post

مدرسة الإمام المجدد عبد السلام ياسين

إذا سألت أحد أعضاء جماعة العدل والإحسان؛ من أنتم؟ أجابك في كلمات مختصرات بينات؛ &#8220;نحن جماعة نتوب إلى الله وندعو الناس للتوبة&#8221;. جعل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله من التوبة مشروعا تغييريا للفرد والجماعة، فلا يخلو مخطوط مما خطت يده إلا وفيه دعوة إلى التوبة، وحمّل هذا المصطلح من المفاهيم القرآنية والنبوية ما جعله يترقى من مجرد تحول عبد عن ذنب أو معصية إلى يقظة قلبية عامة، وإلى توبة جماعية.
<h2>أول خطى التربية</h2>
&#8220;أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطِنَة من العلوم والأعمال، وإن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: &#8220;الإسلام علانية والإيمان في القلب&#8221;) [ref]ابن تيمية في الفتاوي ج 10 ص 15[/ref] ، والتوبة كما لا يخفى هي من الأعمال الباطنة التي هي أصل الدين كما أسلف شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، وهي أول خطى التربية &#8220;تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد &#8220;الالتزام&#8221; الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت&#8221;) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين،الإحسان،التوبة واليقظة، ج1 ص119[/ref] . ويقول الله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [ref]سورة لقمان، الآية 15[/ref] ،قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: &#8220;التوبة صفة المؤمنين(&#8230;) والإنابة صفة الأولياء، قال الله تعالى: وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ref]سورة ق، الآية 33[/ref] ، وأما الأوبة فهي صفة الأنبياء والمرسلين&#8221; [ref]العز بن عبد السلام، بين الحقيقة والشريعة ص 59[/ref] . و&#8220;باتباع المنيبين فقط يمكن أن نرجع إلى الله، ونبُلَّ غُلة النّفس، ونكف عن زرع الأماني والتواني، ذلك الزرع الذي لا يُحصد منه إلا التلف واللهف&#8221;) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، الإحسان، التوبة واليقظة، ص120[/ref] . وما يغير وجه العالم من لم يغير نفسه. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ref]سورة الرعد، الآية 11[/ref] .
<h2>توبة على منهاج النبوة</h2>
حين يتحدث الأستاذ المرشد رحمه الله عن التوبة لا يقصد مجرد الندم على ذنب والكف عن معصية. لكن التوبة العميقة التي تقلب كل الموازين، العقلية القلبية الأخلاقية السلوكية، وتوجه التائب وِجهةَ الآخرة، وتستنقذه من عبوديته لهواه وأهواء الناس، وتُخْلصهُ لله عز وجل خالقِه ورازقِه. التوبةُ بهذا المعنى قلب دولة كما يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهُ الله. قلبُ دولة النفوس، لا مَسْعَى من دونها لقلب دولة الباطل في العالم. &#8220;التوبة قلب دولة&#8221; أيها الأحباب! هي وضع الدنيا في سياق الآخرة، هي نظم الدنيا في سلك الآخرة، هي الذكر الدائم لله عز وجل والمصير إليه، ثم العمل الجاد الدائب في الدنيا للآخرة. عقيم هو الإيمان بالمصير إن لم يحفز على العمل الصالح&#8221;) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب العدل، الإسلاميون والحكم،التائبون الحافظون، ص 170[/ref] . &#8220;كانت التوبة في عصور الفتنة بعد الخلافة الراشدة الأولى عبارة عن التوبة من الذنب والمعصية، والتائب في مأمن وعافية، لا هم له إلا صراعهُ الداخلي ووخز ضميره ومعاملته مع الله، يُؤَرِّقُه هم الآخرة. في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت التوبة من الشرك والمعاصي هَمّاً مزدوجا، لأن الجهاد وواجبه وضروراته وحضور الموت واحتماله في كل خروج في سبيل الله تُكَوِّن ظروفا يلتحم فيها مصير الفرد بمصير الجماعة، ويتميز فيها المنافقون من الصادقين&#8221;) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، الإحسان، التوبة واليقظة، ج1،ص 119[/ref] .
<h2>التوبة الانقلابية</h2>
&#8220;توبة انقلابية لا التوبة الجزئية الآنية الطارئة من ذنب يقترف ومعصية تؤتى. هذه لازمة مواكبة لحياة المومنين والمومنات : يُخْطِئُون ويأثمون، فيستغفرون الله فيغفر لهم، إنه غفور رحيم. هو الغفور الرحيم سبحانه.)أما التوبة الانقلابية التي يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله عنها: &#8220;التوبة قلب دولة&#8221;، فهي تلك التي تنقل المومن من عالم إلى عالم، من عالم الغفلة عن الله، وعن نفسه الهائمة، وعن مصيره الأخروي إلى عالم اليقظة والتهمم بلقاء الله عز وجل.)تنقله من معاصي المخالفات واللامبالاة إلى الطاعة والعمل الصالح. تنقله من لعنة الاستخفاف لدين الله، والعدوان على دين الله إلى المشاركة المهمومة في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.)وإذا هو عضو في النسيج الحي، وإذا هو تشع العافية القلبية من حواليه، وإذا هو يسترخص الحياة ويقدم على الشدائد، ويعشق الموت في سبيل الله لينال الشهادة&#8221;.) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، التوبة الانقلابية، ص100[/ref]
<h2>التوبة العمرية</h2>
قبل 37 سنة أرسل الأستاذ عبد السلام ياسين نصيحته الشهيرة إلى الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، &#8220;الإسلام أو الطوفان&#8221;)، يحدثه فيما يحدثه فيها عن التوبة، ويسأله عن حقيقة توبته بعد أن نجاه الله من الانقلاب، هل كف الملك عن لهوه في مجالس الليل مع مهرجي القصر؟ وهل كف عن احتجان الأموال وتضييع الأمة؟ أم هل نبذ أحلافه القديمة؟ ثم ماذا فعل الحسن في إقباله هذا من دنيا الأحلام الذهبية إلى حقائق الخوف ثم الجزع والرعب؟ ودعاه إلى التوبة قائلا: &#8220;تب إلى الله من تألهك وشركك لأنك جعلت شعار جيش المسلمين ثالوثا تشرك نفسك فيه وتؤلهها. وإن تثليت النصارى حين ينادون &#8220;الأب والابن وروح القدس&#8221; لشرك أهون خطراً من شركك حين تفرض على المسلمين أن ينادوا &#8220;الله والوطن والملك&#8221;. ومن الشعار تتولد طقوس الكفر التي تحشد لإقامتها كل قوتك. (,,,))تب إلى الله إذ جعلت نفسك له نداً ونسبت لنفسك عرشاً، وتب إلى الله إذ بنيت على أبيك رحمه الله وغفر لنا وله قصراً بملايير كانت كافية لبناء سكن لثلاثين ألف أسرة. إنك لا تزال تنفخ في أبواقك لإحياء مجد آبائك، وهم والله رهن أعمالهم، لا تغني عنهم قصورك وقصورهم وأبواقك ونفخك من غضب الله شيئاً&#8221;) [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، الإسلام أو الطوفان، الفصل الأول[/ref] . ثم عرض عليه رحمه الله توبة عمرية فقال: &#8220;إني يا حبيبي يا حفيد رسول الله يبلغ بي حسن الظن بك أن أقترح عليك نموذجاً سلوكياً فريداً في تاريخ الإسلام؛ إني أنتظر منك أن تسمو بك الهمة إلى صف الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله&#8221;) [ref]نفسه[/ref] &#8220;أفمن كسرويتك وطغيانك وتيهك على الله وعلى المسلمين تعود لنا عمر بن عبد العزيز؟)نشأ عمر بن عبد العزيز أميراً مترفاً في قصور بني أمية مع الذين يرقصون ويتجردون وينقلبون ويبيتون سكارى ليصبحوا مخمورين. نشأ في ظل دولة تنكرت للإسلام واستعبدت المسلمين وسلطت عليهم طغاة فراعنة مثل الحجاج بن يوسف يجبون الأموال ويقتلون الرجال. شب عمر في القصور بين الجواري، وكان جميل الصورة فارهاً يتزين ويلبس الحلل بمئات الدنانير. وكان مشهوراً بمشيته الخيلاء العمرية كما كانوا يسمونها. وكان متكبراً كالأمويين بني أمية. ولا أحتاج أن أصف للملك سليل الملوك من أمور هذه النشأة الأميرية وما تتيحه من فرص العبث والمتعة، فهو أعلم بذلك مني.)وبعد أن عهد إليه سليمان بن عبد الملك الملك بعد وفاته، وقف عمر والناس على لهفة لما يقول، فبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم صلى على نبيه وقال: &#8220;أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم!&#8221;. ثم بايعه الناس.)وما لبث بعد ذلك أن خرج عمر بن عبد العزيز بعد المبايعة وجمع الناس في المسجد، وقد نبذ حُلله ووشيه ورد لبيت المال كل ما كان لديه حتى حُلِيَّ نسائه. فصعد المنبر فقال: &#8220;أيها الناس، إن هؤلاء (يعني من سبقه من الملوك) أعطونا عطايا ما كان لنا أن نأخذها، وما كان ينبغي لهم أن يعطوناها. وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب. وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي&#8221;). [ref]نفسه[/ref]
<h2>تغيير عميق</h2>
وبعد ما يربو على أكثر من ربع قرن من رسالة &#8220;الإسلام أو الطوفان&#8221; كتب الأستاذ عبد السلام ياسين &#8220;مذكرة إلى من يهمه الأمر&#8221;) للملك محمد السادس يقول فيها: &#8220;كنت اقترحت على الملك الراحل مثال رجل صالح، نجمة مضيئة في سماء التاريخ الإسلامي. إنه الرجل الذي تحدى منطق زمانه وعقلية زمانه وحزبه لكي يراجع النظام الذي ورثه، والأفكار والتقاليد التي كان قد تلقاها من سلالته وذويه. فعل ذلك فرسم لأحداث عصره مسارا جديدا. )عمر بن عبد العزيز إنه المثال الذي تقدمت به يوما ما بين يدي الملك الراحل &#8220;بسذاجة&#8221; فطرية، والذي أقترحه اليوم دون كثير تفاؤل أعترف بذلك- على ابنٍ فانٍ يوما ما لا محالة لأب قضى نحبه. لكن مثال عمر بن عبد العزيز رغم شهرته ليس فريدا في تاريخنا الحافل برجال عظام طبعوه بقوة، من أمثال يوسف بن تاشفين&#8221;). [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، مذكرة إلى من يهمه الأمر، تغيير عميق[/ref]
<h2>رد المظالم</h2>
&#8220;خلف الملك الراحل، عفا الله عنه، ثروة خيالية، تركة مسمومة لمحمد السادس وإخوته. فهل يستجيب الورثة المسلمون، حفدة النبي صلى الله عليه وسلم لداعي الحرص فيتمسك كل واحد منهم بحصته من الغنيمة التي نعرف كيف تم تجميعها ؟ )هل سيسائل الملك الشاب والأمراء والأميرات، هل يستطيعون مساءلة ضميرهم عن الهوة الهائلة القائمة بين شعب غارق في أوحال البؤس الأسود وبين ورثةٍ تهاطلت عليهم فجأة سيول من ذهب وفضة. )هل يمكن للخاطرة البريئة، خاطرة مقارنة وضعهم بوضع غيرهم، أن تتسلل إلى دهاليز النفسية المتمرغة في الديباج المترعرعة بين أسوار القفص الذهبي ؟ )هل يتواضع ضمير الأمراء المصنوعين على عين التربية الغربية فيلقي يوما ما نظرة على وضع الأغلبية الضاربة جذورها في تربة الحرمان والأمية واليأس ؟ )هل يقدر على إقناع نفسه بأن الوضع خطير، وبأن حاجة الأغلبية الصامتة لا يمكن أن يلبيها إلا تغيير جذري يستأصل شأفة التهميش الاجتماعي، والفقر المدقع، والركود الاقتصادي ؟ )صياغة معادلة الوضع المخزني، واستشراف المستقبل بجدية، لابد من الاستناد إلى معطيين اثنين 🙂&#8211; أولهما أن الدَّيْن الخارجي الضخم يجثم على ميزانية البلد، ويشل كل محاولة تصحيحية جادة، يُسنده في ذلك الغش الإداري والبطء البيروقراطي والفساد المالي&#8230; عاهة مغرب حكام الجبر ولعنة مغرب المستضعفين ! )&#8211; ثانيها أن الملك الشاب والأمراء و الأميرات شركاء في تركة الرجل الهالك، لكل منهم نصيب من الثروة القارونية التي خلفها. )فلنقرن المعطيين حتى تتبدى لنا بدهية الحل الجذري لمشكل الفقر الذي يقض مضجع المغاربة : أن تخصص هذه الثروة الهائلة لتسديد هذا الدَّيْن الثقيل ومحو كابوسه الرهيب. بذلك يرتقي الملك الجديد إلى مقام الأبطال. حينئذ يكون له موعد مع المجد لن يُخْلَفَه !&#8221;) [ref]نفسه[/ref]
<h2>العفو العام</h2>
&#8220;قال لِسان حال الفاضل الديمقراطي: كلنا مسلمون. فيكفي أن نتجرع غُصص وجودكم في الساحة! فلم تُجرِّعوننا إهانة لا تحتمل بدعوتكم إيانا إلى توبة! هل من لغة للتفاهم والحوار لا يعتبر فيها الفضلاء اللاييكيون كل كلمة خارجة عن قاموسهم غمزا ولمزا وإهانة! التوبة عندنا رحمة. التوبة رجوع صادق إلى الحق. التوبة طهارة. التوبة وضوء وصلاة وقرآن وطاعات وأعمال صالحات.دعونا الفضلاء الديمقراطيين دعوة واحدة عمّمناها لتشملنا وإيّاهم. دعوناهم لنتوب نحن وإياهم إلى الله تعالى. امتثالا لأمره العزيز وتَرْجيته الكريمة في قوله تعالى:)وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ref]سورة النور، الآية 31[/ref] .&#8221; [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، الشورى والديموقراطية،لغة الحوار،ص 104[/ref] إعلان التوبة اعتزاز وقوة، لا يطيق السائرون مع القطيع الذليل الخاضع للأوضاع المنحطة أن يتحملوا مشهده وخبره. إعلان التوبة استقلال. &#8220;في بلاد المسلمين فئات من أهل الكفاءات العملية، من أساتذة معلمين وقضاة ومحامين وأطباء ومهندسين وأدباء وصحفيين. ومن رجال المال والأعمال والإدارة والسياسة.)من هؤلاء مُحنّكون ذَوُو خبرة لا غِنى لنا عنهم البتةَ. ومنهم من كان بالأمس ضالعا، بحكم الانجراف والضرورة، في الرضى عن السوء والمشاركة السلبية فيه. فهل نبدأ تطبيق الشريعة بإقامة الحد على الشبهة والانتقام، أم نبدأ بفتح أبواب التوبة، لا تُقْصِي التوبة إلا رؤوس الفتنة ومُسَعِّريها؟)كنا في سياق الفتنة جميعا، فلندخل جميعا بالتوبة في سياق الصلاح، في سياق الشريعة&#8221;). [ref]الأستاذ عبد السلام ياسين، كتاب العدل، الإسلاميون والحكم، التائبون الحافظون، ص 167.[/ref]

قلب دولة

سلوك المؤمنة إلى الله

التزكية والدعوة

قلب دولة

أضف تعليقك (0 )

النشرة الإخبارية

مقالات الكاتب

حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي

عزة الإيمان

الولاية بين المؤمنين

قلب دولة

حديث الخلافة

خصائص المنهاج النبوي

مقالات ذات صلة