post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

مأساة تتجدّد وموازين دولية تتعرّى تعيش غزّة اليوم في منطقةٍ متوحّشة بين ألمين؛ وجع العدوان المباشر ووجع التواطؤ غير المعلن. يقف القطاع على حافة الفناء بين قصفٍ ينهال من السماء وغرقٍ يزحف مع كل شتاء، بين حرّ النار التي تشقّ ليلها وبين برد الخيام الذي يحاصر من نجا من السقوط. هذا المشهد الذي يتكرّر كل يوم ليس مجرد كارثة إنسانية؛ بل هو مرآة عارية تكشف انهيار منظومة سياسية دولية تتواطأ بالصمت حين تعجز عن التورّط بالفعل. منذ عامين، يكشف الاحتلال الإسرائيلي عن عجْزٍ واضح عن حسم معركته، رغم ما يملكه من آلةٍ عسكريةٍ هائلة. ومع هذا العجز، يتقدّم الدور الأمريكي ليملأ الفراغ، ويصل إلى حدّ إدارة الحرب بشكل مباشر، لا من وراء الستار. تتحوّل الولايات المتحدة – التي تدّعي رعاية السلام – إلى طرفٍ فاعل في صناعة الموت، تدفع نحو استمرار الحرب، وتمنح غطاءً سياسياً ودبلوماسياً لعدوان لا يملك أي شرعية أخلاقية أو قانونية. وفي مقابل عدوان الأعداء، يتكشّف وجه آخر لا يقل قسوة: خذلان &#8220;الإخوة&#8221;. دولٌ عربية وإسلامية تكتفي بالبيانات أو بالمبادرات التي تُدار بعقلية إطفاء الحرائق، لا بعقلية تحمّل المسؤولية التاريخية. هذا العجز الرسمي يواكبه شبه عجز شعبي، فالشعوب تقف حيث يجب أن تقف، لكنّ القرار، كما هو معروف، ليس بيدها. أما المؤسسات الدولية، فقد وصلت إلى حدّ السقوط الأخلاقي. أمم متحدة تصدر قرارات تساوي بين الجلاد والضحية. مجتمع دولي يفرض الحصار على المحاصر، بينما يواصل تمكين المجرم من اجرامه. وما لم يتحقق عبر المجازر والتهجير والطائرات على مدى سنتين، يراد اليوم أن يتحقق بوسائل غير مباشرة: تجويع، ترويع، تسييس المساعدات، منع إعادة الإعمار، وإبقاء القطاع تحت خط الحياة. ومع ذلك، وفي قلب هذا الخراب، تقف غزّة صامدة. لا تسقط رغم محاولات الإبادة، ولا تنكسر رغم سحق البنية التحتية الإنسانية والاجتماعية. لقد تحوّلت البقعة الصغيرة إلى مركز ثقل سياسي عالمي، يعاد عندها تشكيل صورة العدالة الدولية والقانون الدولي. فبينما يتعرّى العالم، تبقى غزّة شاهداً على نبل الضحية وقسوة النظام الدولي كله. غزّة اليوم ليست قضية إنسانية فقط؛ إنها قضية سياسية تكشف من يحكم العالم، ومن يصنع القرار، ومن يملك الحق في البقاء، ومن يُحكم عليه بالموت. إنها اختبارٌ أخلاقي فشل فيه العالم، وامتحان للصمود نجح فيه شعبٌ اختار أن يعيش واقفاً أو يموت واقفاً. ستظل غزّة بين ألمين، لكنها ستظل أيضاً بين حقٍّ لا يموت، وإرادةٍ لا تُقهر، وقضيةٍ لا تُطوى. وما لم تفهمه القوى الكبرى حتى الآن هو أن الشعوب، مهما طال الزمن، لا تستسلم… وأن المدن التي تُقصف قد تنهض من تحت الركام، لكنّ الأنظمة التي تخون لن تنهض أبداً.

تدوينات

غزّة بين ألمين

أضف تعليقك (1 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

غزّة بين ألمين

القضية الفلسطينية في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله

عبد الصمد فتحي | أتمدحه أم تذمه؟..

مقالات ذات صلة