post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

تَفرّدت سورة &#8220;الأنفال&#8221; من بين سائر سور القرآن الكريم بعرض أوصاف &#8220;الإيمان الحقّ&#8221;. وذُكِر فيها ذلك مرتين. يتعلق الأمر في الآية الأولى بِوَجَل القلب وزيادة الإيمان عند ذكر الله تعالى وسماع آياته، وبالتوكل عليه سبحانه، وإقام الصلاة بين يديه، والإنفاق في سبيله.



وفي المرة الثانية قال عَزَّ من قائل : ﴿ وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَالذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُومِنُونَ حَقّاٗۖ لَّهُم مَّغْفِرَةٞ وَرِزْقٞ كَرِيمٞۖ &nbsp;﴾<a href="#_ftn1" id="_ftnref1">[1]</a>.



يصير مؤمنا حقا من أعطى برهان صدقه بالهجرة والجهاد، وبالنصرة والإيواء. يفعل ذلك وفي القلب حياةٌ بالذكر الكثير، وابتذالٌ لمتاع الدنيا الحقير.



يجمع هؤلاء &#8220;الأفراد&#8221; – بما تُحيل عليه اللفظةُ من التميّز والتفرّد – رابطةٌ وثيقة سماها الله تعالى وَلايةً. قال سبحانه : ﴿&nbsp;اِنَّ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَالذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ ﴾<a href="#_ftn2" id="_ftnref2">[2]</a>.



جعل شعارَها : ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَي اَ۬لْبِرِّ وَالتَّقْو۪يٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى اَ۬لِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِۖ ﴾<a href="#_ftn3" id="_ftnref3">[3]</a>.



وأجمَلَ بنودَها في قوله : ﴿ وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَٰتُ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُونَ اَ۬لزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اَ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۖ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ ﴾<a href="#_ftn4" id="_ftnref4">[4]</a>.



( أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ )، تغشى قلوبَ المؤمنين هذه الرحمةُ الربانية، فَبِهَا يتراحمون، وبها يتوادُّون، وبها يتناصرون. وبها يكونون &#8220;معاً&#8221; على &#8220;الأمر الجامع&#8221; فلا يتفرقون.



قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَيٰٓ أَمْرٖ جَامِعٖ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّيٰ يَسْتَٰذِنُوهُۖ ﴾<a href="#_ftn5" id="_ftnref5">[5]</a> : ( والأمْرُ: الشَّأْنُ والحالُ المُهِمُّ. (&#8230;) والجامِعُ: الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَجْتَمِعَ النّاسُ لِأجْلِهِ لِلتَّشاوُرِ أوِ التَّعَلُّمِ. والمُرادُ: ما يَجْتَمِعُ المُسْلِمُونَ لِأجْلِهِ حَوْلَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في مَجْلِسِهِ أوْ في صَلاةِ الجَماعَةِ. وهَذا ما يَقْتَضِيهِ (مَعَ) و(عَلى) مِن قَوْلِهِ: ﴿ مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ ﴾ لِإفادَةِ ( مَعَ ) مَعْنى المُشارَكَةِ وإفادَةِ ( عَلى ) مَعْنى التَّمَكُّنِ مِنهُ )<a href="#_ftn6" id="_ftnref6">[6]</a>. يشاركون جميعا في الشأن المُهِمُّ وُينفِذونه.



ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الرابطة مثلا فقال : ( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى )<a href="#_ftn7" id="_ftnref7">[7]</a>.



تفاصيل بناء هذا &#8220;الجسد&#8221; جاءت مبثوثةً في نصوصٍ قرآنية، وأحاديثَ نبويةٍ. وجاءت ماثلةً في مشاهدَ واقعيةٍ من حياة الرعيل الأول ومَن تبِعه بإحسان.



ولأهميتها في تقوية هذا البناء، جعلها الله تعالى حقوقا على كل مسلم تجاه أخيه، وأوكَل &#8220;رعايتَها&#8221; لكل مسلم خدمةً لمن يَليه.



تمتدُّ هذه الحقوق مِن أبسط ما يجمع مُسلمَيْن متجالِسيْن متجاوِريْن متصاحبَيْن، إلى أعظمَ من ذلك وأوسع.



فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حَقُّ&nbsp;المُسْلِمِ&nbsp;علَى&nbsp;المُسْلِمِ&nbsp;سِتٌّ&nbsp;قيلَ: ما هُنَّ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: إذا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عليه، وإذا دَعاكَ فأجِبْهُ، وإذا اسْتَنْصَحَكَ فانْصَحْ له، وإذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ وإذا ماتَ فاتَّبِعْهُ )<a href="#_ftn8" id="_ftnref8">[8]</a>.



وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ عز وجل قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ عز وجل قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ )<a href="#_ftn9" id="_ftnref9">[9]</a>.



مِن تحيةٍ يُلقيها مسلم على آخرَ في أمنٍ وعافية، ومِن إجابةٍ إلى وليمة في فرح وهناء، ومِن كلمات يدعو بها، وخطوات يَعود بها، إلى كشف الكُرَب والمُلِمَّات، وقضاء الديون والحاجات.



لا يُغني تشميتُ العاطس من جوع الجائع، ولا تنوب عيادة المريض عن نصرة المظلوم.



عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ( مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، وَهُوَ يقَدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ، أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )<a href="#_ftn10" id="_ftnref10">[10]</a>.



قال الإمام ابن مفلح رحمه الله مُلَخِّصاً هذه الحقوق : ( &#8220;فَصْلٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ&#8221; : ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ، وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ، وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ، وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ، وَيُوَالِيَهُ، وَلَا يُعَادِيَهُ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْلِمَهُ، وَلَا يَخْذُلَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ )<a href="#_ftn11" id="_ftnref11">[11]</a>.



جاء النهيُ مُشَدَّدا عن التقاطع والتدابر والتحاسد والتناجش والتباغض، وعن سبِّ المسلم واحتقاره وترويعه وظلمه وهجره. ووردت النصوص بثواب قبول الأعذار، وبفضل الإصلاح بين الناس. فقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ إِخْوَةٞ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ ﴾<a href="#_ftn12" id="_ftnref12">[12]</a>.



وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ<a href="#_ftn13" id="_ftnref13">[13]</a>، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ<a href="#_ftn14" id="_ftnref14">[14]</a> ).<a href="#_ftn15" id="_ftnref15">[15]</a>



من المفروض أن تُشاعَ معاني هذه الشعبة الإيمانية بين الأفراد، وفي المؤسسات، وأن تسريَ روحُها في دواليب الحكم والسياسة. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله : ( ثم يكتسب المؤمن وسط الجماعة وتكتسب الجماعة بنشاط أفرادها، الفضيلة الخلقية والسياسية بالقدرة على رعاية حقوق المسلمين والدفاع عنها، وبإصلاح ما أفسدته ذات البين الاجتماعي وما أفسده الظلم السياسي )<a href="#_ftn16" id="_ftnref16">[16]</a>.



ويتولى الجميعُ مسؤوليةَ الحفظ والرعاية ( فيكون في كل بيت، وفي كل مرفِق من المرافق، وكل مؤسسة، بالتدرج والبناء الصابر، راعٍ يرعى، ومسؤول عن رعيته يُجَنِّدُه لخدمة دين الله عز وجل باعثُ القرآن قبل أن يردعه وازع السلطان. هكذا حتى يتكامل البناء يشدُّ بعضه بعضا، من الإمارة العليا إلى المرأة الراعية لحقوق أسرتها الحافظة لحدود الله في بيتها )<a href="#_ftn17" id="_ftnref17">[17]</a>.



<hr class="wp-block-separator has-alpha-channel-opacity"/>



<a href="#_ftnref1" id="_ftn1">[1]</a> سورة الأنفال : 75



<a href="#_ftnref2" id="_ftn2">[2]</a> سورة الأنفال : 73



<a href="#_ftnref3" id="_ftn3">[3]</a> سورة المائدة : 3



<a href="#_ftnref4" id="_ftn4">[4]</a> سورة التوبة : 72



<a href="#_ftnref5" id="_ftn5">[5]</a> سورة النور : 60



<a href="#_ftnref6" id="_ftn6">[6]</a> ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، ج 18، الدار التونسية للنشر 1984، ص307.



<a href="#_ftnref7" id="_ftn7">[7]</a> رواه الإمام مسلم رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.



<a href="#_ftnref8" id="_ftn8">[8]</a> رواه الإمام مسلم رحمه الله.



<a href="#_ftnref9" id="_ftn9">[9]</a> رواه الإمام الطبراني رحمه الله في &#8220;المعجم الأوسط&#8221;.



<a href="#_ftnref10" id="_ftn10">[10]</a> رواه الإمام أحمد رحمه الله.



<a href="#_ftnref11" id="_ftn11">[11]</a> ابن مفلح الحنبلي، أبو عبد الله محمد، الآداب الشرعية والمِنَح المَرعِية، ج18، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت/ لبنان، 1419/1999، ص305.



<a href="#_ftnref12" id="_ftn12">[12]</a> سورة الحجرات : 10



<a href="#_ftnref13" id="_ftn13">[13]</a> البين: البعد والفراق، وذات البين: التخاصم والتهاجر.



<a href="#_ftnref14" id="_ftn14">[14]</a> البغضاء تحلق الدين أي تذهب به، كالموسى تذهب بالشّعر.



<a href="#_ftnref15" id="_ftn15">[15]</a> رواه الإمام أبو داود رحمه الله.



<a href="#_ftnref16" id="_ftn16">[16]</a> ياسين، عبد السلام، القومية العلمانية، مطبعة فضالة- المحمدية، المغرب، الطبعة الأولى يونيو1989، ص145-146.



<a href="#_ftnref17" id="_ftn17">[17]</a> ياسين، عبد السلام. الإحسان، ج2، مطبوعات الأفق، المغرب، الطبعة الأولى1998، ص120 (ترقيم سراج).

التزكية والدعوة

رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

البر وحسن الخلق

رعاية حقوق المسلمين والإصلاح بين الناس

إكرام الجار والضيف

القوامة والحافظية

الزواج بآدابه الإسلامية وحقوقه

الإحسان إلى الوالدين وذوي الرحم والصديق

مقالات ذات صلة