post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

<h2 class="wp-block-heading">تمهيد</h2>



تحدثت في الحلقة السابقة عن الإطار التاريخي العام الذي ظهرت فيه مدرسة المنهاج النبوي وهو سياق فقه التجديد الإسلامي المعاصر، ثم شرعت في تناول الخاصية الأولى المميزة للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله ألا وهي الربّانية والعمق التربوي الروحي. وفي حلقة اليوم أستعين بالله عز وجل في تبيان الخاصيتين الأخريين لهذا الرجل العظيم رحمه الله وهما البعد العلمي الاجتهادي والبعد الحركي الجهادي.



<h2 class="wp-block-heading">1. البعد العلمي الاجتهادي</h2>



لقد كانت حياة الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله حافلة بالإطلاع الواسع والقراءة المتبحرة في شتى أنواع العلوم والمعارف إذ رشف منذ صباه من رحيق القرآن الكريم الذي أتم حفظه في سن مبكرة، ثم نهل من علوم اللغة والشريعة تلميذا في مدرسة أسسها العلامة الرباني محمد رضا المختار السوسي رحمه الله، وطالبا بمعهد ابن يوسف بمراكش الذي كان منارة علمية شامخة وتابعا لجامعة القرويين آنذاك. ثم انفتح بعد تضلعه في العلوم الأصيلة على الثقافة الغربية حيث أتقن اللغة الفرنسية عبر العصامية ونبغ فيها. تشهد بذلك مؤلفاته التي كتبها بهذه اللغة.<a id="_ednref1" href="#_edn1">[1]</a> كما تعلم لغات أخرى كالإنجليزية والإسبانية والروسية قصد التعرف على فكر وثقافة الناطقين بها مباشرة وبدون وسائط. حكا لي بعض من صحبه في هذه الفترة- أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي- أن الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله كان يطلب كتبا كثيرة لمطالعتها، وكانت تسلم له في كيس كبير، وبعد مدة وجيزة يطلب مثل ذلك، وهكذا دواليك.<a id="_ednref2" href="#_edn2">[2]</a> وكانت حصيلة هذه الحياة العلمية المباركة غزارة إنتاجه، وعمق فكره، وفصاحة عبارته، وأصالة اجتهاده، وسعة أفقه. لقد ارتاد أستاذنا رحمه الله آفاقا معرفية واسعة، وكان بحق مبدعا ومجددا في مباني ومعاني مشروعه العلمي الذي اصطلحت عليه &#8220;مدرسة التفكير والسلوك المنهاجي&#8221; في بداية التسعينيات من القرن العشرين بتاريخهم.<a id="_ednref3" href="#_edn3">[3]</a> وكان من توفيق الله عز وجل له أن هداه إلى اكتشاف &#8220;المنهاج النبوي&#8221; منذ بداية اهتمامه وتأليفه في مجال الفكر الإسلامي- أي منذ بداية السبعينيات-على أقل تقدير- من القرن الميلادي المنصرم كما تشهد بذالك مؤلفاته في تلك المرحلة.<a id="_ednref4" href="#_edn4">[4]</a> ومما تجدر الإشارة إليه أن الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله له قناعة راسخة بأن العلم إمام العمل وأن التنظير يسبق التطبيق. وفي نظرة نقدية فاحصة يقول رحمه الله:&#8221; لذلك تجد بعضنا لا يقول بضرورة عرض منهاج كامل لعملنا، فأحرى عرض برنامج قابل للتطبيق في ميادين السياسة والاقتصاد وتغيير المجتمع &#8230; وإنه لضروري صياغةُ معرفة بالكيف الإسلامي لإنجاز ما عندنا من غاية وأهداف، صياغة تأخذ في اعتبارها أمسنا الممجد، وغدنا المتألق بوعد الله ورسوله، وحاضرنا المرهون في يد أعدائنا&#8221;).<a id="_ednref5" href="#_edn5">[5]</a> لقد كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله &#8220;منهاجيا&#8221; في كل ما يكتب ويخطب. أقصد بذلك أن مشروعه الإسلامي في الدعوة والتغيير ينظمه &#8220;حبل منهاجي&#8221; متماسك ومتناسق في المبنى والمعنى. إنك تجد في كتاباته نفسا واحدا متجددا يعطيك صورة جليّة عن متانة علمه، وعمق تحليله، وقوة اقتراحه. إن الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله عالم مجتهد حر أبدع في إخراج مشروع المنهاج النبوي إلى الوجود، ثم عكف على بناء لبناته واستكمال صرحه لمدة تزيد عن أربعة عقود. صدر من هذا التراث المنهاجي الضخم حتى الآن ما يربو على 30 كتابا. هذا الاجتهاد الرائد هدى الله إليه أستاذنا رحمه الله فصاغه صياغة محكمة عبر الزمن برهن بذلك على قراءته العميقة ومجالسته الممتدة وعيشه الطويل في ظلال القرآن الكريم، ودراسته المتأنية وبحثه الجاد في سنة وسيرة الرسول صلى الله عليه و وعلى آله وسلم. كما استفاد من إرث علماء الإسلام عبر العصور، وأدبيات الدعوة والحركة الإسلامية الحديثة بالإضافة إلى انفتاحه على معارف العصر وإفادته الموفقة منها. لكن مما يجب التنبيه عليه هو أن أكبر مصدر لاجتهاد الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله هو الكتاب العزيز والسنة الشريفة كما يقول في مقدمة أول كتاب له باللغة الفرنسية ما ترجمته &#8220;يعد القرآن قراءتي الحقيقية الوحيدة، والرسول-صلى الله عليه وسلم- وفعله أنموذجي الوحيد)&#8220;.<a id="_ednref6" href="#_edn6">[6]</a> وقبل طرح الاجتهاد المنهاجي درس أستاذنا العلامة رحمه الله تراث رواد المدرسة الإصلاحية ومؤسسي الحركة الإسلامية، و أثنى على صنيعهم، وذكر فضلهم وسابقتهم، والتمس العذر لمن اجتهد منهم وأخطأ فضلا عن تقديم تقويم لمساهمتهم في ترشيد العمل الإسلامي.<a id="_ednref7" href="#_edn7">[7]</a> وقد أشار رحمه الله إلى خلاصة جولته في أدبيات من سبقوه من المنظّرين الإسلاميين قائلا: &#8221; إن في الميدان عروضا نظرية للإسلام يكون مجموعها حصيلة لا بأس بها. لكن الطريق الأضمن لتحصيل النتائج العملية لا يزال يحتاج لاجتهاد يلقي عليه الأضواء&#8221;).<a id="_ednref8" href="#_edn8">[8]</a>



<h2 class="wp-block-heading">2. البعد الحركي الجهادي</h2>



لقد منّ الله عز وجل على مؤسس مدرسة المنهاج النبوي رحمه الله بشخصية قوية مؤثرة وجذابة. تعززت هذه الصفات القيادية بخصال الربانية والعلم والتواضع والشجاعة فجعلت بفضل الله من أستاذنا علما من أعلام الدعوة الإسلامية المعاصرة. ومن أبرز صفاته رحمه الله أنه كان قمة في الجرأة وقول الحق، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، ويعتقد اعتقادا جازما أنه: &#8221; ما ينبغي لنا أن نخاف من تبعات الكلمة الصريحة المسؤولة، فإنما ذل المسلمون من غياب هذه الكلمة&#8221;)<a id="_ednref9" href="#_edn9">[9]</a> أما عن شجاعته في قول الحق وجرأته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكفي الرجوع إلى أي من تراثه المكتوب أو المسموع أو المرئي ليجد المرء هذه الحقيقة ثابتة ومطّردة. ومن الأمثلة الجليّة في هذا الباب رسائله ومقالاته وتعليقاته المبثوثة في أدبيات مدرسة المنهاج النبوي والتي وجه فيها النصح الصادق والنقد الصريح للحكام في زمانه. وكان هذا النصح الخالص من الإمام المجدد امتثالا لأمر الله عز وجل واتباعا لسنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونابعا من أداء الواجب الملقى على عاتق العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. لم يكن نصحه رحمه الله مرتبطا بهوى النفس أو بالحظوظ الشخصية، بل كان مشفقا على الحكام والأمة، وباغيا الخير للجميع، ومذكّرا لهم بوعد الله عز وجل ووعيده ، ومؤديا لواجب شرعي ندر في عصرنا من يجسر على فعله خوفا من أذى الظلمة. أحيل القراء الكرام على رسائل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله المنشورة بموقعه على الشبكة تحت عنوان فرعي &#8220;رسائل النصيحة&#8221;.<a id="_ednref10" href="#_edn10">[10]</a> وقد أدى رحمه الله الثمن غاليا حيث عاش أكثر من شطر حياته المباركة بين الحصار والسجن والتضييق.<a id="_ednref11" href="#_edn11">[11]</a>



<h2 class="wp-block-heading">خاتمة</h2>



وصفوة القول فإنه يظهر من خلال هذا العرض السريع لأهم الخواص المميزة لمؤسس مدرسة المنهاج النبوي أن الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله داعية ربّاني وعلاّمة مجتهد وإمام مجاهد. تقبل الله من إمامنا الهمام جهده واجتهاده وجهاده، وجعل ذلك في موازين حسناته. عصر الخميس 3 جمادى الأولى 1434هـ الموافق ل 14 مارس 2013م- جدة/ الحجاز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



<a id="_edn1" href="#_ednref1">[1]</a>منها &#8221; La révolution a l&#8217;heure de l&#8217;ISLAM &#8220;(1980) و &#8221; Pour un dialogue avec l&#8217;élite occidentalisée, &#8221; (1980). و 1998))&#8221;&#8221; Islamiser la modernité <a id="_edn2" href="#_ednref2">[1]</a> ممن شهد بذلك الأستاذ محمد عبّادي الأمين العام الحالي لـ&#8221;جماعة العدل والإحسان&#8221; وعضو &#8220;الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين&#8221;، وقد أكد لي هذه الحقيقة في رحاب الحرم المكي في شهر رمضان 1433هـ/أغسطس 2012م. <a id="_edn3" href="#_ednref3">[3]</a> كان ذلك عام 1413هـ/1992م في محاضرة بعنوان&#8221; فقه التجديد الإسلامي: مدرسة التفكير والسلوك المنهاجي نموذجا&#8221; بكلية الشريعة، فرع جامعة القرويين بأيت ملول بالمغرب. <a id="_edn4" href="#_ednref4">[4]</a> &#8220;الإسلام بين الدعوة والدولة&#8221; (1492هـ/ 1972م)، &#8220;الإسلام غدا&#8221;( 1493 هـ/ 1973م)، &#8221; الإسلام أو الطوفان&#8221; (1494هـ/1974م) <a id="_edn5" href="#_ednref5">[5]</a> ياسين، عبد السلام، مقدمات لمستقبل الإسلام، تطوان ، مطبعة الخليج العربي، ط1، 2005م،ص 19. <a id="_edn6" href="#_ednref6">[6]</a>ياسين، عبد السلام، La révolution a l&#8217;heure de l&#8217;ISLAM (الإسلام أثناء الثورة) ، فرنسا، مطبعة كارلوس دوكوم، ط 2 ، 1990 ، أ. <a id="_edn7" href="#_ednref7">[7]</a> يراجع ذلك في كتابيه &#8220;الإسلام بين الدعوة والدولة&#8221; (1392هـ/1972م) في فصل &#8220;الدعوة الإسلامية المعاصرة&#8221;، (ص 289-338) و &#8220;الإسلام غدا&#8221; (1393هـ/1973م) في فصل &#8220;طريق إلى التجديد&#8221; (ص410 -502) و غيرها من الكتب. <a id="_edn8" href="#_ednref8">[8]</a> ياسين، عبد السلام، مقدمات في المنهاج، موسوعة سراج، ط 1 ، 1989م، ص 31. <a id="_edn19" href="#_ednref9">[9]</a>ياسين، عبد السلام، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، موسوعة سراج، ، ط 2، 1989م، 2. <a id="_edn10" href="#_ednref10">[10]</a> <a href="https://siraj.net/ar/categories/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84">رسائل الإمام على موسوعة سراج</a> <a id="_edn11" href="#_ednref11">[11]</a>تم توقيفه عن العمل عام 1968م بتاريخ النصارى من غير قرار إداري. حبس في مستشفى الأمراض الصدرية ومستشفى الأمراض العقلية بمراكش لمدة 3 سنوات ونصف أي من عام 1974م إلى 1978م ، وقضى سنتان في سجن &#8220;لعلو&#8221; بالرباط من عام 1983م إلى 1985م، وعاش تحت الإقامة الجبرية من 1989م إلى 2000م.

المعالم الكبرى لمدرسة المنهاج النبوي..جهاد واجتهاد

صورة تخيلية للإمام الغزالي بالذكاء الاصطناعي

الإمام الغزالي: المنقذ من ضلال السفسطة

معالم منهجية في قراءة كتب الإمام

الإمام الغزالي بيداغوجيا : تعريف وملاحظة وتمرين

قضايا فكرية

المعالم الكبرى لمدرسة المنهاج النبوي..جهاد واجتهاد

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

المنهاج النبوي وبعض قضايا الساعة

المنهاج النبوي والتيارات الفكرية المعاصرة

مطالب المنهاج النبوي

إمام ورسالة

قيادة ومنهاج

وظائف ومقاصد المنهاج النبوي

مقالات ذات صلة