مقدمة
في حجته الأخيرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من شهر ذي القعدة، ولما أتى بطن الوادي بعرفة، يوم التاسع من شهر ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، وحوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفا من الناس[1]، وقف صلى الله عليه وسلم على هضبة تسمى جبل الرحمة، وقام فيهم خطيبا مُبينا وواعظا مذكرا وموصيا مودعا، حيث بين للناس كليات شريعة الإسلام ومكارم أخلاقه، وودَّعهم آخذا عنهم العهد في تبليغ رسالة الإسلام إلى العالمين. وبعد أن فرغ ﷺ من إلقاء الخطبة أنزل الله سبحانه قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]. وقد توفي بعد حجة الوداع هاته بحوالي ثلاثة أشهر، (هي أول وآخر حجة للنبي ﷺ)، ولهذا سميت بخطبة حجة الوداع، وإليك نص الخطبة وبعض الدروس المستفادة منها:
نص خطبة الوداع الجامعة
قال صلى الله عليه وسلم ناصحا ومودعا:
“أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا.
أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد. فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية[2] موضوعة، غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ[3] وشِبْهُ العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس، إن النسيء زيادةٌ في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حُرم: ثَلاثٌ متواليات، وواحدٌ فرد، ألا هل بلَّغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب الله.
أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً” .
وبعد الانتهاء من خطبة الوداع سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: “وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقالَ: بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ اللَّهُمَّ، اشْهَدْ، اللَّهُمَّ، اشْهَدْ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)[4].
وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان[5].
من دروس الخطبة الجامعة
من الدروس التي يمكن استفادتها من هذه الخطبة النبوية الجامعة الخالدة:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمته ومُشهد عليها ربه سبحانه وتعالى.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة وترك المؤمنين والمؤمنات على المحجة البيضاء
- أن الله تعالى أكمل الدِّين وأتمَّ النعمة ورضي الإسلام دينا مصدقا ومهيمنا وخاتما.
- أن الدين هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وأصحابه رضي الله عنهم، ومن اهتدى بهديهم.
- أن أخلاق الإسلام تسع الناس أجمعين وتتعارض مع أخلاق الجاهلية في مختلف مظاهرها: عصبيتها وحكمها وتبرجها وظنها.
- أن الأمة الإسلامية واحدة، وأن قوتها وشهادتها بين الأمم وأداءها للرسالة مستند إلى وحدتها.
- أوصى صلى الله عليه وسلم بحفظ أخوة المؤمنين والمؤمنات، وحرَّم عليهم دماءهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحق.
- أوصى صلى الله عليه وسلم بتكريم النساء والإحسان إليهن وأداء حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف، وحذر من استضعافهن واحتقارهن، في مقابل قيامهن بواجباتهن التي فرض الله عليهن.
- حذر صلى الله عليه وسلم من فتن الاقتتال بين المسلمين، ومن مصائب الحرص الجاهلي على الجاه والمال والسلطان والعصبية وغيرها مما يفرق صف الأمة.
- حذر صلى الله عليه وسلم من اتباع خطوات الشيطان في تضليل الناس وتزيين أعمالهم الخاسرة.
- أن تاريخ المسلمين انحدر عن هذا النموذج الكامل وتمزقت الأمة في مذاهب وممالك وطوائف فضعفت وتشتت شملها.
- أن مستقبل المسلمين رهن بالتخلص من انحرافات التاريخ ومعوقات الواقع، وإنجاز التجديد الشامل اجتهادا جماعيا على منهاج النبوة الأول.
هل من مطمع في تجديد الاتباع؟
أمام ما وصلت إليه الأمة الإسلامية اليوم من ضعف وفرقة وتبعية (وما يقع في فلسطين خير شاهد)، حري بها أن ترجع إلى مثل هذه الوصايا الجامعة التي ترفعنا إلى مستوى الاتباع والائتمان على رسالة الإسلام تمثلا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغا لها، وإقامة لكيان الأمة الذي انهدم بتفرق كلمة المسلمين وذهاب ريحهم، فــ”هل من مطمع أن يصبح المسلمون مسلمين مسلمين، لا مذاهب تتنابز بالألقاب، ويطعن بعضها في عقيدة بعض؟ هل يطمع طامع أن يضع المسلمون تاريخهم تحت المِجهر العلمي ليرصدوا منابع الخلاف المذهبي، وليقبلوا الخلافات الفروعية على أنها رحمة، وليطوقوا الخلافات الأعمق ريثما تنشأ أجيال مؤمنة على السلامة الأصلية والبراءة الفطرية، أجيال طاهرة القلب نيرة العقل تجلس تحت منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمع وتطيع وتتعامل مع العالم المتطور بعلم لا يجمد ولا ينحبس ولا يحكم على العالم بالمروق لأنه لا يشبه عالم زمن التنزيل ولا زمن المجتهد الفذ؟ أجيال علماء آخرة لا تلعب بهم الدنيا؟”[6].
خاتمة
على خطى الوصايا النبوية الجامعة والخالدة، وتذكيرا بها ورد في الوصية التي ختم بها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله مشروعه التربوي والعلمي والفكري، قوله: “أوصي بما وصّى به سيدنا محمد ﷺ في حجة الوداع آخر عهده بهذه الدنيا الفانية عاهدا إلى صحابته الكرام وأهل بيته العظام وأمته من بعده إلى يوم الدين أن لا نرجع بعده كفارا يضرب بعضنا رقاب بعض، وأن نحذر المسيح الدجال، وأن نمسك عن دماء المسلمين وأموالهم إذ هي علينا حرام، وأن نصون أعراض المسلمين. وصى بذلك، بأبي هو وأمي، وأشهَدَ على وصيته الله عز وجل والسامعين. ونحن بُلِّغنا الوصية وأُنْذِرنا ووُعظنا، فما منا إلا سامع، أطاع عبد أو عصى، سمعتْ مسلمة أو لم تسمع.”[7]
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته ومن آمن به واهتدى بهديه، والحمد لله رب العالمين.
فجر يوم التاسع من ذي الحجة 1445ه/15 يونيو 2024م.
[1] – كان الصحابي ربيعة بن أمية بن خلف رضي الله عنه هو الذي يكرر كلام النبي ﷺ في الخطبة حتى يسمعه الحاضرون، وكان سِمِّيعًا جهوري الصوت.
[2] – يعني أعمالها.
[3] – يَعني: القتل العمد قصاص.
[4] – صحيح مسلم، باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، رقم 1218
[5] – رواه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم 4141، وانظر: محمد سليمان المنصورفوري، رحمة للعالمين، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، دار السلام، القاهرة، ط1، 1418ه/1998م، 1/ 265
[6] – عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، 1/286-287
[7] – عبد السلام ياسين، وصيتي، ص 15.
أضف تعليقك (0 )