من الأحاديث الجليلة التي جاز رجالُها قنطرةَ التصحيح، وحاز متنُها وسامَ الاهتبال والشرح والتوضيح، وفازت معانيها بشرف الإبانة والتصريح، “حديثُ الوليّ”.
أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ اللَّهَ تعالى قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ ).
علَّق عليه الإمام ابن تيمية فقال: ( وهو أشرف حديث رُوٍيَ في صفة الأولياء )[1]. وأدرجه الإمام النووي ضمن مختاراته “الأربعين”، فَوَشّاه الإمام ابن رجب في “جامعه” بشرح وافٍ شافٍ كافٍ. وأفرد له الإمام الشوكاني مؤلَّفا ماتعا قال فيه: ( وَمَا أَحَقَّهُ بِأَن يُفرَد بالتأليف، فَإِنَّهُ قد اشْتَمَل على كَلِمَات كلها دُرَر، الْوَاحِدَةُ مِنْها تحتها من الْفَوَائِد مَا ستقف على الْبَعْض مِنْه. وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَقد حَكَاهُ عَن الرب سُبْحَانَهُ من أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم، وَمن هُوَ أفْصح مَنْ نَطَق بالضاد، وَخيرُ الْعَالم بأسره، وَأجلُّ خلق الله، وَسيد ولد آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ )[2]. رحم الله أئمتنا الأعلام.
يدور هذا الحديث حول أرفع ما ينبغي أن تتوق إليه همم الطالبين، وأعلى ما يجب أن تشرئب إليه قلوب السالكين، وهو محبة الله لعبده. وقد خصص الله عز وجل لِتِلكُم الغاية بابا يُولِج إليها، وحدَّد لها طريقا توصل إليها، وجعل لها وصفا يدلُّ عليها.
فأما الباب فهو تعظيم أولياء الله ومحبتهم وموالاتهم، وأما الوصف فهو ما يُكرم الله به حبيبَه حينما يُرَقّيه ( مِن درجة الإِيمان إلى درجة الإِحسان، فيصيرُ يَعبُدُ الله على الحضورِ والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئُ قلبُه بمعرفة الله تعالى، ومحبَّته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأُنسِ به، والشَّوقِ إليه، حتَّى يصيرَ هذا الذي في قلبه من المعرفة، مُشاهدًا له بعين البصيرة )[3].
وأما الطريق فهي المحجة البيضاء التي تركنا عليها الواسطة العظمى في كل خير، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أداء الفرائض أساسا، والاجتهاد في نوافل القربات تطوعا.
النافلة الزيادة. واصطلاحا اسمٌ لِمَا شُرِعَ زِيادةً على الفَرْضِ والواجباتِ. قال الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةࣰ لَّكَ عَسَىٰۤ أَن یَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامࣰا مَّحۡمُودࣰا ﴾ [الإسراء 79]: ( فَهُوَ – أي النبي صلى الله عليه وسلم – إِذَا تَطَوَّعَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الدَّرَجَاتِ. وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَّةِ تَطَوُّعُهُمْ كَفَّارَاتٌ وَتَدَارُكٌ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي الْفَرْضِ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ )[4].
يقع “الخلل” في الفرض، فتكون النافلة “تداركا”. تجبر النقص، وتُصلح العيب. ففي الحديث عند أحمد وأبي داود أن العبد تُعرَض فرائضُه يوم القيامة، فإذا انتقص منها شَيئًا؛ يقول الله عز وجل: ( انظُروا هل لِعَبدي مِن تَطَوُّعٍ؟ فإنْ كان له تَطَوُّعٌ قال: أتِمُّوا لِعَبدي فَريضَتَه مِن تَطَوُّعِه ).
ولا شك أن الصلاة من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله. قال الله تعالى: ﴿ وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب ﴾ [العلق 19]. وروى مسلم عن أي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ ). بل وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإكثارَ منها سببَ مرافقته في الجنة، فقال لرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حينما سأله ذلك: ( فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) رواه مسلم.
وأوصى بها مولاه ثوبان رضي الله عنه، فقال فيما رواه مسلم: ( عَلَيْكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فإنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بهَا دَرَجَةً، وحَطَّ عَنْكَ بهَا خَطِيئَةً ).
ومِن آكد نوافل الصلاة، السنن الرواتب وقيام الليل. فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة باحتساب المكتوبة. قال في سياق حديثه عن هديه عليه السلام في قيام الليل: ( فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَاخْتُلِفَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ: هَلْ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَوْ هُمَا غَيْرُهُمَا؟ فَإِذَا انْضَافَ ذَلِكَ إِلَى عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا، جَاءَ مَجْمُوعُ وِرْدِهِ الرَّاتِبِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً، كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا دَائِمًا سَبْعَةَ عَشَرَ فَرْضًا، وَعَشْرُ رَكَعَاتٍ، أَوْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سُنَّةً رَاتِبَةً، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعُونَ رَكْعَةً، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَعَارِضٌ غَيْرُ رَاتِبٍ،(…) فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى هَذَا الْوِرْدِ دَائِمًا إِلَى الْمَمَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ وَأَعْجَلَ فَتْحَ الْبَابِ لِمَنْ يَقْرَعُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ )[5].
كان الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ تَبعهم بإحسان يواظبون على النوافل مواظبتَهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام الثواب. روى مسلم عن النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، – أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ -)، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وَقَالَ عَمْرٌو: مَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وَقَالَ النُّعْمَانُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وكان كبيرُهم يوصي مَنْ بعدَه بذلك. فقد روى أبو داود عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ( لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ كَسِلَ صَلَّى قَاعِدًا).
ومن عجيب ما ذُكر عن السلف أنهم كانوا يذُمّون المُصِرَّ على ترك السنن، ويردّون شهادته، ويعدّون ذلك علامة على الخذلان وقلة الدين.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: ( يُطلَب إلى المؤمن أن يحافظ على السنن الرواتب، والوتر من آخر الليل، ولا يترك أن يقرأ كل ليلة بالآيتين من آخر البقرة للحديث الوارد في ذلك. وصلاة الضحى. والكيس من واظب على صلاة الاستخارة يوميا يتخذ به عند الله عز وجل وسيلة ليلهمه رشده في كل أمر. ولا بأس من المواظبة على صلاة الحاجة لإبداء الافتقار إليه سبحانه والاعتماد عليه )[6].
كان الحبيبُ صلى الله عليه وسلم يُبشر الأصحابَ بعُقبى ما يتقربون به إلى مولاهم من صلاة التطوع. يكون ذلك أدعى لفرحهم بعاجِل بشراهم، ولازدياد حرصهم على دوام العمل. وهو لنا ترسيخ إيمان، وتثبيت يقين. فقد روى البخاري في “الصحيح” عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال لبلالٍ عندَ صلاةِ الفجرِ: ( يا بلالُ، حدِّثْنِي بأَرْجَى عملٍ عَمِلْتَهُ في الإسلامِ، فإنِّي سمعتُ دَفَّ نعليْكَ بينَ يديَّ في الجنةِ ). قال: ما عملتُ عملًا أَرْجَى عندي أنِّي لم أَتَطَهَّرَ طَهورًا، في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ، إلا صلَّيتُ بذلكَ الطَّهورِ ما كُتِبَ لي أن أُصلي.
في مصنفات الفقه والوظائف وعمل اليوم والليلة ما يشفي غليل المؤمن المُحِبّ من فضائل الصلوات، ويُقِرُّ عين السالك المتقرب من نوافل الخيرات. يُقبِل على ذلك بنية الذاكر الطالب لوجه الله، وبإرادة المجاهد الناصر لدين الله.
لا يستقيم الوقوف بين يدي الله، والقلب راضٍ بظلم العباد. فكيف بمن ظَلَم. أورد الإمام ابن رجب رحمه الله من بين روايات حديث الولي، هذه الروايةَ عند أبي نعيم في “الحلية”: ( إنَّ اللَّهَ تعالى أوحى إليَّ يا أخا المرسلينَ، ويا أخا المنذرينَ، أنذرْ قومَك أن لا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحدٍ عندَهم مَظلَمةٌ، فإنِّي ألعَنه ما دامَ قائمًا بينَ يديَّ يُصلّي حتَّى يردَّ تلكَ الظُّلامةَ إلى أَهلِها، فأَكونُ سمعَه الَّذي يسمعُ به،ِ وأَكونُ بصرَه الَّذي يبصرُ بهِ، ويَكونُ من أوليائي وأصفيائي، ويَكونُ جاري معَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ في الجنَّةِ ).
[1] ابن تيمية، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425/2004، ج:18، ص: 129.
[2] الشوكاني، بدر الدين محمد بن علي، قطر الولي على حديث الولي، دار الكتب الحديثة، مطبعة حسان، القاهرة، 1979. ص:229.
[3] ابن رجب، أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين، جامع العلوم والحكم، دار ابن كثير، دمشق/ بيروت، ط1، 1429هـ/2008م، ص: 783
[4] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان، ط1، 1427/2006، ج:13، ص: 147.
[5] ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، 1418/1998، ط:3، ج:1، ص: 316-317.
[6] ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي، دار الآفاق، الطبعة الرابعة 1422هـ/2001م، ص:155.
أضف تعليقك (0 )