هذا السبب هو جفاف القلوب من الرحمَةِ، وهي الرحِمُ الجامعة. نجد هذا السبب مطروحا واضحا إن قرأنا آيات الله عز وجل في القرآن وآياته في الكون وسنته في التاريخ قراءة ثُنائية قدَرية شرعيَّةً. القراءة التاريخية تشتغل بالنـزاعات في عالم الأسباب لا تتفتح عين قلبها لتُميّزَ مراتِب الـمُدْرَكَـات من آيات الله في الكون يقابِلُها ويكشف أسرارها آياتُه سبحـانه الشرعية الأمرية المنـزّلَة على رسله عليهم السلام. وإذاً فلا يكون القرآن دليلَ عمل لمن يقرأ هكذا.
تجاوزنا من الكتاب الاستعراضي الخرافات التي تسكن الخيال لنتفرغ في هذه الفقرة للضغائن التي تسكن القلوب القاسية، والنوايا العنصرية التسلطية التي حاكت في الماضي مخططات الإفساد في الأرض ولا تزال تحيك. تجاوزنا “الشامير” تلك الحشرة الصغيرة التي تشق الصخر بمجرد النظرة، والوحش الضخم، “البهموت”، الذي يرعى كل يوم حشيش ألف جبل، ذلك الوحش الذي أخصاه الله ليمنع توالده حتى لا يفسد نسله الأرض كلها. وتجاوزنا أنثى “اللفْيَتَان” التي قتلها الله فأحاطت جثتها بالأرض.
ترتبط مشاعر المسلمين بفلسطين تلك الأرض التي بارك الله حولها، فجعل فيها المسجد الأقصى ليكون ذلك حافزا للمسلمين على إنقاذها مرة من الغزو الصليبي، وأخرى من الاستيطان اليهودي. وكل محاولة لعزل الشعب الفلسطيني عن التمسك بحقه، والدفاع عن مقدساته، والتعلق بدينه، إنما هي خيانة للقضية وتفريط فيها، ولا تغير الألفاظ المغلفة من الواقع شيئا.
خذَلَ الرأيُ العام العالمي مسلمي فلسطين، وطاح شعار “حقوق الإنسان” الذي لا ترتفع صيحاتُه إنْ تكلم اليهود. وخذَلهم إخوانهم المسلمون، عجزا لما هم تحته في مشارق الأرض ومغاربها من معاناة للحكم الجبري القومي اللايكي. فلا يدْرِي المسلم المتفَرِّج على مشاهد الخزي في شوارع القدس والخليل داهيَةَ موقفه وبؤسه حين يفرح وحين يصفق مع فرح الإعلام الرسمي وتصفيقه لبطولة أطفال فلسطين ونسائها المبْسوطين في المجزرة اليهودية، المعذبين في سجون اليهود.
ستظل إسرائيل الابتلاء مؤقتا، ريثما يدرك المليار ونصف المليار مسلم المتشرذمون هويتهم الحقيقية، لأن الابتلاء مفهوم مركزي في الإسلام يميز الله به الذين آمنوا من الكافرين. وعد الله جلي في كتاب الله، لكن تحقيقه رهين ببضعة شروط؛ بالإيمان، بالمؤهلات السياسية والاجتماعية، بالمقاومة والاستشهاد، وبالإعداد الطويل المتأنِي إلى أن يحل يوم “التداول”، فالنصر رهين بالاستحقاق !
ليست “قضية فلسطين” قضية محلية، بل هي قضية مصيرية. الآن أخذ العرب يدركون خطورة ما لا قِبل لهم به، واقترحوا تنازلاتهم للاعتراف بالكيان الصهيوني في “حدوده الآمنة”. والصهاينة اليهود والمهودون يحلمون بإسرائيل الكبرى، بإسرائيل ما بين النيل والفرات، بل بإسرائيل العالمية التي بشرت بها توراة اليهود.
ولا يزال اليهود يشهدون في كتبهم أن عهدهم الذهبي بعد ملك داود وسليمان عليهما السلام وقبل حضارة “الكبوتز” العسكرية والانتصارات على العرب وقيام دولة إسرائيل كان عهد الأندلس، ازدهرت تحت ظل المسلمين هناك وإذ ذاك حضارتهم وعلومهم وفلسفتهم.
شعب انكفأ على نفسه وذاق المرائر بما كسبت أيدي بنيه وبناته جزاء من الله الحكيم العليم قَدَراً، وانتقاما من الشعوب التي ابتزوا أموالها واستحَلوا حُرَمَها استنادا إلى مبدئهم العنصري العدواني: “ليس علينا في الأميين سبيل”.
فالقراءة القرآنية للتاريخ كفيلة بأن تحصر آلام الحاضر وهزائمه ونكساته في أبعادها النسبية. لأن “القضايا” و”المشاكل” التاريخية تتحدد حسب هذه الرؤية انطلاقا من ظرف شاسع معقد -كما يحلو لمفكري ما بعد الحداثة أن يصفوه- وانطلاقا أيضا من الزمن. لهذا لا يمكن للنشرات الخاطفة أو المقتطعات الانطباعية الموصولة بالمستعجلات السياسية أن تربطنا حقا بالتاريخ. حذارِ إذن أن تقطع الأحداث وأفعال البشر وضرورة التدافع صلتنا بالمطلق وبالموعود الرباني.
كانت أوربا في حاجة ماسة إلى حوض يستقبل ما فاض عنها من العنصر اليهودي، بالغ الذكاء، فائق النشاط، شديد المهارة في التجارة، العنصر المزعج الذي تنظم وألح على الدول/ الأمم الأوربية السالكة سبيل الديموقراطية أن تمنحه حقوقا وتملكه أرضا تطلع عليها الشمس. وما قضية دريفوس في فرنسا إلا مثال بين لظهور اليهود في الساحة واستغلال الإمكانيات التي استحدثها العصر لمكافحة الظلم والتأثير على الرأي العام بواسطة إعلام حر تسلل إليه المال اليهودي والنخبة المثقفة اليهودية.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
في هذه الفقرة نورد نصوصا تتضمن تصريحات منشورة (لا نثقل بذكر مراجعها) لزعماء الصهيونية ومفكريها صدرت بعد البروتوكولات بما لا يدع مجالا للتشكيك أن هنالك إرادة منسقة وجهودا متضافرة. وكفى من نتائج المخطط الجهنمي قيام دولة في فلسطين تتكفل أعظم دول العالم أمريكا بأمنها وغذائها وتسليحها وتدمج اقتصادها في اقتصادها. كفى نتيجة أن يكون الستة ملايين يهودي في أمريكا هم المسيطرين على أبناك نيويورك وشبكات الصحافة والتلفزة والإعلان في أرجاء البلاد.
للشجرة الملعونة جذور سارية في الأرض، ساكنة في أرجاء المعمور. وليس المشروع الصهيوني مطمحا بعيد المنال، ولا البروتوكولات برنامجا في الهواء، بل هناك واقع يهودي عالمي سماه فريق فورد من الباحثين دولة منذ سبعين سنة، وتلك الحكومة اليهودية العالمية ازدادت تمكنا وقوة وتزداد.
«صناعة الموت» إذا ضرورة تربوية تنظيمية، حب الشهادة في سبيل الله، وجعل الموت في سبيل الله أعز ما يطلب في ثقافتنا، في تعليمنا، في تربيتنا، في إعلامنا، في الهواء الذي نتنفسه، والغذاء الذي نطعمه، هو الروح الذي ينتظر أن يسري في الأمة لتنهض من كبوتها التاريخية، ولتستحق الحياة، ولتستعصي على الأعادي، ولتنتصر، ولتنال موعود الله بالخلافة في الأرض….
ومر القرن التاسع عشر بتاريخ النصارى، خطا فيه اليهود خطوات عملاقة خارج الأسوار والعزلة، وهاجروا بأعداد كبيرة إلى العالم الجديد حيث تلقاهم “التَّسامح” و”النية السليمة” التي نعرف الآن مغزاها ومعناها. تلقاهم البروتستـانت الذين رأوا على هامة كل يهودي تاج “مجد الاضطهـاد”. ورأوا في هجرة شعب “إسرائيل” الحقيقي إلى الأرض الجديدة بركة من السماء توذن بقرب المملكة التي ستسيطر على العالم.
تشتت اليهود إذن، ولجؤوا إلى إفريقيا الشمالية والمشرق الإسلامي، فِراراً من المذابح الجماعية الموسمية التي كانت تقام لهم في أوربا. وتوجهوا إلى حيث يمكنهم أن يتمتعوا بالأمن التام والحياة الهنيئة في مجتمعات الغرب والشرق الإسلاميين
مطلوباتٌ للأمةِ هذا شرطُ فلاحها ونجاحها وبقائها وعزتها. مطلوباتٌ لا سبيل إليها إلا بتحولات عميقة في عقلِ المسلمين والمسلمات، وفي الذهنيات، وفي العادات، وفي الهيكلة الاجتماعية، وفي أنظمةِ الحكم والتعليم والقضاءِ، والعَمَلِ، وقسمةِ الأرزاق، وإنتاجِ الأرزاق، والمنافسة في السوق العالمية على الأرزاق، والتحرُّرِ من التبعية لدهاقنة العالم وفراعنتِه وقاروناته.