مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسينمدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين
مدرسة الإمام المجدد
عبد السلام ياسين

التزكية والدعوة

فقه الدعاء عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين

0
فقه الدعاء عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين

مقدمة: 

قال الله تعالى: “ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان؛ فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون” [البقرة:184]
إن الدعاء من أفضل العبادات القلبية؛ ومن أعظم القرب إلى المولى عزوجل؛ فهو سبيل الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة؛ لذلك أولاه الإمام المجدد – رحمه الله – العناية البالغة وفق رؤية تجديدية عميقة . فما مكانة الدعاء من الدين؟ وكيف قارب الإمام المجدد هذه القضية تنظيرا وتطبيقا؟

مكانة الدعاء من الدين

جاء في جامع الترمذي بسند صحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “” الدعاء هو العبادة؛ ثم قرأ:”وقال ربكم ادعوني أستجب لكم“سنن الترمذي؛ فقد جعل الله تعالى الدعاء والعبادة شيئا واحدا فقال سبحانه: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر:60].وجاء في رواية أخرى: “الدعاء مخ العبادة” ومخ الشيء خالصُه كما جاء عند أهل اللغة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل العبادة الدعاء” [ref]- صحيح رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس؛ وابن عدي عن أبي هريرة؛ وابن سعد عن النعمان بن بشير؛ وصححه الحاكم وأقره الذهبي؛ وصححه السيوطي؛ والألباني في صحيح الجامع رقم 1122.[/ref] ؛ فالدعاء تذلل وخضوع؛ وإخبات على سدة الكريم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” الدعاء هو العبادة” [ref]- رواه أحمد وابن أبي شيبة؛ والبخاري في الأدب المفرد؛ وأبوداود والنسائي؛ والترمذي عن النعمان بن بشير، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم:3407.[/ref] . قال الخطابي: “معناه: أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، كقولهم: الناسُ بنو تميم؛ والمال الإبل…وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الحج عرفة”).

والله عز وجل أمر الإنسان بالدعاء وتكفل سبحانه بالإجابة؛ والمؤمن حينما تنزل به النوازل وضرورة الاحتياج يبادر إلى سؤال الغني المفضال سبحانه؛ فلا ينهض بحاجات العبيد سواه.“سبحانه من لطيف لم تخف عليه مضمرات القلوب؛ فيفصح له عنها بنطق بيان؛ ولم تستتر دونه مضمنات الغيوب؛ فيعبر له عنها بحركة لسان؛ لكنه أنطق الألسن بذكره؛ لتستمر على ذله العبودية؛ وتظهر به شواهد الربوبية).
“)وحقيقته: إظهار الافتقار إليه؛ والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية؛ واستشعار الذلة البشرية؛ وفيه معنى الثناء على الله؛ وإضافة الجود والكرم إليه”) [ref]- شأن الدعاء للحافظ الخطابي.ص 1-4 ؛ تحقيق أحمد يوسف الدقاق. دار المأمون للتراث[/ref] .

إن الدعاء هو لب العبودية المطلوب تحققها؛ والافتقار إلى الله تعالى والاضطرار إليه لهو ” حقيقة العبودية ولبها”) [ref]- مدارج السالكين لابن قيم الجوزية؛ 2/439.[/ref] .

قال الله عزوجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب؛ أجيب دعوة الداع إذا دعان؛ فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون [ البقرة:184] انظر إلى كلمات الآية تجدها شفافة رفافة تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة والود المؤنس والرضا المطمئن والثقة واليقين..يعيش المؤمن منها في جناب رضي وقربى ندية وملاذ أمين وقرار مكين؛ وهو يدعو سيد السادات الذي ليس له مثل ولا نظير سبحانه عز وجل [ref]- صلاح الأمة في علو الهمة؛ سيد العفاني 5/ 105.مؤسسة الرسالة2006- 1427هأ.[/ref] .

عن الصَّلْت بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن أعرابيا “قال: يا رسول الله ؛ أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت:” وإذا سألك عبادي عني فإني قريب” روى هذا الحديث كل من ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري وابن مردويه وأبي الشيخ الأصبهاني.

والدعاء سبيل لتحيق المعية الربانية والعناية الإلهية؛ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي وأنا معه إذا دعاني” أخرجه الإمام أحمد . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى “أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه” رواه الإمام أحمد في المسند.

والله تعالى حيي كريم جواد؛ لا يغفل سؤال سائل ولا يهمل دعوة داع إذا أخلص التضرع والتوجه للمولى سبحانه؛ وتعفف في المطعم والمشرب؛ وتحرى الحلال في معاملاته..فعن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين” [ref]- أخرجه أحمد في المسند وابن ماجة وأبو داود؛ والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .والحديث حسن[/ref] .

الدعاء عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين

1- دعاء الرابطة

جعل الأستاذ ياسين رحمه الله الدعاء منطلقا أساسيا ومفتاحا رئيسًا للجمع بين الصحبة والجماعة والتقاء الصحبة بالجماعة حتى لا تكون الجماعة هيكلا وتصير الصحبة انفرادية وهو ما عبر عنه بدعاء الرابطة وأهميته في جمع شمل المؤمنين ولم شعثهم؛ يقول – رحمه الله – في المنهاج النبوي :“ما سماه الشيخ البنا رحمه الله ورد الرابطة إنما هو تجسيم وتطبيق عملي لعقد الأخوة بين المومنين.)“)ونرى دعاء الرابطة ضروريا لربط المؤمنين في جماعة. فإذا سرى معنى الربط بتكرار المجالسة؛ وتكرار الوقوف بين يدي الله في الصلاة؛ والعمل المشترك؛ والدعاء الرابط؛ التقت الصحبة بالجماعة ولم تكن الجماعة شكلا ولا الصحبة صحبة انفرادية”) [ref]- المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا ص:127[/ref] .
وكان – رحمه الله – شديد الحرص على التذكير به وبأهميته في جل مجالسه وكلماته التوجيهية لإخوان وأخوات الجماعة؛ فلا يكاد يخلو مجلس من المجالس أو كلمة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة إلا وتجد الحث والحض على ملازمة دعاء الرابطة والمحافظة عليه [ref]- انظر كلمته المرئية التوجيهية إلى مجلس الشورى. والوصية حينما ختمها رحمه الله بدعاء الرابطة[/ref] . ولقد يسر الله لنا مجالسته فكان كثيرا ما يسأل: من منكم يواظب على دعاء الرابطة؟ ويكرر يواظب؛ ويحفز المؤمنين والمؤمنات على ذلك لما فيه من خير عميم وفضل كثير وأنه مظنة القبول عند الله سبحانه وتعالى.

فحتى يستشعر المؤمن انتماءه إلى الموكب النوراني- موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة؛ يوجه الإمامُ المؤمن والمؤمنة إلى افتتاح هذا الدعاء المبارك “بسورة الفاتحة ثم يستغفر الله لذنبه؛ ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا والآخرة. ويصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنبياء الله ورسله..ثم على الخلفاء الراشدين والصحابة والأزواج والذرية. ثم على التابعين وصالحي الأمة وأئمتها. ثم يتلو معمما الدعاء : )ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا؛ ربنا إنك رؤوف رحيم“)ثم على المومنين المجاهدين في عصرنا ويعرض على الله حَوْبتنا ويستفتح للمجاهدين. ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم رباط الجهاد ويذكر الأسماء. ثم يسأل الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة والمغفرة والنصر وخير الدنيا والآخرة. ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل الإسلام والخلافة والظهور على الأعداء”) [ref]- المنهاج النبوي؛ص: 127[/ref] .

فالإمام المجدد ينقل المؤمن المجاهد- والمؤمنة من فهم ضيق لمسألة الدعاء إلى النظرة الشمولية المؤطَّرة بالرؤية الجهادية الجامعة بين الترقي الفردي وإصلاح العلاقة بين العبد وربه؛ وبين التوجه بالدعاء لمستقبل الأمة ولغد الخلافة على منهاج النبوة إن شاء الله تعالى؛ مع استحضار لقوافل الخير من الأنبياء والرسل والصحب والآل والعارفين بالله عزوجل ؛ والمحدثين الكرام والأئمة الأعلام والعلماء العاملين؛ وصولا إلى حاضر الأمة والتهمم بأحوالها وما تتعرض له من محن وابتلاءات؛ ثم التأكيد على أهمية الدعاء في تمتين روابط الصف والتنظيم؛ فلتحقيق الأخوة الإيمانية الحقة لابد من الدعاء لمن تربطك بهم روابط الجهاد والدعوة بظهر الغيب؛ فهو مظنة الإجابة بإذن الله تعالى . عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل” [ref]- رواه مسلم؛ ورواه الإمام النووي في رياض الصالحين كتاب الدعوات؛ باب:فضل الدعاء بظهر الغيب.ص:300. دار الكتب العلمية1420هـ/1999م[/ref] ، وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: “دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة؛ عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين؛ ولك بمثل”” [ref]- رواه مسلم[/ref] . ومما يرويه عنه الأستاذ منير الركراكي مشافهة: “من لم يذكر أخاه في مواطن الدعاء؛ فمحبته له ادعاء”).

قال الشعراني في “العهود المحمدية”: وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: إذا وقع لأحدكم تقريب في المواكب الإلهية فلا يقتصر على الدعاء في حق نفسه فيكون دنيء الهمة وإنما يجعل معظم الدعاء لإخوانه المسلمين. وقد من الله تعالى علي بذلك ليلة من الليالي لما حججت في سبع وأربعين وتسعمائة فمكثت في الحجر أدعو لإخواني إلى قريب الصباح فأعطاني الله تعالى ببركة دعائي لهم نظير جميع ما دعوته لهم بسهولة ولو أني دعوت ذلك الدعاء لنفسي لربما لم يحصل لي ذلك فالحمد لله رب العالمين.

الدعاء وعقد الأخوة

يسمي الإمام تلك الرابطة الأخوية الإيمانية بين جند الله “عقد أخوة”)؛ ويدعو إلى تمتينها وتقويتها بالدعاء بظهر الغيب؛ وبث الشكوى الجماعية إلى المولى سبحانه في انطراح تام بين يديه؛ وخضوع وخشوع له عزوجل. فقد ” درج السلف الصالح على عقد الأخوة في الله مع من يرتجون صلاحهم. وعقد الأخوة نوع من الصحبة دون التلمذة والمخاللة والسلوك الموجه. فكان علماؤنا وصلحاؤنا يكثرون من زيارة أهل الخير؛ ويتبركون بلقائهم؛ ويتواصون بأن يدعو بعضهم لبعض؛ ويذكر بعضهم بعضا بين يدي الله عزوجل في خلواتهم وجلواتهم وتهجدهم”) [ref]- المنهاج النبوي؛ ص: 126[/ref] .
ومن صلب العمل الدعوي المنظم زيارة أهل الخير والصلاح والتماس بركتهم والدعاء الصالح منهم؛ فذلك من سنة هذه الأمة. وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إن أدركوا أويسا القرني – ووصفه لهم – أن يلتمسوا منه الخير؛ روى مسلم بسنده عن أسير بن جابر قال: “كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس؛ فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال من مراد ثم من قرن؛ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم؛ قال: لك والدة؟ قال: نعم؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن؛ كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم؛ له والدة هو بها بر؛ لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغقر لك فافعل؛ فاستغفر لي فاستغفر له”.
“فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة؛ قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي” [ref]- رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة؛ باب من فضائل أويس القرني ؛ حديث رقم:6490. ص: 959. المكتبة العصرية؛1424هـ/2003م.[/ref] “.”
وروى البخاري عن المغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: “قدمت الشام فصليت ركعتين؛ ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا؛ فأتيت قوما فجلست إليهم؛ فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي؛ قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء؛ قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فيسرك لي”.

إنه الحرص على الصحبة الصالحة والأخوة الإيمانية؛ عن طريق الدعاء والتوجه إلى الله تعالى؛ والمحافظة عليها بالدعاء والمحبة؛ يقول الإمام المجدد: ” وفي الجماعة المنظمة المجاهدة ينبغي أن تفشو هذه الرابطة وتتمتن. فإن الله عزوجل إذا عرض عليه جماعة من المؤمنين أمورهم تضرعا وتوسلا؛ يطلبون نفس الحاجة؛ ويبثون إلى مولاهم نفس الشكوى؛ ويقدم إلى بابه كل منهم حاجة إخوته؛ خليق أن يستجيب بكرمه ورأفته”) [ref]- المنهاج النبوي؛ص: 126-127[/ref] .

ويروي الأستاذ منير الركراكي عن الإمام المرشد قوله:” إذا باعدت بينك وبين إخوتك المسافات؛ فأبق حبل الود بينك وبينهم موصولا بالمهاتفة والمراسلة والدعاء بظهر الغيب؛ والهدية المعنوية والزيارة من قريب إذا رجعت. فإن همة المنفرد بعد طول الأمد وقسوة القلب ما تلبث أن تنفلت”) [ref]- لبنات في بناء الذات؛ من كلام المرشد عبد السلام ياسين؛ منير الركراكي. اللبنة 97.[/ref] .

روى أبو نعيم في الحلية حدثنا إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق الثقفي قال سمعت أحمد ابن الضحاك الخشاب يقول وكان من البكائين رأيت يما يرى النائم شريح ابن يونس فقلت ما فعل بك ربك يا أبا الحارث فقال غفر لي ومع ذلك جعل قصري إلى جنب قصر محمد بن بشير بن عطاء الكندي فقلت يا أبا الحارث أنت عندنا أكبر من محمد بن بشير فقال لا تقل ذاك فإن الله تعالى جعل لمحمد بن بشير حظا في عمل كل مؤمن ومؤمنة لأنه كان إذا دعا الله قال اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات والكائنين منهم.

وقت الدعاء

ينصح الإمام- رحمه الله- بتحري الأوقات الفاضلة للدعاء عامة ودعاء الرابطة خاصة يقول: “ينبغي لكل مؤمن – والأفصل وقت السحر عندما ينزل ربنا عزوجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل- …”) لأن أوقات الليل وخاصة قرب الفجر هي الأوقات التي تفتح فيها أبواب السماء؛ ويتجلى الله فيها على عباده؛ مما يجعل الصلاة والدعاء في هذا الوقت أفضل من أي وقت آخر. يتمثل –رحمه الله – حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟” [ref]- أخرجه البخاري في صحيحه؛ كتاب التهجد؛ باب الدعاء والصلاة من آخر الليل.حديث رقم:1145.ج1 ص:341. المكتبة العصرية ط.2003- 1423هـ.[/ref] ، وقال عليه الصلاة والسلام: “أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن”– أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن صحيح؛ كتاب الدعوات باب 119 منه. والنسائي في كتاب المواقيت- باب النهي عن الصلاة بعد العصر.؛ لأن صلاة الليل أشق على النفس من سائر النوافل لكونها تقع في الليل الذي هو محل الراحة والدعة؛ فتكون الصلاة وقتئذ لونا من المجاهدة يتضاعف بسببها الأجر؛ وتغفر لأجلها الذنوب؛ وفي الحديث:( “” الصوم جنة؛ والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار؛ وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ: “تتجافى جنوبهم عن المضاجع“”” حتى بلغ يعملون [ref]- سورة السجدة- الآيتان:16-17، والحديث أخرجه الترمذي؛ وقال عنه : حسن صحيح(ج5ص11) كتاب الإيمان- باب ما جاء في في حرمة الصلاة.[/ref] . يقول في تنوير المومنات: “وللدعاء ساعات وأحوال مفضلة. منها وقت السحر؛ وعند الركوع والسجود؛ وأثناء الصوم؛ وفي معارك الجهاد؛ ودبر الصلوات؛ ويوم الجمعة؛ ويوم عرفة؛ وليلة القدرما أعظمها. وتحفظ المومنة الأدعية المأثورة لافتتاح الصلاة؛ وللدخول والخروج من البيت؛ وللنوم والانتباه؛ وللصباح والمساء. ولكل الأحوال كالعطاس؛ والأكل والشرب؛ والسفر. ولدعاء الاستخارة مكانة خاصة؛ تفوض الأمة إلى ربها وتستنجد به بعد تدبير أمورها بحكمة العقل والشرع.”) [ref]- تنوير المومنات؛1/377. الطبعة الأولى بالمغرب. مطبوعات الأفق- الدار البيضاء 1996[/ref] .

الدعاء من شعب الإيمان

انطلاقا من التصور الذي وضعه الإمام رحمه الله للمنهاج المنبني على شعب الإيمان؛ المجموعة في عشر خصال تؤطر سير الفرد والجماعة تربية وتنظيما وزحفا؛ نجد الدعاء حاضرا ضمن خصلة الذكر؛ عبر ثلاث شعب:
التأسي بأذكاره صلى الله عليه وسلم؛ حيث يلح – رحمه الله – على ضرورة الاقتداء بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أذكاره ودعائه ودعواته؛ ويوصي بحفظ جوامع الذكر النبوية والمحافظة على الأذكار الواردة عقب الصلوات؛ يقول : ” ونحفظ جوامع الذكر النبوية؛ ونحافظ على الأذكار الواردة عقب الصلوات؛ وفي الصباح والمساء؛ وعند الدخول والخروج؛ وعلى الأذكار الواردة في الاستعاذة؛ وعلى الأذكار غير المقيدة..”) [ref]- المنهاج النبوي؛ص 161[/ref] ، ويبين أن الأذكار النبوية منها يستمد المؤمن النور والإيمان؛ ” فقد جاءنا من الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمات محفوظة لكل مناسبات الحياة؛ ولكل منها فضيلة؛ ومن كل منها يسري إلينا مزيد من النور والإيمان”) [ref]- المنهاج النبوي؛ 161[/ref] .

الدعاء وآدابه؛ حيث ذكَّر بأهمية الدعاء ومكانته من الدين؛ وحاجة المؤمنين إليه، مع الحث على التزام آداب الدعاء في سياق السلوك الجماعي للمؤمنين والمؤمنات؛ وكيف أن الدعاء مفصلي في تمتين روابط الأخوة الإيمانية؛ وترياق لحل الكثير من المشاكل التي قد تعترض المؤمنين في التنظيم. يقول في المنهاج النبوي: “ودعوة المؤمن لأخيه عن ظهر الغيب مستجابة؛ فلا نغفل ذلك؛ نقدم بين يدي الله عزوجل مصاعبنا ومشاكلنا بعد أن نتخذ أسباب حلها. فمن خاصم أخا له فليدع أحدهما للآخر عن ظهر غيب”) [ref]- المنهاج النبوي؛ص: 162-163[/ref] .

التأسي بدعواته صلى الله عليه وسلم؛ فنجد الإمام ياسين يؤكد على تتبع الخطوات النبوية في دقائق الأمور؛ ومنها الأدعية المأثورة عنه – صلى الله عليه وسلم – فهو عليه الصلاة والسلام أعلمنا بالله؛ يعرف الخير فيدعو به والشر فيستعيذ منه، ويدعو الإمام المجدد إلى حفظ الأدعية القرآنية مع الانتباه إلى مناسبتها واستحضار سياقها” فورودها تعليم لنا أن نكون له سبحانه عبيدا كما كان أنبياؤه وأولياؤه”) [ref]- المنهاج؛ص: 163[/ref] .

الدعاء واستكمال الإيمان:

نظرا لمكانة الدعاء من الدين؛ وأهميته القصوى في السلوك الفردي والجماعي؛ جعله الإمام ياسين من دعامات استكمال الإيمان لدى المومن والمومنة، فالدعاء سبيل لتحقيق العبودية لله عزوجل واستمطار رحماته؛ يقول – رحمه الله- مذكرا بما ورد في الكتاب والسنة: “أذان منه سبحانه إلى من جفت باب ربها؛ واستغنت عن فضله بما عندها من عطائه: )قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم [ref]- سورة الفرقان الآية:77[/ref] . أذان يؤكده الحديث النبوي ليظهر خطورة جفاء أمة الله وعبد الله باب ربهما عزوجل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )“من لم يسأل الله يغضب عليه” رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند حسن”) [ref]- تنوير المومنات؛ 1/373[/ref] .

ويستنهض الأستاذ الهمم بأسلوبه الجميل؛ للإلحاح في الطلب والتعرض لنفحات المولى سبحانه؛ لأن الدعاء عبادة لا تنقطع. المداومة عليها والمواظبة والصبر هي الطريق إلى رضى الله عزوجل، إن كان الإعراض عن الدعاء والتراخي فيه معرضا لغضب الله.
“مهجورة من هجرت باب ربها لا تقرعه؛ ولا تنزل به حاجاتها. محرومة مهددة بغضب الله.ذلك أن كرمه سبحانه فياض؛ وخزائن فضله زاخرة؛ فيريد منا أن نستمطر رحماته؛ وأن نكرر الطلب؛ ونلح؛ لتتلقى عبوديتنا رأفة ربوبيته؛ ولتلتقي حاجتنا بوافر عطائه؛ ولترتوي نهمتنا بهاطل نعمائه؛ وليستجيب غناه لافتقارنا؛ وقوته لضعفنا؛ وقدرته لعجزنا؛ ووجده لفقدنا؛ وكماله لنقصنا”) [ref]- تنوير المومنات: 1/ 373[/ref] .

الدعاء مفتاح الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله تعالى شرف عظيم ومهمة نبيلة؛ إنها سبيل المرسلين والأنبياء؛ وورثتهم من الدعاة والعلماء الربانيين، وما فتئ الإمام يشحذ العزائم لتبليغ دعوة الله عزوجل للعالمين، يقول – رحمه الله- :“أوصي كل واحد منكم بنشر الدعوة. وتعزيز الصف من آكد واجباته بشرط أن يربط سعيه الدؤوب في الدعوة بسعيه الجوهري بالتقرب من مولاه؛ إنها لقربة شريفة؛ إن من أعلى شعب الإيمان بل من أسبق سابقات الجهاد أن تدعو غيرك إلى الله؛ إنها مهمة الرسل والأنبياء عليهم السلام ومهنة المصطفين من عباد الله؛ فتعست همة لا تطمح هذا المطمح؛ ولا عاش من لا يحمل هم الأمة. الساكت عن الدعوة ساعة من نهار وفرصة كل لقاء مثبط قاعد”) [ref]- مقتطف من رسالة الشجرة المباركة بتاريخ 25 جمادى الثانية1406هـ.[/ref] .
ويؤكد على أن الدعوة إلى الله رزق يعطاه العبد؛ وباب للرحمة والخيرات مفتاحه الدعاء؛ والدعوة الناجحة الفالحة هي المقرونة بالدعاء، والرحمة بخلق الله عزوجل. وأنه كلما استعص أمر من أمور الدعوة إلا ويلجأ المؤمن للدعاء؛ فهو السلاح الأمضى؛ والعدة الواقية؛ كيف لا والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل !
يقول – رحمه الله – في اتصاله الهاتفي مع أبناء الجماعة في أحد الأنشطة بالدار البيضاء، بتاريخ ضحى الأحد 15 من شهر محرم الحرام 1425هـ،:
“ثم نقف وقفة تأملية في أثر الإمام الحسن البصري رحمه الله يروي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “)“والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله أن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة”“) .

أرأيتم أهمية الدعوة إلى الله عز وجل وأهمية ما تقومون به صباحكم ومساءكم وأيامكم وشهوركم وأعوامكم وعمركم المديد إن شاء الله. هذا شرف كبير ينبغي أن نستعد له بالأخلاق الطيبة وخاصة في بيوتنا.
حديث آخر أخرجه الإمام الترمذي وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وغيرهما من أهل الحديث يروون عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”“من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئا يعطى أحب إليه من أن يسأل العافية”” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينـزل. فعليكم عباد الله بالدعاء.

أيها الأحبة إن ارتباط الدعاء بالدعوة، إن تأملنا، ارتباط وثيق، أن تدعو الناس إلى الاستقامة وأن تدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان وإلى الإحسان، وأن تدعو الناس إلى الانضباط في جماعة مجاهدة هذا شيء من الصعب أن تناله إن لم يكن لك باب الدعاء مفتوحا، إن لم يكن لك باب الرحمة مفتوحا، وباب الدعاء هو باب الرحمة ، من فُتح له منكم باب الدعاء فُتحت له أبواب الرحمة . فلتكن دعوتنا رحمة بالعباد ولتكن دعوتنا للعباد مقرونة بالدعاء . إذا استعصى علينا شخص أو أشخاص أو عمل دعوي نلجأ إلى الله عز وجل ونستفتح بالدعاء أن يرحمنا. إن استعصى علينا من أمر أسرتنا وذريتنا وسائر أمورنا شيء نستفتح بالدعاء ونطلب الله عز وجل أن يرحمنا ونتخلق بالدعوة الرحيمة الشفيقة بالخلق.

خاتمة

إن الإمام ياسين – رحمه الله – قارب مسألة الدعاء مقاربة شمولية؛ منطلقة من الرؤية الجهادية التي ينبغي أن تؤطر سلوك الفرد المؤمن والجماعة المجاهدة، فلا يبق الدعاء محصورا في أذكار تردد دونما تدبر ولا حضور قلبي؛ ولطالما أكد الإمام في مجالسه على أن يكون دعاء الرابطة من إنشاء الأخ المؤمن مع التنويع في الصيغ المأثورة الواردة وعدم الاقتصار على طريقة أو صيغة واحدة. وما كل ذلك إلا لأن الدعاء عبادة مستمرة لا تنقطع والمواظبة عليها من أسباب الفلاح وعلامات النجاح. يروي أحد الإخوان عن الإمام أنه سأله الدعاء له؛ فأجابه الإمام المجدد قائلا:” وهل لي من حرفة غير الدعاء”). رحم الله الإمام المجدد وأجزل له المثوبة والعطاء؛ وجعلنا على أثره. آمين والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليقك (0 )



















النشرة الإخبارية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لضمان حصولك على أفضل تجربة ممكنة. تعرف على المزيد