، وها هو تخبره الرسل أنه مدعُوٌّ لدار النعيم المقيم في الجنة، لكنه موحول في الدنيا، مُعلَّق بها بواسطة غرائزه، مفتون فيها بتربيته، بأسرته، بمجتمعه، بمكانته في هذا المجتمع، بأفكاره، بغرائزه، بطموحه الدنيوي، بما يقع عليه من ظلم، بما يظلم هو الناس. وحقُّ الإنسان في التحرر من كل هذا الذي يصرفه عن ربه، يلهيه عن مصيره إليه في دار البقاء، هو مَجْمَعُ حقوقه في الإسلام ومدارُها.
أنت متخلف بالنسبة لمن تقدمك. فالتخلف صفة اعتبارية يتصف بها أحد طرفي المقارنة. وتطلق الكلمة في عصرنا على الشعوب والدول غير المصنعة إذا قورنت بالدول والشعوب التي سبقت إلى التصنيع. التخلف والتقدم مقياس وضعه الغربيون، فيعرفون أنفسهم بأنهم المتقدمون ومن سار على شاكلتهم، وكأنهم ركب الإنسانية الممثلون لها، لا حضارة إلا حضارتهم، ولا نجاة إلا في اقتباس نموذجهم وتقليده، والسير على آثارهم.
الحضارة الغربية اليوم تعرت نهائيا عن كل قيمة غير القيم المادية المنفعية المحسوبة عدا ونقدا أو استثمارا وانتظارا. المادية هي دين الديمقراطيات الغربية النصرانية اسما كما هي دين الاشتراكيات الشيوعية الملحدة مبدأ. دينها جميعا القوة العسكرية، والتوازن الاستراتيجي، والمصالح الاقتصادية، والتسابق إلى المراكز ذات الأهمية الجغرافية السياسية. وفي داخل تلك المجتمعات يتجه الإنسان إلى التمتع الدوابي، إلى الزنا واللواط اللذين أصبحا أمرا عاديا، بل نشاطا يحميه القانون، إلى الجريمة والمخدرات، إلى “الفن”، وكل ما تعطيه الكلمة من صور الهروب من الواقع، حتى إذا استنفد الإنسان كل ما جاءته به الحضارة المادية من أمن في المعاش ومن فرص اللذة، غدا ينتحر بجنون، ينتحر لينسى فراغه، لينسى هذا النعيم الدوابي الذي تضج منه الفطرة البشرية.
تَنادِي الديمقراطيين إلى تخليق الديمقراطية طلبٌ لمستحيل في بلاد المسلمين. فالديمقراطية الأصيلة في بلادها هي عندها مُستورَدٌ هجين. والقانونية الحقوقية الديمقراطية في بلادها رادع قوي لوجود مروءاتٍ فردية، ووعي سياسي، وأياد نظيفة في صفوف القضاء. هذه القانونية، والذهنية المصاحبة لها، وتشبث الفرد بمصالحه، ووعي الناس بحقوقهم، وتكتل الناس للدفاع عن حقوقهم القانونية الديمقراطية، هي عندنا حُلْمٌ لا يتحقق في نظام الصنائع والزبائن والرشوة وسائر الأوبئة.
أما المسلمون فلهم في الأرض رسالة يبلغونها، من صميمها نظام الحكم الذي أنزله الله في الكتاب العربي المبين. الشورى نظام الحكم المطلوب المرغوب. وأحيلُ السائِلَ عَمَّا يجمع ويفرق الشوى والديمقراطية إلى كتاب «الشورى والديمقراطية»، فالنقاش في الموضوع طويل عريض.
الآخرة تنظم الدنيا. ومن يكدر آخرته لعاجل دنياه فنصيبه الخسران، وإن كان يظن أن ما يخوض فيه من متاع الدنيا قسمة له مقسومة.
والاستقامة في الدنيا تنظم الآخرة. فإن من لا يأوي إلى ركن أمين، ولا يجد من بدنه عافية تمكنه من الكسب، ولا يترك له هم القوت اليومي فسحة لتدبير عاقبته بعد الموت لفي كبد، يذهله تدبير دنياه المضطربة عن تدبير آخرته.
ربما سألت عن حسن نية يأيها النظير الخلقي. فإليك في المكان الثاني قصدُنا بعد اهتمامنا بتنوير الطريق أمام أنفسنا. لكن تمام الاستماع إلينا يقتضي أن تنصِت كيف نطرح نحن الأسئلة. فربما فاتك إن لم تبذل الجُهدَ الأول في تحويل الموجة الفهمُ عنا والحوار الضـروري معنا، ضرورةً نحُسها ونسارع إليها كما تحس أنت وإن بقيت تتلكأ في ريبتك وانشطارك وحيرتك بين صلاة تخشع فيها لربك وبين نضالية تنسى فيها دين الله لتنخرط بدمك وعصبك وعقلك وعضلك في مَهْيَع السياسية الحزبية اللاييكية في أحسن أحوالها.
كان المستضعفون، على عهد التقابل والتضاد بين الشيوعية والرأسمالية، يجدون مُتنفسا بين العملاقين. أمريكا كانت تدعم الطواغيت فتجد الشعوب المقهورة سلاحا ونصيرا استراتيجيا عند الدولة العظمى التقدمية السوفياتية. أما اليوم فالوِفاق بين شرق الجاهلية وغربها وحَّدَ السياسة بما لا يُبْقي متنفسا للمستضعفين.
فحين يبحث المؤمنون عن المنهاج النبوي الذي ربى به رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا قرآنيا من المحسنين لإعادة الشخصية الجهادية إلى قيادة الأمة ولإعادة القيم الإيمانية الإحسانية إلى مكانتها في سلوك الأمة، يسعى الآخرون لتجريد الأمة من تلك القيم ولعزل الشخصية الإيمانية من تقدير المسلمين. في نظر الملاحدة والتابعين للفكر الوضعي يتمثل التخلف كله في جهة هي جهة الإيمان بالله وباليوم الآخر، ويتمثل التقدم كله في جهة الكفر بالغيب، وفي مقدمة الغيب وجود الله. في قاموس هؤلاء لا معنى لعبارة “نصر الله” أو “التوكل على الله” إلا الهروب من الواقع وصدماته وحقائقه والارتماء في أحضان الغيبية الخرافية.
فساد الفرد وفساد المجتمع ينشآن عن طغيان الأنانية الفردية وجشعها. ومن وراء الفلسفة اللبرالية والإديولوجية الاشتراكية -وهما يعالجان المشكل الاقتصادي في غياب تام عن عقدة العقد وهي الجشع الفردي– تستقر المباءة النفسية التي تنبثق عنها الأمراض الاجتماعية الاقتصادية السياسية، من ظلم، واحتكار، ولمّ، وتكاثر، وتفاخر، واستغلال، وتبذير، وطبقية، واستعباد للإنسان بجعله قنا للمالكين، وعبدا للآلة، وعجلة في ناعورة الإنتاج، وعنصرا مكملا لآلية الاستهلاك.
كثير من محتملات المستقبل رهن بصلابتنا واستقرارنا. فليس التاريخ مسرحا، وليس المسلمون الصاحون المجاهدون نظَّارة على الهامش. وليس في القانونية الدولية التي يستند إليها العالَم اليوم ليُبْقِي النفطَ في أيد سخية بأموال المسلمين وكنزهم التاريخيِّ الثمين ما يمنع الشعوب الإسلامية من زلزلة الأنظمة الفاسدة المقفلة. بتماسك الإرادة الإسلامية الوحدوية، وبمشروعها الواضح في مبادئه وأهدافه و«شرفه الدولي» يمكننا أن نتصدى للتحدي الداخلي. أيدي التكتلات الدولية، الحالية والمستقبلية، تمكنت من التكنولوجيا، بل تمكنت منها التكنولوجيا، فهي القائد الأعمى لحضارة عمياء. وهي هي طِلبَتُنا نحن العاطلين عن العلوم والصناعات.