مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

المرأة والأسرة

عمل المرأة في البيت: من الأنانية إلى الإحسان

0
عمل المرأة في البيت: من الأنانية إلى الإحسان

عمل المرأة في البيت: من الأنانية إلى الإحسان: 

مقدمة

أثارني مقطع من خطبة يتداول على مواقع التواصل الاجتماعي؛ يبين فيه الخطيب اتفاق جمهور العلماء على أن عمل المرأة في بيتها وخدمتها لأهلها من طبخ وتنظيف وكنس… ليس واجبا عليها، فمن حقها أن ترفض وأن تطالب زوجها بخادم أو أن يوفر لها هذه الخدمات، كل ذلك بموجب الشرع ومقتضاه، وإن كان هذا الكلام – حسب رأي الخطيب- قد يزعج كثيرا من الرجال الذين سيغضبون وينزعجون؛ لأنهم ربما يصدمهم العلم بحق من حقوق المرأة الذي يقرع أسماعهم لأول مرة، فيقلب موازين مفاهيمهم، وهم الذين تربوا على أن مهمة المرأة الأساسية خدمة الزوج والأولاد، وبالمقابل أتخيل النساء اللواتي عرفن هذه المعلومة، كيف سيتعاملن معها؟ ألا يمكن لهذه المعلومة التي لم توضع لها مقدمات ولا حواشي للشرح والتعليق والإيضاح أن تخلق المشاكل في بيوت الكثيرين؟ من أجل ذلك أردت أن أبسط القول في موضوع عمل المرأة في بيتها، مسترشدة برأي الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، ذلك أن حصر المسألة في الحق والواجب هو في رأيي من باب حجر الواسع، فإن فتحنا للأزواج باب البذل والعطاء والسلوك والارتقاء، سنكون قد منحناهم فرصة للتنافس على الخيرية والإحسان وحسن الاقتداء.

الإسلام يثمن خدمة المرأة لبيتها وزوجها

لا شك أن السيرة النبوية العطرة تحمل في ثناياها عدة إشارات على قيمة عمل المرأة في بيتها وخدمتها لأهلها، نلتقط هذه الإشارات الجلية تارة والخفية تارة أخرى من سيرة الرعيل الأول من الصحابيات رضي الله عنهن، فهذه أمنا خديجة خير نساء العالمين، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته وحمته، جاءتها البشارة من السماء حيث “أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربي ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب” [ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها، رقم الحديث: 361. [/ref] ، جاءت بشارة السماء لأمنا خديجة من السماء في لحظة من لحظات خدمتها لزوجها، فهي تحمل في يدها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فلماذا اختار الوحي هذه اللحظة؟ أليست هذه إشارة إلى أهمية هذه المهنة؟ وهذه أسماء بنت يزيد الأنصارية خطيبة النساء، جاءت وافدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملة تساؤل النساء  “إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟…، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، و اتباعها موافقته، يعدل ذلك كله” [ref]ـ أحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان، باب في حقوق الأولاد والأهلين، رقم الحديث: 8460. [/ref]لقد خرجت أسماء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرة مهللة، وكيف لا وقد رفع الرسول قيمة ما تقوم به النساء من خدمات في بيوت أزواجهن إلى مرتبة تعادل حضور الجمعة والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج والأفضل الجهاد في سبيل الله، توجيه نبوي من الحبيب صلى الله عليه وسلم لتعظم المرأة المسلمة ما تقوم به من عمل في بيتها، عملها في البيت بهذه المعادلة النبوية هو مرقاة للصعود في مدارج الإيمان وفضائل الأعمال، تصل إلى منزلة هي الجهاد في سبيل الله، تلاحق المرأة المسلمة بما تسديه من خدمات الرجال فيما فرض عليهم، وأعفيت هي منه تيسيرا لها وتوسعة عليها، لتتفرغ لمهمة لا يمكن أن ينبري لها سواها تربية النشء و رعاية بيتها، فـ“المرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيته”.[ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده، رقم الحديث: 2419.[/ref]

الصحابيات يخدمن بيوتهن

لقد قدمت الصحابيات النموذج والقدوة على تآزر الزوج والزوجة، والصبر على لأواء الحياة، كل ذلك من أجل حفظ تماسك البيت الإسلامي ومتانته، فكتب السيرة تسرد لنا الأمثلة المتعددة، نذكر منها سيدتنا أسماء بنت أبي بكر التي تصف مهنتها في عمل أهلها وخدمة بيتها في الحديث الصحيح. قالت: “تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك من شيء غير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤونته (أي مشقته) وأسوسه. وأدق النوى لناضحه (جمل يجلب عليه الماء) فأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه (أرقع الدلو)، وأعجن. ولم أكن أحسن أخبز. فكانت تخبز لي جارات الأنصار، وكن نساء صدق. وقالت: وكنت أنقل النوى”. [ref]- محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري في كتاب النكاح، باب الغيرة، رقم الحديث: 5224. [/ref]ونذكر أيضا، سيدة نساء الجنة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، “أنها كانت تطحن رضي الله عنها حتى مجلت يداها (أي انتفختا ونفطتا)، وجاء مال للنبي صلى الله عليه وسلم، فبعثها علي لتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدها بخادمة تعينها، فاستحيت أن تفاتح أباها في الموضوع، فجاء علي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، لقد سَنَوْتُ حتى شكوت صدري”. سَنَوْتُ بمعنى جذبت الدلو من البئر … فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما شيئا ويترك أهل الصفة”، [ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب كيف يكون الرجل في أهله، رقم الحديث: 5692.[/ref] وعلمهما إذا أويا إلى فراشهما أن يسبحا ثلاثا وثلاثين وأن يحمدا مثل ذلك وأن يكبرا مثل ذلك. فاطمة الزهراء رضي الله عنها ما كلفت بإتعاب نفسها وهي الشريفة العظيمة، لكن لما كان علي فقيرا يعمل أجيرا في سنو الماء، وكانت هي خريجة بيت النبوة، بيت العلم والحلم والفضيلة اختارت أن تمد يد العون لزوجها حبا وكرامة، وبالمقابل أشفق الزوج الحاني عليها، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يساعدها بخادمة، فعمد الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يربطهما بالخالق عز وجل تسبيحا و حمدا وتكبيرا لطلب العون منه ولم يسعفها بخادم.

المرأة راعية وحافظة

أخرج البخاري بسنده المتصل عن بن عمر رضي الله عنهما قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع و مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده وهو مسئول عن رعيته”، [ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده، رقم الحديث: 2419.[/ref] للمرأة من خلال الحديث مسؤولية في بيتها تأدية لمهمة الحافظية التي وكلت إليها لقوله عز وجل فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظ َالله (النساء: 34)،”والحفظ استمرار واستقرار هما قطب السكون في الحياة الزوجية وحياة المجتمع. النساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة، وحضن للتربية، ومطعمات وكاسيات ومدبرات لضرورات معاش الأسرة”، [ref]ـ عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1، 1996، 2/ 88.[/ref] والسؤال هو: هل يمكن للمرأة المسلمة أن تحقق الحافظية التي كلفها بها الشرع، دون أن تكون مشرفة هي بنفسها على خدمة بيتها؟. لعل مفاتيح الحفظ ستكون بيدها إن هي سعت لطاعة خالقها، وتطلعت للقائه وهو راض عنها، وجعلت سبيل ذلك خدمة زوجها وأولادها، تزرع الخير والحق في نفوس أبنائها كما تعتني بصحتهم ونظافة مأكلهم وملبسهم، تحفظ نفسهم وعقلهم ودينهم، وترعاهم بنفسها أو تستعين في ذلك بمن يخدمها، على أن تكون في كل الأحوال على دراية تامة بأدق تفاصيل بيتها، لا تنوب عنها في ذلك أحدا، ولا يلهيها شيء؛ خاصة في زماننا حيث تعددت الملهيات والمشاغل والمفاتن. تتخذ من خدمة البيت سلما للرقي ومصعدا لنيل الدرجات، تجدد نيتها وتساعد زوجها بالأناة والحلم والتذكير ليتخلص من أنانيته ويقدر قيمة عملها في بيتها، ويتشرف هو أيضا بمد يد العون.

أنانية الرجال تذوب بالاقتداء

تحكي أمنا عائشة عما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، “فقالت: كان يكون في مهمة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة”.ـ [ref]محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب كيف يكون الرجل في أهله، رقم الحديث: 5692.[/ref]

وتروي عنه أيضا “ما كان إلا بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه” [ref]ـ محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، كتاب القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 2489.[/ref]، فهلا عاد الرجال من المسلمين إلى سيرة الحبيب صلى الله عليه في بيته وفي مهمة أهله حتى تذوب أنانياتهم، فيفعلون كما كان يفعل عليه أفضل الصلاة والسلام، ويساعدون زوجاتهم اقتداء به و اتباعا لهديه؟ هذه الأنانية هي التي فرضت على المرأة أشغال البيت فأصبحت عادة، تضاف إليها أعباء أشغال جلب الماء والزراعة بالنسبة للمرأة في البادية، وأعباء الشغل خارج البيت والوظيفة بالنسبة للمرأة المعاصرة. هذه الأنانية الذكورية البعيدة عن روح الإسلام هي التي ألزمت الفقهاء أن يضعوا لها حدا لردع النزاعات التي قد تحدث، فاتفقوا على أن الزوج الموسر يلزمه خادم لزوجته كما تلزمه نفقتها ونفقة أولادها من باب المعاشرة بالمعروف لقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُن باِلْمَعْرُوف) (النساء الآية 19). والأصل أن يكون هناك تعاون بين المرأة والرجل على أعباء البيت، إحسانا بينهما وتآلفا ورحمة، تنطلق هي من حافظيتها وتخدم بينها تبتغي وجه الله في رعاية بيتها وخدمة أولادها ومد يد العون لزوجها، ويساعدها الرجل اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم- خير الناس لأهله- ويشجعها بالكلمة الطيبة، والابتسامة الشاكرة، والهدية الداعمة، وبالتذكير بفضلها، وتذكيرها بما تناله من عظيم الأجر وكبير الشرف حين تدخل السعادة على أسرتها، بما تقدمه من خدمات، تجعل كل أفراد الأسرة يجدون في البيت حضنهم الدافئ و حصنهم الآمن، وهذا يرقيها لتلحق بركب من سبق من أمهات المؤمنين؛ من لا يرين في خدمة بيوتهن وضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واجبا وشرفا.

شغل بلا عطلة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها”، [ref]ـ محمد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب العتق، باب العبد راع في مال سيده، رقم الحديث: 2419. [/ref]وإن كانت مسؤوليتها في بيتها لا تنسخ مسؤوليتها خارجه إلا كما تنسخ سائر التكاليف الشرعية عنها لقوله عز وجل: وَالمُؤمِنُونَ وَالْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُم أوْلِياَء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَلاَةَ ويِوتُونَ الزَّكاَةَ ويُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَه أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم (التوبة: 72)، فحبس المرأة تعطيل لمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضييع لحقها في التعبئة الجهادية التي تعز بها الأمة ويشرُفُ بها مثوى المؤمنين والمؤمنات في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، من أجل ذلك؛ فإن النموذج الذي ينبغي الاقتداء به هو ذلك الذي رعته تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، نموذج الأمهات المجاهدات اللواتي أحيين في الأمة رجالا مجاهدين فاتحين، من أمهات المؤمنين ومن الصحابيات من أمثال أسماء بنت أبي بكر التي أبلت البلاء الحسن في الهجرة وفي تصديها للحجاج الثقفي، وكذا أسماء بنت يزيد الأنصارية ببلائها مع غيرها من النساء المجاهدات في موقعة اليرموك وغيرهن من النماذج كثيرات، لم يكن حبيسات بيوت ولا غائبات عن مجالس الإيمان و العلم وساحات الجهاد، بيعة وهجرة وحتى نزالا في ساحات الوغى ورأيا ومشورة واستشارة. لم يمنعن إقراء الضيف وتربية النشء ومساعدة الزوج وخدمة البيت من تحصيل العلم والمشاركة في الجهاد بكل أبوابه.

خاتمة

جميل أن يعرف الرجال قيمة عمل المرأة في بيتها وفضل هذه الخدمة وعظيم شأنها عند الله عز وجل، وأنه لا ينال منهم وسام الخيرية إلا من اقتدى بخير البرية، وتنازل عن أنانيته ومد يد العون وكان خيِّرا مع أهله، ولكن الأجمل أن تسعى المرأة لنيل أعلى الدرجات والمقامات، فتجدد النيات وتحرص على رعاية بيتها وتعتبرها نافلة من النوافل وطاعة من الطاعات، فلا يرضي الزوجة المؤمنة ولا يرضي الزوج المؤمن إلا أن يكونا ممن يقال لهم يوم القيامة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُم وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (الزخرف:70).

أضف تعليقك (0 )



















يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد