مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

السياسة والحكم

حلف الفضول ضرورة إنسانية

حلف الفضول ضرورة إنسانية

مقدمة:

إن الحديث عن “حلف الفضول التاريخي”، والوقوف عند بواعثه ودلالاته واستصحاب فحواه ومقاصده والعمل بمقتضاه وتنفيذ مطالبه من أهل المروءة والفضائل في عالمنا اليوم، له أهميته القصوى في رفع شيء من بؤس الإنسان المعاصر، ذلك أن عالمنا المعاصر كما لا يخفى أصبح شديد الوطأة على الإنسانية المستضعفة الجريحة بسيف الظالمين، المبتلاة بتيه الجبابرة وصلف المتكبرين ومكر المنافقين، فحاجة الإنسان اليوم ماسة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى من ينبري إلى حفظ المشترك الإنساني والقيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول ولا تتأثر بتغيّر الزمان أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان.

حلف الفضول: التسمية والمقصد

ذكر ابن هشام سبب تسمية الحلف والأسباب الداعية إليه والأهداف المرجوة من عقده، فقال رحمه الله: “عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة ابن كلاب، وتيم بن مرة. فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول”[1].

ولقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحلف، وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”[2]. ورغم أن المقصد الأساس من حلف المشركين هي مصلحة دنيوية محضة، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتز بما أبرموه، قال الإمام عبد السلام ياسين: “ما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم شركُ المتحالفين من تقدير هذه المروءة حق قدرها”[3]، لأن روح هذا الحلف تنافي تماما الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها.

 ويُقال في سبب هذا الحلف أيضا “إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعديا، فلم يكثروا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فقاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي بعد ما أبرموا الحلف”[4]. إنه درس عظيم أن ينبري رجال في الجاهلية ويتعاقدوا فيما بينهم على إقرار العدالة والتناصف ونجدة المستغيث ونصرة المظلوم، والأخذ للضعيف من القوي، وللغريب من القاطن، ولعل هذه المقاصد الحميدة الخادمة للإنسان هي ما جعلت رسول الله صلى الله  عليه وسلم يعتز بهذا الحلف بعد الرسالة، قال محمد الغزالي رحمه الله :”إنّ بريق الفرح – بهذا الحلف- يظهر في ثنايا الكلمات التي عبّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإنّ هذه الحمية للحق ضدّ أي ظالم مهما عزّ، ومع أي مظلوم مهما هان؛ هي روح الإسلام؛ الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الواقف عند حدود الله. ووظيفة الإسلام أن يحارب البغي في سياسات الأمم، وفي صلات الأفراد على سواء”[5].

في الحاجة الدائمة إلى حلف للمروءة والفضائل

 من دلالات حلف الفضول أنّ هذه الحياة مهما اسودّت صفحاتها، وكلحت شرورها، فلن تعدم نفوسا تهزّها معاني الخير والنبل إلى النجدة والبر والتعاون والنصرة، هذه الأنفس النبيلة جواهر نفيسة في مجتمع الاستبداد والكراهية والاستعباد، فهي في حاجة إلى من ينظمها في عقد لتزداد بهجة وقوة ونفعا للإنسان، ولا سبيل إلى ذلك إلا ببناء حلف يجمع ذوي المروءات والفضائل داخل كل وطن دفاعا عن القيم الإنسانية، ولقد دعا الإمام ياسين إلى مد الجسور مع كل ذي فضيلة ومروءة من أجل خدمة الإنسان والتعاون على ما يجلب له المصالح ويدفع عنه المفاسد، قال رحمه الله: “على أرضية الإخلاص للوطن، والوفاء له، والاعتزاز بخدمته يمكن أن نمد جسورا للتعامل والتعاون مع ذوي المروآت والكفاآت، وأن نتحالَف معهم ونتعاهد. ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة مع المشركين في زمان الجاهلية فيما سمِّيَ» حلف الفضول «.[6]

ولئن كان هذا التعاون والتعاهد مع ذوي المروآت والكفاءات من مواطنينا في دار الإسلام، ومع غيرهم من الأنام، في مجالات مخصوصة تهم مصالح الإنسان الدنيوية، فإن الإمام ياسين نجده يرتقي بهذا التحالف المروئي إلى أفق أرحب حيث التحالف الذي تقوّيه رابطة الإيمان والدين، إذ الدين والمروء خلاّن، قال رحمه الله: “وَلا يُستغْنَى عن الحِلف الـمُرُوئي بما نرجو الله تعالى أن يُقَوِّيَهُ من رابطة الدين. ولا يعتبر التمسك بالأحلاف المروئية بإزاء الحلف الوَلائي ردة. “فما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة””[7].

خاتمة

إن الإسلام لم يكن انقلابا كاملا على كل القيم التي عاشها العرب في الجاهلية، بل لقد حافظ على مكارم الأخلاق، بل ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليتمّمها. وفي المقابل حارب بلا هوادة كل مظاهر الظلم، والشرك ظلم عظيم، والاعتداء على الحرمات والأعراض والأموال والنسل والدماء بالربا والزنا والقذف والسرقة وقتل النفس بغير الحق وأكل أموال الناس بالباطل.. وغيرها من الرذائل التي حاربها الإسلام، وعضد القيم النبيلة وتممها بما شرع الوحي أو ندب الناس إلى فعلها والتخلق بخصالها من مثل الكرم والصدق ونصرة المظلوم والتعاون على البر والتسامح وحفظ الأمانة ونجدة المكروب وحب الخير للناس.. وغيرها من الفضائل.

 

[1]  ـ ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، السنة 1955م، 1/133 ـ 134
[2] ـ البيهقي، السنن الكبرى، كتاب جماع أبواب تفريق ما أخذ من أربعة أخماس الفيء، باب إعطاء الديوان ومن يقع به البداية، رقم: 13080
[3] ـ عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، السنة 2018م، ص: 557
[4] ـ المباركفوري، الرحيق المختوم، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، السنة 2003م، ص: 40
[5] ـ الغزالي، فقه السيرة، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1427 هـ، ص: 76 ـ 77
[6]  ـ عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص: 555
[7]  ـ نفس المرجع، ص: 558

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد