الفقه المنهاجي: الأسئلة والحاجات
انتبه الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله منذ زمن بعيد إلى أن الرسالة الجامعة التي بعث الله بها سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قد تعرضت – مع مرور الوقت، ولأسباب متداخلة – لانشطار في الفهم، وانكسار في العمل، جعل حامليها على اختلاف مشاربهم، “لم يخلفوا لنا إلا نثارا من العلم لا يجمعه مشروع متكامل”[1].
1.الأسئلة المطروحة
لذلك طرح الإمام على قارئيه في مواطن متعددة الأسئلة الحارقة التي أظمأت نهاره، وأسهرت ليله. قال في كتاب الإسلام غدا: “كيف نتعلم إسلامنا وفي أي اتجاه؟ كيف نفهم الوسط الذي نعيش فيه وكيف نتصرف تجاه فتنة الدنيا وفتنة العنف؟ ومن أين نبدأ ومن يبدأ؟ وإلى أين نسير ولم نسير؟ وكيف ننتقل من عالم الكم لحياة الكيف ومن الفتنة الجاهلية إلى الإسلام؟ وما هي بنية الجماعة ورابطها ومراتب الإسلام والإيمان والإحسان؟”[2]. وقال في كتاب تحدي الماركسية اللينينية: “فكيف نحافظ على التوازن بين وعد الدنيا ووعد الآخرة إيمانا ودعوة، توازنا تكون فيه الدنيا مطية ضرورية للآخرة، لا تصبح الآخرة ووعدها مطية للدنيا؟ وكيف نعارك قوما همهم الدنيا وحديثهم الدنيا وفاعليتهم في الدنيا دون أن يتحول مسار حزب الله عن مطالب الآخرة ودون أن تكون فاعليته في ساحة الصراع أقل غناء؟ هذا هو السؤال “[3].
ويرد الإمام متسائلًا في كتاب تنوير المؤمنات: “ما السبيل إلى تجاوز التفتت ومقاومة عوامله وجمع ما تفرق واستعادة الذات القوية القادرة على الصمود والاقتحام؟ هذه بين أيدينا علوم زاخرة من الفقه المنحبس كيف نطلق سراحنا منها لنجتهد لزماننا ومكاننا؟ هذه أصول منهاجية للبحث مؤصلة ثمينة، هل تصلح سُلَّما نَرْقَى به إلى كتاب الله وسنة رسوله لنعتصم بالعروة الوثقى؟ أم أن تسلقنا من أسفل السلالم لن يؤدي بنا إلا إلى مزيد من التشظي والتمزق؟”[4].
2.الحاجات الـمُلِحَّة
هذه الأسئلة وأخواتها دفعته إلى تشخيص الداء وتوصيف العلاج، فقال في خلاصة جامعة مانعة: “المطلوب الآن وبعد الآن استجماع ما تفرق بعد زمان الصحابة، واكتساب الشخصية الجهادية الصحابيَّة”[5]. ما الذي تفرق يا ترى بعد زمان الصحابة؟ وما هي ملامح الشخصية الصحابية؟ يقول مُفَصِّلا: “إن حاجة الأمة مزدوجة لإحياء الفقه الأول الدال على الله وعلى حب الله وعلى حب رسول الله وعلى الدار الآخرة ولبعث اجتهاد نستقل فيه عن تقليد ما بلي من اجتهاد خاصة الفقه المكبوت المسكوت عنه: فقه الحكم والشورى والدولة والسياسة”[6].
ويؤكد على هذا الازدواج في الحاجة بقوله: ” أدعو إلى اقتحام العقبة التي انحدر منها الصوفيَّة الكرام عن ذلك الأفق العالي الجِهادي الذي تحرك في ذُراهُ الصحابة المجاهدون، نالوا بالجهاد المزدوج، الجهاد الآفاقي والأنفسي درجة الكمال. وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم. وبذلك لحقوا بمقعد الصدق. ليكن هذا واضحا.”[7].
هذا “الاستجماع”، وهذا “الاكتساب”، وهذه “الحاجة المزدوجة”، وهذا “الاقتحام” هو الذي سماه الإمام (فقها منهاجيا). قال: “إن حاجتنا إلى علم إسلامي كحاجتنا إلى تربية إسلامية، بل إن علم الإسلام وفهمه مقدمة ضرورية للعمل الإسلامي. يظن بعض رجال الدعوة من المسلمين أن ضعف المسلمين في قصور اجتهادهم الفقهي. وهذا حكم سطحي لأنه يقدر أن البعث الإسلامي يكون بالتجديد القانوني وكأنه ليس بيننا إلا ضمائر مؤمنة متعطشة للمعرفة الإسلامية والعمل بها. والعلم الذي نحن بحاجة إليه هو (الفقه المنهاجي)”[8]. وأورد تعريفا لهذا الفقه فقال: “الفقه المنهاجي فتح للتدبر والفهم بمفتاح القرآن، وفي ضمنه يتاح الاجتهاد الفقهي الشرعي والاجتهاد التربوي وهو أسبق، والاجتهاد الغائي المحول لمعاني الحياة على الأرض في معاملة المسلمين مع الطبيعة ومع الجاهلية ومع الفتنة بمعنييها”[9].
3. الاصطلاحات الأصيلة
ولجلالة الأمر، وعِظَم الشأن، نجد الإمام عليه رحمة الله، يُنَوّع الخطاب، ويُـجَدِّد التعبير. يُجمِل تارة، ويُفَصّل أخرى، حتى يستقر في قلب الباحث وعقله ذلك التوازن المطلوب في التغيير. وهو في ثنايا مكتوباته، ومن خلال مرئياته ومسموعاته لا يترك الفرصة تفوت حتى يُذَكِّر ويؤكِّد ويُوَضح. وهذا ما يجعل القارئ ينبهر أمام ما آتاه الله من حسن البيان وروعة التمثيل. ولا أدلَّ على ذلك من التعابير التي تَفنَّنَ في استعمالها ليجمع همَّ طالب الحق على حاجات الفرد والأمة في آن.
فَسَمَّى الفقهَ المنهاجي فقها كُلّيا: “لكن الذي نحن بحاجة إليه هو الفقه الكلي الذي يشمل كل العبادات الفردية والمعاملات الجزئية، في نسق واحد يؤدي وظيفة إحياء الأمة وإعادتها إلى حضن الشريعة وصراط الله”[10]. فـ”العلم الكلي النافع الذي نحتاج إليه هو ذاك الذي يخط لنا ويعلمنا كيف ننفذ حكم الله في إقامة الدولة وتسييرها، في تنظيم المجتمع وإقامة العدل فيه، في تربية وتنظيم جماعة المؤمنين، في إدارة شؤون المسلمين إنتاجا وتوزيعا ومعالجة للمعايش، في إدارة الاقتصاد ووظائفه، في جعل أمور الأمة شورى بين رجالها من أهل الحل والعقد، في تنظيم الاجتهاد لاستنباط أحكام الله من كتابه وسنة نبيه لهذا العصر ولهذه الشعوب الموزعة في الأرض، وبهذه الوسائل المتاحة، ولهذا الهدف الذي أصبح قبلة للإرادات الجهادية المتجددة”[11].
وسَمَّاه فقها جامعا: “الفقه الجامع هو الفقه الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقاتها الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم تطور هذه العلاقات تطورا توسيعيا على عهد الخلافة الرشيدة، ثم في تطورها إلى الفساد والكساد على عهود الملك العاض فالجبري، ثم في الوضع الحالي وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا العدوانية على الدين الصدارة في تفكير الحكام وممارستهم، حتى غطت الدولة على الدعوة تماما، وألجأتها إلى منابر الوعظ المراقب الملجم المدجن أحيانا كثيرة، وإلى ركن “الاحوال الشخصية” بعيدا عن المجالات الحيوية المدنية والجنائية والاقتصادية والإدارية. ثم يعم الفقه الجامع في نظرة واحدة الدعوة والدولة وعلاقتهما المطلوبة في مراحل البناء، كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حتى يعود السلطان خاضعا للقرآن لا العكس”[12].
4. مفتاح الفقه المنهاجي: التوبة على أيدي الربانيين
قال الإمام رحمه الله: “وإنه بالتوبة ورفقها ينفتح باب الفقه المنهاجي”[13]. وقال: “فإذا أردنا فقها منهاجيا لغدنا فلا بد أن نعلم من نتوب على يده كما نعلم كيف تكون التوبة ومم تكون التوبة. وهنا عقدة الفقه المنهاجي بأكمله”[14]. فالتوبة على أيدي الربانيين بما في معنى التوبة من تربية ورفق، وبما في معنى الربانية من بصيرة في السلوك، وبصر في الشأن العام، هو أمر حسم الإمام في ضرورته وأسبقيته في التغيير. وفي صفحات خصلة الصحبة والجماعة تأصيل وتفصيل يُرجَع إليه.
5. أداة الفقه المنهاجي: القلب والعقل
وجد الإمام رحمه الله في نَظَر الأئمة الأعلام ما يُبَيِّن وظيفةَ القلب والعقل في السلوك الكامل للفرد والأمة فقال: “ليس العلم النافع ما تكدست فيه النقول، وقل الفهم، وانتكست الإرادة. قال مالك رحمه الله: “ليس العلم بكثرة الرواية. إنما العلم نور يضعه الله في القلب”. نور! وروى الإمام أحمد عن أبي جحيفة قال: “سألنا عليا رضي الله عنه هل عندكم (يعني آل البيت) من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء بعد القرآن؟ قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهم يؤتيه الله عز وجل رجلا في القرآن” الحديث. فهم! العلم فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيده بالإرادة الجهادية”[15].
وزاد الأمرَ شرحا وتوضيحا بلسان العصر فقال: “وإن الاعتصام بالكتاب والسنة عمل إرادي طاقته ونوره الانبعاث القلبيّ الكاشف لخطوات الاقتحام والعقل. والعقل والقلب هما جوهر الإنسان يُثقلهما الغرائز والشهوات، والضغوط السياسية، والحالة الاجتماعية، وطموح الحاكم، وانخناس المحكوم. عقل وقلب وإنسان تثقله الدنيا وتفتنه وتلعب به، ويصده هوسها، وشيطان الجن، وشيطان الإنس، عن سبيل الله. ما الاعتصام شأناً من الشؤون البسيطة الفاصل بين الخير فيها والشر، بين الخطإ والصواب، خيط أبيض وسيف يشطر العالم نصفين. الاعتصام تكليف يحده استطاعة العقل وقوة الإرادة. الاعتصام بشعب الإيمان يسبقه الإيمان. فإن كان العقل الشاطر العليمُ اللسان هو معلمَ الاعتصام والقلوب فارغة من الوَلاء المطلق لله عز وجل فإنها مهواة”[16].
[1] ياسين، عبد السلام. نظرات في الفقه والتاريخ، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص 10.
[2] ياسين، عبد السلام. الإسلام غدا، مطبعة النجاح – الدار البيضاء، بيروت، ط 1، 1973م، ص 88
[3] ياسين، عبد السلام. الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، دار الإيمان، ط 1، 1987م، ص 20
[4] ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، ج1، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018م، ص230.
[5] ياسين، عبد السلام. الإحسان، ج1، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 2018م، ص 170
[6] تنوير المؤمنات، ج1، ص320.
[7] الإحسان ج1، ص80.
[8] الإسلام غدا، ص88.
[9] الإسلام غدا، ص88.
[10] ياسين، عبد السلام. المنهاج النبوي، دار إقدام للطباعة والنشر – إستانبول، بيروت، ط 5، 2022م، ص 218.
[11] المنهاج النبوي، ص218.
[12] نظرات في الفقه والتاريخ، ص17.
[13] الإسلام غدا، ص606.
[14] الإسلام غدا، ص610.
[15] المنهاج النبوي، ص217.
[16] تنوير المؤمنات، ج1، ص237.
أضف تعليقك (0 )