post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

إن الله عز وجل هو خالقُ العباد على اختلاف أجناسهم، وهو العالمُ بِسرِّ نشأتهم، الخبيرُ بما فيه صلاحُ أحوالهم. لذلك نجد في عموم آيات القرآن الكريم، وفي تفاصيل السنة النبوية الشريفة ما هو كفيلٌ بتنظيم شؤون دنياهم، ونجاحِ أمور أخراهم، حتى ينالوا سعادة الدارَيْن.
وعِشرة الزواج ليست بِدْعا من ذلك، فقد مهَّد الله تعالى لها أساسا متينا هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ا⁠حِدَةࣲ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا [1]، وحِضنا رحيما لِیَسۡكُنَ إِلَیۡهَاۖ ، ورباطا وثيقا وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظࣰا[2]. ثم جعل تمامَ ذلك تكليفا واضحا، فقال : ٱلرِّجَالُ قَوَّ ا⁠مُونَ عَلَى ٱلنِّسَاۤءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ وَبِمَاۤ أَنفَقُوا۟ مِنۡ أَمۡوَ ا⁠لِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـٰفِظَـٰتࣱ لِّلۡغَیۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ [3].
القوَّام لغةً هو ( الَّذِي يَقُومُ عَلى شَأْنِ شَيْءٍ ويَلِيهِ ويُصْلِحُهُ، يُقالُ: قَوّامٌ وقَيّامٌ وقَيُّومٌ، لِأنَّ شَأْنَ الَّذِي يَهْتَمُّ بِالأمْرِ ويَعْتَنِي بِهِ أنْ يَقِفَ لِيُدِيرَ أمْرَهُ )[4]. وشرعاً ( هو قِيامُ الحِفْظِ والدِّفاعِ، وقِيامُ الِاكْتِسابِ والإنْتاجِ المالِيِّ )[5].
وظيفة الرجل بما مَيَّزَه الله عز وجل من قوة في البدن، وقدرة على التحمل، وإقبال على الاكتساب، أن يرعى مَنْ يَعول من الزوج والأولاد، توفيرا للمسكن الآمن، والمأكل والمشرب المُغْنِييْن من الجوع والعطش، والمَلبس الساتر الواقي، ووقايةً من البلايا والأرزاء، وتطبيبا من الأمراض والأدواء، ومدافعةً لكل مُعتَدٍ على النفس والعِرض والمال.
قال العلامة الطاهر بن عاشور يشرح هذا الاختصاص : ( فالتَّفْضِيلُ هو المَزايا الجِبِلِّيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي حاجَةَ المَرْأةِ إلى الرَّجُلِ في الذَّبِّ عَنْها وحِراسَتِها لِبَقاءِ ذاتِها، كَما قالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:        
                  يَقُتْنَ جِيادَنا ويَقُلْنَ لَسْتُمْ&#8230;.بُعُولَتَنا إذا لَمْ تَمْنَعُونا[6] 
فَهَذا التَّفْضِيلُ ظَهَرَتْ آثارُهُ عَلى مَرِّ العُصُورِ والأجْيالِ، فَصارَ حَقًّا مُكْتَسَبًا لِلرِّجالِ، وهَذِهِ حُجَّةٌ بُرْهانِيَّةٌ عَلى كَوْنِ الرِّجالِ قَوّامِينَ عَلى النِّساءِ، فَإنَّ حاجَةَ النِّساءِ إلى الرِّجالِ مِن هَذِهِ النّاحِيَةِ مُسْتَمِرَّةٌ، وإنْ كانَتْ تَقْوى وتَضْعُفُ )[7].
&#8220;حاجَةُ النِّساءِ إلى الرِّجالِ&#8221; لا تعني بِحالٍ أن يستغل الزوج ضعفَها الخِلْقيَّ فيُذيقَها من صنوف الفظاظة والخشونة ما يُرغم أنفَها في المهانة والإذلال. أو يجعلَ من &#8220;وظيفته&#8221; في الرعاية والحماية ذريعة لإسكات صوتها، وتسفيه رأيها. بل من الواجب دوام التذكير بأن القوامة بيتٌ فراشُه السّكَن، وغطاؤه المودةُ والتراحم، ونسيمه المعاشرةُ بالحسنى، وصلاحُه التغافل والمداراة. كيف للرجل القوام أن يعتديَ ويؤذيَ وهو بين أمرِ « استوصوا بالنساء خيرا »[8]، ونَهيِ « لا تَكْسِرِ القَوَارِيرَ »[9]. وكيف تميل به ريحُ الضجَر والحَنَق وهو يسمع الوصية النبوية : « خُلقت المرأة من ضِلَع، فإن تُقِمْها تكسرْها، فَدارِها تَعِش بها »[10].
في مثل هذا الكَنَف يصِحُّ الحديث عن وظيفة المرأة الزوج : &#8220;الحافظية&#8221;.
اتفق علماء التفسير أن المقصود بها في الآية هو ( الْأَمْرُ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ )[11].  وأوردوا في معنى قوله تعالى : ﴿ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ ﴾ أقوالا مختلفة. مِن لطيفِ ذلك ما ذَكَرَه الإمامُ القاسمي رحمه الله، حيث قال : ( أوِ المَعْنى: بِما حَفِظَ اللَّهُ لَهُنَّ مِن إيجابِ حُقُوقِهِنَّ عَلى الرِّجالِ، أيْ: عَلَيْهِنَّ أنْ يَحْفَظْنَ حُقُوقَ الزَّوْجِ في مُقابَلَةِ ما حَفِظَ اللَّهُ حُقُوقَهُنَّ عَلى أزْواجِهِنَّ، حَيْثُ أمَرَهم بِالعَدْلِ عَلَيْهِنَّ وإمْساكِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وإعْطائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، فَقَوْلُهُ: بِما حَفِظَ اللَّهُ يَجْرِي مَجْرى ما يُقالُ: هَذا بِذاكَ، أيْ: في مُقابَلَتِهِ )[12].
وعلَّق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعليقا جامعا فقال : ( حافظيتها إذاً لا تقصُر على حفظ حقوق الزوج، بل تشمل كلَّ حقوق الله المكلفة بها الزوج. حافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شُغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه )[13].
تحفظ المرأة بما تحمل في بطنها من الأجنَّة، وبما تضع وتُرضع وتُطعم وترعى، استمرارَ هذا الجنس البشري. وتحفظ بما تحرص عليه من العِفة والتحصُّن سلامةَ الأنساب، وروابطَ الأرحام. وتحفظ بما تسعى إليه من طاعة الزوج في المعروف، وإسعادِه بِحُسن التبعُّل وجميلِ التدبير استقرارَ بيت الزوجية ومَتانتَه.
 وهي بالإضافة إلى ذلك مدعوَّةٌ وبكل تأكيد إلى حفظ دين النشء وعقله. تحمل على عاتقها أمانة التربية ومسؤولية الحفاظ على الفطرة، حتى تُسهم في إعداد شباب قوي الإرادة، رفيع الأخلاق، سَمْتُه الاقتحام، وباعثه اليقين في موعود الله.
إن كان من البديهي ألا تستجيب المرأة المسلمة لنداءات التغريب التي تعمل على هدم بناء الأسرة من خلال الترويج لنموذجها &#8220;المُتحرّر&#8221; من &#8220;آصار&#8221; القوامة، والمتنصّل من &#8220;قيود&#8221; الحافظية، فإن عليها قطع حبال التقليد التي تشدُّها إلى أزمنة الانحدار حيث الاستسلام للظلم، والتعايش مع البؤس، والركون للجهل، والتواري عن ساحات الجهاد التربوي والآفاقي.
تتمرد الزوج المسلمة على الموروث البالي، لكن في زيال تام عن المسخ الغازي، لتكون المؤمنةَ الشاهدةَ بالقسط القائمةَ لله كما كانت السيداتُ الصحابيات ومَنْ تبعهن بإحسان.
رسم الإمام رحمه الله لتكامُل مَهامّ الزوجين صورةً فريدة فقال : ( البيت المسلم الذي يمارس فيه الزوج «درجة» قائد السفينة، هو هناك مع خرائطه، ومُخططات الإبحار، ومواجهة أهوال الموج، وهي حافظة لما به تتغذى السفينة وتتحرك من دواليبَ خَفيَّة ووَقود وصيانة. تطيع الربان إذا أمرها، وتحفظ غيبه في نفسها وماله )[14].
في سَفَرهما يجعل الزوجان همَّ المصير همَّهما الأول لترسُوَ السفينةُ في برّ الأمان. فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: « إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ »[15].
وعَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فِي حَاجَةٍ، فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا: « أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ » قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: « كَيْفَ أَنْتِ لَهُ ؟ » قَالَتْ: مَا آلُوهُ[16] إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: « فانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ »[17].
<h2>قال الواعظ الناصح :</h2>
بلِّغِ الأزْوَاجَ مَأْلُكَةً[18]&#8230;.وَحْيَ قُرآنٍ لِمُذَّكِرِ 
أكَّدَتْهَا كُلُّ وَارِدَةٍ&#8230;.مِنْ حَدِيثٍ صَحَّ أو خَبَرِ 
أنَّ سِرَّ الأَمْنِ في سَكَنٍ&#8230;.بَيْنَ زَوْجَيْنِ بِلاَ كَدَرِ 
أن يَقُومَ الزَّوْجُ مُقْتَدِراً&#8230;.لِيقودَ الركْبَ في السَّفَرِ 
وَتَصُونَ الأمُّ قانتَةً&#8230;.تَحْفَظُ الغَيْبَ عَلَى حَذَرِ 
عِشْرَةٌ بالشَّرْعِ صالِحَةٌ&#8230;.سرَّتِ النفسَ مَدَى العُمُرِ 
صلِّ يا رب على المصطفَى&#8230;.وعلى مَن سار في الأثَرِ[19] 
&nbsp;
[1]  سورة الأعراف 189. [2]  سورة النساء 21. [3]  سورة النساء 34. [4]  ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، ج 1، الدار التونسية للنشر 1984، ص 38. [5]  نفسه. [6]  يعني : يعلِفن خيلَنا الجياد ويقُلنَ: لستم أزواجنا إذا لم تمنعونا من سبي الأعداء إيانا. [7]  تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 39. [8]  رواه البخاري رحمه الله. [9]  رواه البخاري رحمه الله. [10]  رواه ابن حبان والحاكم والطبراني في &#8220;الأوسط&#8221;. رحمهم الله. [11]  القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، ج 6، ط1، 1427/2006، مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان، ص 281. [12]  القاسمي، محمد جمال الدين، محاسن التأويل، ط 1، الناشر:عيسى البابي الحلبي، 1376 – 1957. [13]  ياسين، عبد السلام. تنوير المؤمنات، ج2، مطابع أفريقيا الشرق 2018، المغرب، ص82. [14]  تنوير المؤمنات، ج2، ص83. [15]  رواه النسائي وابن حبان رحمهما الله. [16]  لا أُقَصِّر في طاعته وخدمته. [17]  رواه أحمد والنسائي رحمهما الله. [18]  المألُكة: الرسالة. [19]  ياسين، عبد السلام. ديوان قطوف، ج5، القطف 310، ص8.

القوامة والحافظية

معالم السياق العام لقضية المرأة في نظرية المنهاج النبوي

المسؤولية التربوية في نظام الأسرة

المرأة والأسرة

القوامة والحافظية

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

البر وحسن الخلق

رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس

إكرام الجار والضيف

القوامة والحافظية

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

مقالات ذات صلة