post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

أصيل أن يكون عملنا بنَّاء، وجميل أن نبني ما يغري الآخر، فيشتري أو يكتري أو يزور أو يمتع بصره فيما يراه، لكن يبقى السؤال مشروعا: كيف البناء؟ كيف البناء حتى يكون الأساس محكما، ويكون ما نبنيه نموذجا ناجحا صالحا وراجحا، قابلا للاستمرار ولتعميم تجربته لا من باب أن نملي نموذجه على الآخرين، وإنما من باب إعجاب الآخر بما بنيناه ورغبته في أن يتبناه أو يجد فيه مرفأه ومأواه. 
وكما رأينا أن البناء في اللغة يتيح لنا واسعا من فهم الكلمة في أبعادها المترامية وممكناتها الفهمية اللامتناهية، فإن البناء العمراني الحسي شأنه إن تعاملنا معه بمنهجية استنباطية مجهرية أن يتيح لنا ما أتاحه البناء اللغوي، ذلك أن لغة القرآن ولَّادة وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [ref]سورة الذاريات، الآية 20[/ref] ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ref]سورة فصلت، الآية 53[/ref] ، وهل الكون إلا كتاب مفتوح على ذي البصر والبصيرة ليستمد منه ما شاء من الدروس والعبر والقيم والحكم. 
البناء الحسي العمراني يستند أساسا إلى تجزئة إن أردت البناء فيها والانخراط في مشروع تعميرها لزمك ترخيص من الجهة المسؤولة، ولا بد من أن تعرض تجزئتك الخاصة على مهندس يمكنك من تصميم، لتبدأ مرحلة أخرى تتجاوز ما هو إداري إلى ما هو عملي ميداني، أموال ورجال وأعمال ووقت وصبر لإدارة كل هذه المعطيات والإمكانات والمؤهلات في سبيل إنجاز تنقية للأرض التي سيقوم عليها هذا البناء، بدءا بحفر الأساس ثم إنشاء الطوابق والمرافق وما يعقب ذلك من تجهيز فتزيين، دون أن نغفل أن هذا البناء ينتمي إلى حي سكني تضبطه ضوابط إدارية واجتماعية ومادية، وتبقى لصاحب البناء الصلاحية في توظيف هذا البناء وحسن استغلاله واستخدامه فيما يعود على الذات بالنفع ويعود على الآخرين، وأيضا لا ينبغي أن نقصي من دائرة اهتمامنا أن هذا البناء المنتمي إلى هذا الحي بتلك الضوابط والممكنات التوظيفية المتاحة لا ينسلخ عن واقع اجتماعي واقتصادي وإداري عام يحكم المدينة المحتضنة والدولة المسؤولة والمساءلة. التجزئة يمكن أن نميز فيها بين بناء خاص لمترفين كالقصور والفيلات، وبناء خاص أيضا من طابقين أو ثلاثة لمؤمنين ومحسنين يبقى همهم فرديا لا يتجاوز الخلاص الذاتي، ومن بناء شامخ تؤطره خصائص الأصالة والشمولية والتوازن. ولا بد من ترخيص، قطعا لا ينبغي أن يكون البناء عشوائيا تؤطره السرية، وينفتح على العنف والطرق الملتوية المكتسبة لترخيص موقوت أو ممقوت من جهات مراقبة غير أمينة أو مسؤولة فوق المراقبة والمساءلة، وأيضا لا ينبغي القناعة ولا الرضا ولا الاستدراج إلى ترخيص إداري مشروط ومسقوف ومظروف، وإنما مرادنا الترخيص الرباني النبوي الراعي والمسؤول والمراعي لأنه مساءل، فهل هي دعوة فردية عشوائية يحكمها الاستعجال والارتجال والابتذال؟ أو دعوة ترخص لها الدولة بشروطها التحجيرية التي تفرض على الباني لبنائه سقفا محدودا، وحجما معينا، ووظائف مسموح بها في ظل الدستور الممنوح، والقوانين المجحفة التي تسنها الدولة الوصية بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية والإدارية المراقبة والضاغطة؟ أم هي دعوة بانية على أرض نقية صلبة وبسقف هو السماء وحيطان هي حدود الأرض المعمورة؟ دعوة بإذن الله حرة مستقلة قوية وأمينة على تحقيق مشروع الخلافة في الأرض والعمران الأخوي الذي لا يستثني أحدا إلا من استثنى نفسه من شرعة الله ومنهاج رسول الله والحكمة الإنسانية المحينة لتنزيل الشرعة والمنهاج على أرض الواقع. 
أما المهندس فهو القيادة الربانية المؤتمنة على أن يكون هذا البناء على أساس من تقوى الله، وعلى أن يكون سماوي الأفق كوني الحدود، قيادة ربانية تحيل عليها هذه الصفات النبوية التطوعية اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [ref]سورة يوسف، الآية 55[/ref] ، الترشيحية الترجيحية يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ref]سورة القصص، الآية 26[/ref] ، الاصطفائية بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ref]سورة التوبة، الآية 128[/ref] ، وهل الربانية إلا الانتساب إلى الرب المربي والمرْبي الذي يصطفي من عباده من يشاء ويختاره لما يشاء، يؤتيه الحكمة ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ويجعله سويا على صراط مستقيم، ويمكنه من الإمامة في الدين بوجهي عملتها الصعبة: الصبر واليقين. عبد لله، أدبه الله فأحسن تأديبه وألهمه ذكره وشكره وحسن عبادته وتقواه وحسن التوكل عليه، وبعثه مع من بعثه لتجديد الدين على رؤوس المئين إحياء لسنة السابقين الأولين، رباني مع نسبته إلى الحق فهو لله عبد، له من العلم النافع المنشئ للعمل الصالح ما يجعله أنفع لعيال الله عصيا على الشيطان وجنوده خبيرا بالله، عارفا به دالا عليه، فقيها في الدين إسلامه وإيمانه وإحسانه، مبلغا عن الرسول الأمين بلسان عربي مبين، وبكل لسان قويم يترجم عن القرآن معانيه، وعن السنة النبوية أبعادها القولية والفعلية والتقريرية والحالية في سياقها التاريخي زمانا ومكانا وإنسانا، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [ref]سورة آل عمرال، الآية 79[/ref] ، فآيات الله قرآنية يعلمها الربانيون، وآيات الله كونية آفاقية يدرسها الربانيون ليقيموا عليها الآيات القرآنية، وليبنوا تلك الآيات القرآنية أخلاقا تمشي على الأرض، وقيما تعمرها عمرانا عصيا على التصدع والتداعي والانهيار، عصيا على الغش والعلو في الأرض والاستكبار، عصيا على الأبنية المسخرة للإفساد في الأرض كالأبنية الضرار، وهل الرباني إلا من يُعلِّم الناس بصغار العلم قبل كباره بسطا وتبسيطا وبساطة، متواضع يخفض الجناح ولا يدخر علما علمه الله إياه، يخاطب الناس على قدر عقولهم وقدر ما يعقلون عنه، لتكون الأثية الثالثة التي تستقيم عليها ربانية هذا الداعية البنَّاء الجهاد في سبيل الله وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ref]سورة آل عمران، الآية 146[/ref] ، قتال يوحي بإعداد المستطاع من القوة ورباط الخيل الذي يرهب عدو الله، ولا وهْن يحيل على حب الدنيا وكراهية الموت داء الأمم كما أخبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ضعف ولا استكانة &#8220;يا عمّ، لو وُضعت الشمسُ عن يميني والقمرُ في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يُظهرَهُ الله أو أهلِكَ في طلبه&#8221; [ref]الكنداهلاوي، حياة الصحابة، ج1 ص35[/ref] ، وصبر على الطاعة وعن المعصية وللنفس مع الذين يدعون ربهم بالغذاة والعشي يريدون وجهه، بدون التفات إلى زينة الحياة الدنيا الملعونة الفانية، ولا طاعة لمن أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا من شيطان مارد، أو سلطان جائر، أو ضال مضل، أو داع إلى جهنم، أو قاض من فوق منبر نصب نفسه عليه لم يرتضيه للقضاء أحد، صبر يفرغه الله عليك ثمرته ثبات القلب على الدين، وثبات اللسان على الحق المبين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وثبات الأقدام عند الإقدام جهاد نفس، وجهاد مال، وجهاد تعليم، وجهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجهاد كلمة وحجة، وجهاد تعبئة وبناء، وجهاد سياسي، وجهاد تنفيذ، وجهاد كفر، وجهاد نموذج ناجح، وجهاد توحيد.وبعد الحديث عن المهندس الذي يمثل قيادة البناء وقدوته، لا بد من تصميم ينظِّر لهذا البناء غايته وأهدافه المرحلية والإجرائية العملية ووسائله البشرية والمادية والمعنوية، تنظير يحكمه الوضوح والتدرج المستند إلى شرعة الله ومنهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في إطار خطة شاملة كاملة متكاملة تربوية تنظيمية زحفية، لتغيير ما بالأنفس أساسا إسلاما وإيمانا وإحسانا، وتغيير ما بالأمة عدلا واستخلافا، بوازعي القرآن والسلطان وعلى قدمي الدعوة والدولة، منهاج يُقعد لثوابت لا يمكن التصالح مع من يرفضها كما لا يمكن التفاوض عليها والتنازل عنها والمساومة في الأخذ ببعضها وترك البعض الآخر، وهناك متغيرات تقتضي الحكمة أن نراعي سلم الأوليات في الأخذ بها تعجيلا وتأجيلا، جزءا أو جلا أو كلا، ولا بأس من المرونة والمصانعة والمداراة في طاولة الميثاق المنصوب كمائدة للحوار مع الأطياف المختلفة الراغبة في التغيير من منطق يحافظ على الهوية، ويفتل في حبل مرجعية الأمة الأساسية التي نحن بدونها أيتام في مأدبة اللئام أو حصاد طوفان، إن لم يكن راعينا الإسلام منهاجا نبويا ربانيا مؤسسا على فقه الواقع وفراسة المؤمن وعلى مشاركة مستقلة حرة لبناء على أرضية غير مغتصبة ولا مسقوفة بقبة تستظل بها الأشباح المنتخبة الراضية بشروط اللعبة عرقا وسط الحلبة لا ينتظر منها إلا الجلبة وجلب المنافع بالطرق الملتوية والوعود الكاذبة والعقول المستلبة. 
 ولابد من اقتحام تحديات الجاهلية: سوء ظن بالله إلحادا وجحودا، وحكم استبداد وفساد، وتبرج إباحية وفجور، وحمية تعصب وعناد، وعقبات الفتنة: فتنة الذهنية القطيعية الرعوية، والأنانية المستعلية المتمتعة، والعادة الجارفة، كل هذا يهيئ الأجواء لتجديد الدين، وتربية المؤمنين المحسنين، وقومة الشاهدين بالقسط المجاهدين في سبيل الله على مدارج الخصال العشر وشعب الإيمان، ولك إن أردت تفصيل القول وفصله أن تعود إلى المنهاج النبوي كما كتبه الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في كتابه المعنون بهذا الاسم والمجملة خطتُه فيه بين يدي التوسعة التي شملت هذا التصور في الكتب الأمهات &#8220;العدل&#8221; و&#8221;الإحسان&#8221; و&#8221;تنوير المؤمنات&#8221; ومفردات كتاب &#8220;دولة القرآن&#8221; وغيرها من كتب الأستاذ ورسائله ودروسه المكتوبة والمسموعة والمشافهة. 
بعد التصميم لابد من إدارة أعمال بانية تربوية واجتماعية وسياسية وتعليمية وإعلامية وأسرية ودعوية وفكرية وتواصلية وحوارية وفنية وما إليها مما يتطلبه البناء الكامل المتكامل الذي يحتاج أول ما يحتاج إلى عصب الدعوة؛ الرجال والمال: رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [ref]سورة التوبة، الآية 108[/ref] ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [ref]سورة النور، الآية 37[/ref] ، رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ref]سورة الأحزاب، الآية 23[/ref] ، رجال من أمثال أبي عبيدة تمنى الفاروق رضي الله عنه مع من تمنى أن يُملأ البيت بهم، ونعم الرجولة الأمانة رجال يذكروننا بهجرة أهل الكهف وبعثتهم ورعاية الله لهم، يذكروننا بخالص أعمال أصحاب الصخرة، وثبات أصحاب الأخذوذ، وتحدي سحرة فرعون، رجال من أمثال الغلام المستشهد باسم ربه، رجال من الجيل القرآني الفريد، جيل التلقي للتنفيذ يحبون الله ويحبهم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. [ref]سورة المائدة، الآية 54[/ref] على هذه الأسس البانية تتنزل المرافق العمرانية الأخوية، التي تتوزع شعب الإيمان من صحبة وجماعة وذكر وصدق وبذل وعلم وعمل وسمت حسن وتؤدة واقتصاد وجهاد، التي ينبغي تجهيزها بعناية فائقة ما يسد الخصاص، ويراعي الخصوصيات وينشد الاختصاص، وهل مسك الختام إلا تزيين ما بنيناه وتجلية صورته للناس بأخلاق ومعاملات وبشر نخرج على الناس بزينته ليفصح لسان الحال منا نائبا عن لسان المقال وشاهدا حاضرا ومسؤولا في المقام عن أننا أمة خيرية وقرت في قلبها معاني الآيات القرآنية وصدقها العمل كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ref]سورة آل عمران، الآية 110[/ref] .

العمران الأخوي

أية مكانة للإنسان في التصور المنهاجي للإمام عبد السلام ياسين؟

الأمثلة في كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين

في تحرير العقل الفقهي

مفهوم العلم في النظرية المنهاجية

معالم النظر التجديدي في التراث الفقهي عند الإمام ياسين

المسؤولية التربوية في نظام الأسرة

العدل

العمران الأخوي

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الحج رسالة

الحج فرصة

الحج أنواع ومعانٍ

حج الأشباح وحج الأرواح

أتذكر وأنسى

مع الله

مقالات ذات صلة