قال الله تعالى الرؤوف الرحيم يحذّرنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من مغبة نسيان الله والغفلة عن ذكره الـمُوَرثَـيْن لقسوة القلوب المعرضة لغضب الله ونقمته: ﴿وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
لست أقصد في هذه الفقرات التي أعرض فيها بعض فساد يهود وإفسادهم أن أُوغِرَ القلوب حقدا وأن أُذْكيَ حفيظة القارئ. بل أقصد التذكير بالله عز وجل وبالحق المنـزل الخالد في الحكم على بني إسرائيل، ليكون حكم الله فيهم وغضبه عليهم ولعنته إياهم دستورنا في التعامل معهم. نغضب عليهم لغضب الله عليهم ثم لعدوانهم علينا. يأتي في اعتبارنا حسبان السياسة واحتلال فلسطين ومذلات الهزائم في المرتبة الثانية، بعد اعتبار سنة الله وعناصرها الموحى بها مسبقا من كون اليهود جرثومة الفساد ومادته، كانوا كذلك، لن ينفكوا كذلك إلى يوم الفصل.
لن يكون لنا النفس الطويل، ولا الثقة بنصر الله، ولا القدرة على إعداد العدة في الأمد البعيد، إن لم نجعل جوهر القضية في وعينا وحركتنا مطابقا لتعليم القرآن في المسألة، مستنيرا بهديه، مسايرا له في تفسيره إلى أعماق النفس اليهودية الخبيثة، والقلب اليهودي الأشد قسوة من كل القلوب، وكفر يهود ونفاقهم ومكرهم وصدهم عن سبيل الله.
لما تنَصّلت النصارى من دينهم واتخذوا من المادية والتقدم المادي دينا اندمجنا معهم طوعا وكرها، اتبعناهم في طرائق تفكيرهم، وسلكنا مسالكهم في تحليل الواقع والحكم عليه، وفي النظر إلى المستقبل وما يتوقع منه. نسينا الله واتبعنا سنن النصارى الـمُؤْتمّين طيلة تاريخهم طوعا أو كرها بيهود الفاسقين، نسينا سنة الله في التاريخ وإرادته في الكون، فأنسانا الله أنفسنا حتى لا يكاد يعرف بعضنا من نحب، ولا يلتفت حتى علماؤنا إلى أن لنا خصوصيات، لا تستثنينا من القاعدة، لكن تفتح لنا آفاق الأمل وآفاق الحياة.
طمَرَ اليهود بتحريفهم وتسرّبهم وتزويرهم ما كان في يد النصارى من أثارة علم، ونشروا لاهوت الأرض، وعلموا دين المادية والجدلية والكراهية والصراعية. يفرزون الكفر وينجبون أحبار الكفر. هم قَدَّمُوا للغرب سادته في الفلسفة والطب والعلوم والاختراع. ماركس وفرويد وإينشتاين أسماء لامعة في الدنيا مرفوعة هائلة. ومن نسي الله منا يتبع التابعين، ويصفق للعبقريات الخالدة، ويسارع إلى النضال من أجل عصرنة الإسلام، بتراثية قومية، أو باشتراكية تقدمية، أو بلبرالية متجددة عائدة منتصرة، نفخ فيها روحَ الانتعاش أزمة الاقتصاد في العالم، والمديونية المخيفة تقرع بها أبناك اليهود رؤوس العالم الفقير، وردة الصين عن الشيوعية، وطلاق كرباتشوف للمذهبية الصارمة.
نذكر بالله وسنته في التاريخ، ونذكر بالجاهلية والفتنة، وبداء الأمم وفساد القلوب من طول الأمد ومخالطة المفسدين واتباع سُنَنِهم، ونذكر باليهود وبكونهم معدناً بشرياً تركزت فيه كل معاني الجاهلية، وكل أسباب الفتنة، فهم الحضنة المتخصصون لداء الأمم، هم المنتجون الرئيسيون له، وهم موزعوه بما خصهم الله عز وجل به من عنده وبما أجرموا ويجرمون. خصهم الحكيم العليم بخزي الدنيا والآخرة، وتأذن في كتابه العزيز، إعلانا صارما متلوا إلى يوم القيامة ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾1.
وأخبرنا كتابه المبين في أول سورة الإسراء بأن لبني إسرائيل مع عبادٍ له سبحانه جولتين يجوس في أولاهما العباد المنسوبون لحضرة الألوهية، المكرمون بتلك النسبة، ديار اليهود. وفي الجولة الآخرة يدخل العباد المصطفون الأخيار المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة، ويسوؤون وجوه بني إسرائيل، ويهينون ما يعظمه بنو إسرائيل. وأخبرنا الكتاب المبين في آخر نفس السورة وأولها أن من علامات الجولة الآخرة أن يجمع الله بني إسرائيل من شتاتهم في الأرض وأن يجيء بهم لفيفا لميقات يوم معلوم. وأن تكون ثمرات كرَّتِهم علينا ومقوماتها قدرتهم المالية حيث أمدهم الله بالأموال التي اكتسبوها بالربا وبمساعدة حلفائهم، وقدرتهم البشرية حيث أمدهم الله بالبنين من الطراز الأول تعوض نوعيتهم الممتازة ضآلة العدد النسبية، وقدرتهم السياسية والدعائية على حشد العالم ليكون معهم ضدنا. فهم أكثر نفيرا وصديقا وحليفا منا.
تاريخ نعيشه منقطعين عن القرآن مع أنَّ قليلا من التروي في القراءة ومن الاستدلال يشرح لنا بآيات الله ميلاد الحركة الصهيونية، واختيارها لفلسطين مهدا لدولتها المرجوة، ثم حلف إنكلترا لها ومساعدتها حتى تمكنت في الأرض، ثم أحداث الاستيطان، وكرة 1948 (هكذا أصبحنا نؤرخ بتاريخ النصارى تبعية منذ أصبحنا غثاء على هامش حضارتهم وتاريخهم)، و”نكسة” 1967، وما صحب ذلك وتلاه من هزائم العرب وتنازلاتهم.
تاريخ نعيشه دون أن نفقه له معنى غير معنى “الهجوم الإمبريالي” وكون دولة اليهود بيدقا في رقعة أمريكا. لو كان القرآن دليلنا وكنا أهل القرآن نتلو لفظه ونحمل أمانته ونحيى به لرأينا بنور الله إمساك اليهود بزمام القضية كلها، وتحكمهم في مصائر الشعوب، من خلف ستار الدولة العظمى والمتوسطة والصغيرة، بل من عُقْرِ دار المسلمين، لهم من بعض الحكام على المسلمين نصراء ونظراء ومعجبون.
يُعوِّم المتكلمون العرب المسألة تبعا للمتكلمين من أطراف الجاهلية وتقليدا غائبا عن الحق ناسيا لله، ويدخنونها بلغتهم المفتونة، فإذا هي “قضية الشرق الأوسط”، صراع جغرافي مصلحي بين شعبين وقوميتين كلتاهما تبحث عن سياسة تؤمن لها الإمداد السلاحي والدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي من الدول القوية، لتصل إلى حل مرض لطموحها العارم أو إلى حل يقنع من الغنيمة بالإياب إلى صلح “كامب دافيد”، أو إلى حل نهائي يوفر ماء وجه الحكام العرب ويضمد جراح الفلسطينيين المنكوبين المعطوبين المستضعفين في أرض لبنان ومخيمات الذل والهوان.
عندما ننظر من إزاء القرآن وبمنظار القرآن نبصر القضية في أبعادها الضاربة الأعماق في سنة الله، العميقة الجذر في قلوب بني آدم من جهة إيمانهم بالله وتصديقهم لرسله أو تكذيبهم. من إزاء القرآن لا ننسى الله ولا ينسينا الله أنفسنا. من إزاء القرآن لا يحجب عنا حقائق سنة الله وشروط نقمة الله وفتنة الناس ونصر الله طول الأمد، ولا تسلسل التاريخ الطويل، ولا تدهورنا وتخلفنا، ولا ضخامة الحضارة المادية العادية علينا المعتدية، ولا سيادة وِجهات النظر المادية، ولا الذهنية التقليدية الموروثة، ولا صخب المغربين من بني جلدتنا الدعاة على أبواب جهنم، ولا أي دخن طرأ على النفوس، واربدت منه القلوب، وتعشت منه العقول، وخنست منه الإرادات، وغُم فيه على الرجولة، وبَلِيَ منه الإيمان.
من إزاء القرآن نشرف على التاريخ وعيا، وبتطبيق القرآن عقيدة وعبادة وسلوكا وعملا على المقاصد وطلبا لها نستعيد أنفسنا من قبضة الفتنة التي أردانا فيها نسيان الله، وقساوة القلوب من عدم ذكر الله.
قال الله عز وجل: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾1.
قال المفسرون من القرون الماضية، ولم يكن أمام أعينهم ما نشاهده من باهر الحقائق: إن المقصود بالعباد الذين جاسوا خلال الديار هم بُخْتَنَصّر وجنوده، وقيل جالوت، وقيل جند من فارس، وقيل جند من بابل. وفسروا المرة الأولى التي أفسد فيها بنو إسرائيل في الأرض وعلوا علوا كبيرا هي حين قتلوا نبي الله أشعياء، وقيل حين حبسوا نبي الله أرْمياء، وقيل حين خالفوا أحكام التوراة.
قال المفسرون الأقدمون رضي الله عنهم عند قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾: إن الوعيد الإلهي قد تحقق في زمن محمد صلى الله عليه وسلم حيث عاد اليهود إلى الإفساد في الأرض فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقـاع وخيبر ما جرى من قتل وسبي وإجلاء، وضربت عليهم الجزية.
وهكذا نظر أسلافنا رحمهم الله ورضي الله عنهم إلى قضية بني إسرائيل وكأنها أمر انتهى ولم يعد لذكرهم موضوع بعد أن شُرِّدوا في الأرض وقُتِّلوا تقتيلا.
ونقرأ نحن رحمنا الله كما رحمهم هذه الصفحة من كتاب الله العزيز قراءة حية تنبض بالتوتر مع الأحداث الهائلة التي رفعت بني إسرائيل إلى عُلُو كبير. مكنهم ولا يزال يمكنهم من الإفساد في الأرض. علو وفساد ما كان لأسلافنا أن يتصوروه وهم كانوا أحد رجلين: إما مفسر مجتهد قابض على النص ناظر فيه ومن خلاله ثاوٍ في منصة العِزِّ أيّام كان للمسلمين الغلبة وكان اليهود تحت الذمة يرتعون في حماية الإسلام دون أن يشكلوا قوة تستحق، في نَظر المفسر الثاوي في زمانه، أن يخاطبها القرآن. أو كان المفسر مقلدا في عصور الرقاد والانحطاط فلا يجرؤ على تجاوز ما قاله السابقون، وماذا يقول، ولو كان هو الشوكاني المجتهد المطلق، ولا ذكر لليهود إلا بالقلة والذلة؟
نقابل نحن هذه الصفحة من آيات الله في القرآن بمرآة آيات الله في الأكوان. مصدر هذه وتلك واحد، أمر الله الكوني هو الواقع وهو حق، وإخباره بالغيب في كتابه حق. والخطأ في المقابلة يُعْزى إلينا. والله أعلم.
نقابل الصورتين على ضوء الآية التي وردت عقب سرد الأحداث: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾1. هداية القرآن وبشارته. ما هي “التي هي أقوم” بالنسبة إلينا ونحن نعيش كابوس علو اليهود وإفسادهم مهما كان تفسير الأولين والآخرين لما يقصده رب الخلق والأمر من الآيات؟ الجهاد لا شك، وإعداد القوة له بالنفَس الطويل حتى تتوحد الأمة عليه وبه.
ما هي بشارة القرآن في الموضوع، ولِـمَ زُفت البشارة للمؤمنين تحريضا لهم على عمل الصالحات إثْــرَ ذكر علو أعداء الله في الأرض وإفسادهم الكبير؟ ألِكي نتفرغ للصالحات الفردية من صلاة ونسُك ونترك لله ورسوله قتال الأعداء كما قال الأعداء لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾؟
أضف تعليقك (0 )