post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h1 class="wp-block-heading">الفتوة عند السلف الصالح</h1>



تربى الأوّلون رحمهم الله على قيم الفتوة في محاضن التربية والإيمان ومجالس العلم ورباطات الجهاد، فأخذوا الفتوة صحبة متصلة كابرا عن كابر، وتشربوها معاني وروحا سارية لا يحبسها مانع إلا النفوس التي جاهدوها وطوّعوها حتى استقامت على أمر الله، فظهرت معادنها النفيسة وبرزت ثمارها النيرة، أخلاقا وسلوكا وعلما وجهادا.



ولعل أبرز سمة في تلك الأجيال، هي ذلك الفهم الجامع، والسلوك المتكامل، والمعنى العميق الذي أدركوه بصفاء قلوبهم وعلو هممهم، ودوام انشغالهم بأمر آخرتهم وأمر أمّتهم.



قال سيدنا عليّ كرم الله وجهه: &#8220;ما تَزَيَّنَ الإنسانُ بزِينَةٍ أجمَلَ مِن الفُتُوَّةِ&#8221;<a id="_ftnref1" href="#_ftn1">[1]</a>، وقال أيضا: &#8220;بُعدُ المَرءِ عن الدَّنيَّةِ فُتُوّةٌ&#8221;<a id="_ftnref2" href="#_ftn2">[2]</a>. وعنه عليه السلام أيضا، قال: الفُتوّةُ نائلٌ مَبذولٌ، وأذىً مَكفوفٌ&#8221;<a id="_ftnref3" href="#_ftn3">[3]</a>.



وجاء عنه أيضا: &#8220;نِظامُ الفُتوّةِ احتِمالُ عَثَراتِ الإخوانِ، وحُسنُ تَعَهُّدِ الجِيرانِ&#8221;<a id="_ftnref4" href="#_ftn4">[4]</a>.



وجاء عن الإمام الصّادق عليه السلام- إذ تَذاكَرُوا عِندَهُ الفُتوّةَ-: وما الفُتوَّةُ؟ لعلّكم تَظُنُّونَ أنّها بالفُسوقِ والفُجُورِ! كلّا، إنّما الفُتُوَّةُ طَعامٌ مَوضوعٌ، ونائلٌ مَبذولٌ، وبِشرٌ مَقبولٌ، وعَفافٌ مَعروفٌ، وأذىً مَكفوفٌ، وأمّا تِلكَ فَشَطارَةُ فِسقٍ&#8221;<a id="_ftnref5" href="#_ftn5">[5]</a>.



وقال أبو القاسم القُشيري: &#8220;أصل الفتوة أن يكون العبد أبداً في أمر غيره، ونقل عن شيخه الأستاذ أبي بكر الدقّاق أنه قال: هذا الخُلُق لا يكون كماله إِلا لرسول الله ﷺ، فإِن كل أحد في القيامة يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أُمَتي أُمَتي»&#8221;<a id="_ftnref6" href="#_ftn6">[6]</a>.



أما الإمام الجنيد رضي الله عنه فقد ذهب إلى أنّ: &#8220;الفتوة كفُّ الأذى وبذل النَّدى&#8221;<a id="_ftnref7" href="#_ftn7">[7]</a>.



إن الفتوة إذا هي نتيجة لحسن الخلق، ومفادها كَفُّ الأذى عن الناس واحتماله منهم، كما ذهب إلى ذلك ابن القيم الجوزية رحمه الله حين عقد فصلا باسم منزلة الفتوة في كتابة &#8220;مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين&#8221;، فقال: &#8220;ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفتوة. هذه المنزلة حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس. وكف الأذى عنهم. واحتمال أذاهم. فهي استعمال حسن الخلق معهم. فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله. والفرق بينها وبين المروءة: أن المروءة أعم منها. فالفتوة نوع من أنواع المروءة. فإن المروءة استعمال ما يجمِّلُ ويُزَيِّنُ مما هو مختص بالعبد، أو متعدّ إلى غيره. وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به، أو متعلق بغيره&#8221;<a id="_ftnref8" href="#_ftn8">[8]</a>.



ولذلك فقد فهم سلفنا رحمهم الله أن الفتوة عطاء مستمر وإيثار أصيل وصبر على المنع، بل شكر عليه: فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين &#8220;أن عفر بن محمد سُئِلَ عن الفتوة؟ فقال للسائل: ما تقول أنت؟ فقال: إن أعطيت شكرت. وإن منعت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال السائل: يا ابن رسول الله. فما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا. وإن منعنا شكرنا&#8221;<a id="_ftnref9" href="#_ftn9">[9]</a>.



<h1 class="wp-block-heading">الفتوة شجاعة وخدمة وتواضع</h1>



وردت كلمة فتى في القرآن الكريم &#8220;ست مرات مذكرة ومؤنثة ومفردة وجمعا. وصف إبراهيم عليه وعلى نبينا وجميع الأنبياء أفضل الصلاة والسلام بأنه فتى ووصف بها أصحاب الكهف. فهي كلمة تدل على الشجاعة في الحق، شجاعة نبي الله الذي كسر الأصنام، وشجاعة الفتية المؤمنين الذي قاطعوا الكفر وهاجروا إلى الله. كما وصف بالفتوة في سائر الآيات أهل الخدمة، وأشرفهم فتى موسى يوشع عليهما السلام&#8221;<a id="_ftnref10" href="#_ftn10">[10]</a>.



<h1 class="wp-block-heading">أصل الفتوة كرم النفس</h1>



إن أصل الفتوة كرم النفس؛ وثمرته الاستعلاء الإيماني والبذل والرفق والشجاعة والتواضع، يقول الإمام ياسين &#8221; نقصد بالفتوة كرم النفسالذي يدفع المؤمن للاستعلاء على الطاغوت، فيكسر الأصنام، ويبذل روحه في سبيل الله. ونقصد بها إلى جانب هذا، الرفق مع المؤمنين، وخدمتهم، وتوطئة الكنف لهم. الفتيان هم الجامعون بين صفتي الشجاعة والتواضع. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(المائدة: 54) فوجه البأس يتقدمون به للقتال عن الدعوة، ووجه الخدمة باش للمستضعفين. يبذلون أنفسهم فداء لدين الله لأنها أرخص من أن يساوموا بها. ويبذلون مالهم ووقتهم للمسلمين خدمة ومواساة. الفتى الحق من يكسر الأصنام يستهين بنفسه ثمنا لإبطال الباطل وإحقاق الحق. فهذه الفتوة الشجاعة لهدم الباطل. هذا نبي الله إبراهيم عليه السلام&#8221;<a id="_ftnref11" href="#_ftn11">[11]</a>.



<ul>
<li>ـ من فتوة هدم الباطل إلى فتوة البناء ومتطلباتها:</li>
</ul>



نص الإمام ياسين أنفتوة البناء تريد صبرا وخُلُقًا. فما تعانيه مجتمعاتنا من انحلال اليوم يتطلب من المؤمنين غدا إعادة بناء الأمة البناء السليم، &#8220;وليس تُبنى على الشح والأنانية والأَثَرَة، وهي من أمراضنا الفتنوية. إنما تبنى على خُلُقٍ جميل، نجد نموذجه الكامل في المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم. قالت له أمنا خديجة رضي الله عنها حين رجع فزعا من الوحي، وهي أعرف الناس بسجاياه: «كلا والله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ (وهو من لا دابة له، فهو عاجز عن السفر) وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ (تساعد كل محتاج وكل من طرأ عليه طارئ)» رواه الشيخان وغيرهما. في رواية: «وتصدق الحديث» وفي أخرى: «وتؤدّي الأمانة». الفتى يحمل، ويصل، ويجمع، ويفدي إخوته. ليس الفتى من هذه الإبل المائة التي لا تكاد تجد فيها راحلة. بل هو حامل ثقل الجماعة. ثم لا يُمنُّ على إخوته عطاءه فيفسد عمله&#8221;<a id="_ftnref12" href="#_ftn12">[12]</a>.



<ul>
<li>.الفتوة خدمة وبركة:</li>
</ul>



ومن معاني الفتوة التي ألمع إليها الإمام ياسين أيضا الخدمة، قال رحمه الله : &#8220;الفتى يخدم إخوته. وقد أتى الله النبوة عبده يوشع بعد أن شرفه بخدمة رسوله موسى عليهما السلام. وذكر الواقدي أن وفد بني سعد هُذيم بعد أن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم رسول الله في رحالهم، فجاؤوه ومعهم أصغرهم، وكان لم يحضر البيعة لأنهم خلفوه في الرحال. فتقدم الصغير، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام. قال: «فقلنا يا رسول الله، إنه أصغرنا وإنه خادمنا. فقال: «أصغر القوم خادمهم. بارك الله عليه». قال: وكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم&#8221;<a id="_ftnref13" href="#_ftn13">[13]</a>.



<ul>
<li>.تمام الفتوة في اختيار الوضوح وكمالُها في الابتعاد عن العنف:</li>
</ul>



أولى الإمام ياسين أهمية كبرى للطلبة والطالبات بوصفهما مادة الفتوة وقوة الاقتحام، قال رحمه الله : &#8220;أنتم معشر الطلبة المسلمين والطالبات المسلمات مادة الفتوة وقوة الاقتحام. فتسلحوا بالتحصيل العلمي وتحصنوا بعقيدة التوحيد، وتجندوا للدعوة كيلا تسرق منكم الأيدي الآثمة المتآمرة المطبّعة أجيالا غضة يريدون سَوقها لدار الهوان. كونوا بعيدي النظر، لا تستنزفوا قواكم، ولا تضعفوا فتوتكم في عنف رافض وحوار غامض. انظروا بعيدا فسوف يأتي يوم قريب إن شاء الله تتجلى فيه أوهام حاكها كَذِبُ الحُكَّامِ على رقاب المسلمين، وموّهت بها على الأمة قصائِدُ المدّاحين، ليظْهَرَ الوجهُ الكالحُ البشِعُ للفئة المستكبرة المتمالئة، فئة أقزام الفكر، فئة الخفافيش المعششة في الظلام&#8221;<a id="_ftnref14" href="#_ftn14">[14]</a>.



<ul>
<li>.الفتوة قرينة الجهاد:</li>
</ul>



 لم ينفصل معنى الفتوة عن معاني الجهاد بجميع صوره في فهم الإمام رحمه الله، يقول في هذا الصدد: &#8220;لا تكن حيسوبًا جمَّاعة عدَّادا لقدراتنا الذاتية وإمكاناتنا تحصر القدرات، والإمكانات في نطاق الكم والعدد والطاقة المادية. إنما تتفجر من حولك وإليك طاقات الشعب وإمداداته إن شَمَّ فيك الشعب مع ريح الرجولة نسائمَ الصدق، وعبيرَ الفتوة الجهادية، وعطرَ الإيمان&#8221;<a id="_ftnref15" href="#_ftn15">[15]</a>.



<ul>
<li>.الفتوة بذل وزهد في الجاه والرئاسة:</li>
</ul>



وهذا ما كان يحذر منه الإمام ياسين، يقول رحمه الله، &#8220;فلكيلا يصبح عقد الإمارة صورة تلعب بها الرياح، نضرب لها أوتادا في نفس المؤمن الذي لا تستفزه الأهواء، ويحسن الظن قبل أن يتّهم، ويغلب جانب الفتوة والبذل على جانب الشح والتنافس على الجاه والرئاسة&#8220;<a id="_ftnref16" href="#_ftn16">[16]</a>.



<h2 class="wp-block-heading">على سبيل الختم</h2>



إن الفتوة تتضمن ما هو استعداد فطري أصلي، وما هو تشرُّبٌ وتيقّظ إيماني إحسانيٌّ وتوفيق رباني وارتقاء تربوي بفضل دوام الصحبة وتخليصها، وما هو وتعلُّمٌ وتدرّبٌ وتدبيرٌ وحنكة.



فالمعوّل على صحبة أهل الفتوة والإقدام والاقتحام والخدمة والهمم العالية، والمعوّل كذلك، على بذل الوسع في التعلم والتدرب وتنظيم الوقت وحسن التدبير.



فانظري –يا نفسي- إلى سيرة المجاهدين اليوم في غزة العزة، وانظري إلى مختلف معاني الفتوة والبذل والكفاح والمسارعة واليقظة والاقتحام، فكأننا نتابع معهم تنزّل القرآن من جديد، ونرى آيات بيّنات ودروسا ناصعة في الاقتحام والبذل ونكران الذات، نرى نماذج تلك التربية الجهادية المتينة التي تحتاجها الأمة للتحرر، ونرى اليقين والتوكل الصادق على الله تعالى.


<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity" />


<a id="_ftn1" href="#_ftnref1">[1]</a> &#8211; عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم: 9659.



<a id="_ftn2" href="#_ftnref2">[2]</a> &#8211; عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم: 4425.



<a id="_ftn3" href="#_ftnref3">[3]</a> &#8211; عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم: 2170.



<a id="_ftn4" href="#_ftnref4">[4]</a> &#8211; عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم: 9999.



<a id="_ftn5" href="#_ftnref5">[5]</a> &#8211; حسين الحسني البيرجندي ، غريب الحديث في بحار الأنوار، الجزء الثالث، مؤسسة الطباعة و النشر وزارة الثقافة و الإرشاد الاسلامي، الطبعة الأولى، طهران، ص: 167.



<a id="_ftn6" href="#_ftnref6">[6]</a> &#8211; عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، ص: 227.



<a id="_ftn7" href="#_ftnref7">[7]</a> &#8211; عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، ص: 227.



<a id="_ftn8" href="#_ftnref8">[8]</a> &#8211; ابن القيم (أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الجزء الثاني، ص: 324.



<a id="_ftn9" href="#_ftnref9">[9]</a> &#8211; ابن القيم (أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الجزء الثاني، ص: 325.



<a id="_ftn10" href="#_ftnref10">[10]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة الثالثة 1994م، ص: 185.



<a id="_ftn11" href="#_ftnref11">[11]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص: 185 &#8211; 187.



<a id="_ftn12" href="#_ftnref12">[12]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص: 186-187.



<a id="_ftn13" href="#_ftnref13">[13]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص: 186-187.



<a id="_ftn14" href="#_ftnref14">[14]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، رسالة إلى الطالب والطالبة، ص: 26- 27.



<a id="_ftn15" href="#_ftnref15">[15]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، ص: 15.



<a id="_ftn16" href="#_ftnref16">[16]</a> &#8211; عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا، ص: 120.

التزكية والدعوة

الفتوة قوة واقتحام

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

الفتوة قوة واقتحام

حوارات | في الأدب وقضاياه مع الروائي عبد القادر الدحمني

ذ. عبد القادر الدحمني | زفراتٌ في ذكراك..

مقالات ذات صلة